الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتشبيه الثاني هو أن من يشرك باللَّه فكأنما خر من السماء، وصار كالريشة في مهب ريح الشك والأوهام فيركب من ريح هوجاء ألقته في مكان سحيق عن الحق، والهداية، بل صار ينتقل من ضلال إلى ضلال لَا إرادة له.
والسَّحق التفتيت، والمكان السحيق، أي البعيد يلقى إليه مع بعده فتاتا مقطع الفكر موزع الأهواء، ولا فكر يسير ولا عقل يرشد، وقد قبسنا الكلام في هذين التشبيهين مع التوضيح والتوجيه من كلام الزمخشري، فقد قال:" ويجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركَّب والمفرق فإن كان تشبيها مركبا قال من أشرك باللَّه فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفته الطير فصيرته مزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك باللَّه بالساقط من السماء، وشبه الأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به المهاوي المتلفة " اهـ.
ونرى أنه جعله تشبيها واحدا مركبا ومفرقا، ونرى أنه تشبيهان مفرقين أو مركبين، وإن هذا التصوير كما ذكرنا، وكما ذكر الزمخشري هو على ذلك في الدنيا، لبيان هلاك المشرك، وتخطف الأهواء لمداركه ويبين فساد عقله وضلاله، وإنه لَا يكون بالنسبة للدين إلا في حيرة تسيره الأوهام ولا سلطان له على نفسه، وقد قال بعض المفسرين: إن تحقق هذه الحال المبينة بالتشبيه، إنما هي في الآخرة لا في الدنيا. وإننا نرى أن الجميع ممكن بأن تكون هذه حاله في الدنيا والآخرة، وإنه في الدنيا يتردى إلى ضلال الأوهام والأهواء من سماء الإيمان، وفي الآخرة يتردى إلى العذاب الأليم الذي يكون فيه خالدا.
(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ
(32)
الإشارة إلى الحج، والفاصل كان متعلقا بالحج، فقد كان فيه الأمر باجتناب رجس الأوثان، والكذب على اللَّه بقول الزور والأمر بأن تكون الذبيحة للَّه، وأن
يكون البعد عن الإشراك، وكل هذا إن لم يكن من الحج ليس بعيدًا عنه؛ ولذا كان الاعتراض بما هو تتميم للحج، فالمعنى ذلك الحج بما فيه من حرمات، وإذا كانت حرمات اللَّه تعالى يجب أن تكون مصونة غير معتدى عليها، فكذلك شعائر اللَّه تعالى يجب أن تكون مصونة معظمة، وشعائر اللَّه تعالى جمع شعيرة، وهي الأنعام التي وضعت عليها علامة على أنها خصصت للبيت الحرام تذبح فيه؛ ولذا صحت نسبتها إلى اللَّه تعالى أو إضافتها إليه عز وجل، وجاء في مفردات الراغب الأصفهاني:" ويقال: شعائر الحج الواحد شعيرة. . . أي ما يهدَى إلى بيت اللَّه تعالى، وسمى بذلك؛ لأنها تشعر أي تعلم بأن تدمى بشعيرة أو حديدة يشعر بها "، وكانت واجبة التعظيم، لَا لذات البهيمة، بل لأنها لبيت اللَّه تعالى، ولأنها دليل الاتجاه إلى العطاء الكريم في بيت اللَّه، ولأنها تكون لفقراء مكة الذين يكون إطعامهم استجابة لدعاء إبراهيم، وتعظيمها ألا تمس بسوء، وألا يعتدى عليها، وأن يحافظ عليها وعلى الشعار الذي أشعرت به، وأن تختار من خير صنفها في عظامه وسنامه، وسمنه، وأن يكون لها أكل طيب بالنسبة لها. ويقول تعالى:
(فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، الضمير في (فَإِنَّهَا) يعود إلى الشعائر، و " الفاء "
واقعة في جواب الشرط، وهو قوله تعالى:(وَمَن يعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ) وكانت الشعائر من تقوى القلوب لأن تخصيصها لفقراء الحرم، والاتجاه بها في العبادة مظهر حسِّي يدل على تقوى القلوب، وهي بمقصدها وغايتها نابعة من التقوى، وهي استشعار خشية اللَّه تعالى والشعور بضيافته، ويلتقي بالناس متساويا معهم فقيرا وغنيا، ومعينا لفقيرهم، ومكرما لضيوف الرحمن من الحجيج، وأضيفت التقوى إلى القلوب، لأن القلب هو مكان التقوى، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" التقوى هاهنا "، وأشار إلى قلبه الكريم (1).
(1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» .
رواه مسلم (6493). وقد سبق تخريجه.