الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنهم كانوا سبعين ألفا والله أعلم بعددهم، وعلى أي حال كانوا عددا غير قليل، أفرد لأن المقصود وصف ساحر؛ ولأن التدبير لَا يمكن أن يكون من الجميع، إنما هو من واحد وأقره الجميع عليه، ونُكر لأنه واحد من جمعهم لَا يهم معرفة شخصه، وعبر سبحانه بـ (كيْذ سَاحِرٍ)؛ لأنه تدبيره فهو ليس قلبا للحقائق، فلم يقلب الجامد إلى حي يسعى، وإنما خُيل للأعين فقط، فهو تدبير ماكر، يكيد للحق، وليس قلبا للحقائق قط.
وقال تعالى: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) كان التعريف بـ " ال " التي للجنس، ويكون المعنى ولا يفلح من كانا عمله السحر في أي مكان أتى، فكلمة (حَيْث أَتَى) حيث: ظرف مكان، أي من إى مكان أتى، وإلى أي مكان سار، فهو لا فوز له أبدا، ولكن ضلال وتمويه، وتخيل للأعين واسترهاب للنفوس.
عندما استعان فرعون بالسحر والسحرة استعان بهم ليغلبوا، ولكنهم كانوا المميزين بين السحر والمعجزة فأدركوا أن عصا موسى ليست من السحر، ولكنها معجزة الله تعالى أعطاها موسى فآمنوا، قال تعالى:
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى
(70)
يقول الزمخشري في عبرة هذه الوقائع: " سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم، ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين " اهـ. ونقول: ما أعظم الفرق بين الباطل والحق. وبين الاستجابة للباطل واستجابة للحق جل جلاله.
" الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وكان ما قبلها هو إلقاء العصا ولقفها كل ما ألقوا وكان شيئًا كثيرا إذ امتلأ المكان بالحبال والعصي التي تسعى، حتى كأنَّ الوادي صار أفاعي وحيات في نظر الرائي، فكان عجبا أن تبتلعها عصا يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، فكان الإيمان بالمعجزة، وهم أهل الخبرة في معرفة ما هو سحر وما ليس بسحر فآمنوا بالمعجزة وخروا ساجدين.
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا)(سُجَّدًا) جمع ساجد، كـ " صُوَّم " جمع صائم، وقوله:(فَأُلْقِيَ) بالبناء للمجهول للإشارة إلى أنهم ألقوا سجدا لوضوح الحق
وظهوره، (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَموسَى) آمنوا بالله واكتفوا من التعريف بأن يكون
رب هذين الصادقين، وخبر الصادق صادق.
* * *
فرعون والسحن بعد إيمانهم
(قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
* * *
أحس فرعون بأن الأرض تميد من تحت أقدامه فلبس الجلد الفرعوني، وأخذ يهدد وينذر وينفذ ما قام به من شر؛ لأنه رأى بوادر المخالفة لأمره والمنازعة لرأيه، ولذلك بطش، وانتقل من الاستدراج إليه إلى القهر، وعاد إلى الطغيان.
(قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ) أي أسلمتم له وأذعنتم له، ويتضمن معنى المسايرة لموسى والمعاندة له، يقال ءامنتم له وءامنتم به، " وتتضمن التعدية باللام التسليم له والإذعان له، وتتضمن التعدية بالباء الإيمان بالحق الذي جاء به، وقد جاءت التعديات في هذا المقام، فهنا التعدية باللام، وفي سورة الأعراف كانت التعدية بالباء فقد قال تعالى:
(قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ).
وفى هذا الاستفهام إنكار للواقع، فهو ينكر إيمانهم الذي وقع، ويوبخهم عليه، وموضع التوبيخ أنهم آمنوا قبل أن يأذن لهم وهو بذلك يصل بهم إلى أعلى درجات العنت والطغيان، فهو يعلن بهذا أن حكمه يصل إلى فكرهم وقلوبهم، ويحقق فيهم قوله (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
كان فرعون على رأس طريق أخذ يسلكه السحرة، فلم يقل الحق ويذعن، ويسلك سبيل الرشاد، بل أخذ يموِّه الحق بتمويه من الباطل، فرآهم تبعوا موسى فما أذعن للحق الذي تقاضى مع موسى فيه، بل أخذ يماري، ولا يقول إنه غلبهم، لأنه على الحق، بل لأنه أكبر منهم قدرة وطاقة، وأنه منهم بمنزلة المعلم الذي علمهم، فقال:(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكمُ السِّحْرَ)، فهو أسحر منهم وأعلم، وهم منه بمنزلة التلميذ من المعلم، فلم يغلبهم لأنه المحق وهم المبطلون، وإنما غلبهم لأنه أسحر منهم وأعلم، وهكذا كانت المعاندة لآيات الله وقد برزت.
ولأنهم على رأس طريق جديد وهو الخروج على طاعته ومقاومة جبروته، والاستعلاء بربهم على طغيانه - وضع العقبات وأنزل بهم العذاب الشديد، فقال:(فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ)" الفاء " للسببية، أي بسب ما فعلتم لَأُقَطِّعَنَّ أيديكم.
في هذا الكلام قسم بما يُقسم به عنده، و " اللام " لام القسم، ولذا كانت " نون " التوكيد الثقيلة، التي تلازم القسم في اللغة، والتقطيع للأيدي والأرجل بصيغة التفعيل يدل على كثرة القطع، لكثرة من قطعمت أيديهم وأرجلهم، وقوله (مِّنْ خِلافٍ) أي تختلف جهة القطع، فإذا قطعت اليد اليمنى، تقطع الرجل اليسرى،