الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا).
(الْكَهْفِ) مكان متسع في الجبل، و (الرَّقِيمِ) اسم للجبل، أو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم، أو واد بالجبل، وأيا ما كان فهو تعريف بمكان كهفهم بجبله أو بواديه أو رصاص كتبت أسماؤهم عليه.
و (أَمْ) للاستفهام مع الإضراب لمن عجبته، وأنها ليست أكثر من عجائب الوجود والخلق بإرادة اللَّه، فليس بقاء أجسام إنسانية حية أمدا طويلا، كما أنه ليس وجودهم راقدين أكثر من ثلاثمائة سنة أمرا عجبا في ذاته من خلق السماوات والأرض وما فيها، أو من خلق الإنسان من طين، أو من أدوار خلق الإنسان من نطفة من ماء إلى علقة إلى مضغة، ليس بقاؤهم أحياء رقودا أعجب من هذا الخلق العظيم.
والاستفهام مقصود منه التنبيه وتوجيه الأنظار أولا إلى أن هذا كان عجابا، أي أحسبتم أن أصحاب الكهف والمقام الذي كان كهفهم على مقربة عجبا من آيات اللَّه، إنها ليست بعجب من آيات اللَّه تزيد على آياته في خلقه، إن كل خلق اللَّه تعالى آيات لأولي الألباب، وإذا كان في أهل الكهف شيء فهو في دلالته على قدرة اللَّه تعالى في الإحياء والرقود، وهو دال على البعث بعد الموت؛ لأنه إذا كان قادرا على الإبقاء فهو قادر على الإعادة، وإذا كان قادرا على الإنشاء والإبقاء فهو قادر على الإعادة.
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
(10)
عرفهم القرآن الكريم بأوصافهم، وأول وصف من هذه الأوصاف أنهم فتية جمع فتى، أي أنهم شبان في باكورة أعمارهم، نفوسهم غضة لم ترهقها الأوهام، ولا العادات والتقاليد، وموروثات الآباء العتيقة التي عششت في رءوس من قبلهم، بل إنهم على الفطرة السليمة، والشباب دائما أسرع الناس إلى الحق إن لم يكن في توجيههم ما يعوق عنه أو يسد الحجاب دونه، وقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير: الشباب هم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا
وانغمسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين للَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم شبابا، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل.
هذا هو الوصف الأول الذي وصف اللَّه به أهل الكهف، أما الوصف الثاني، وهي نتيجة لسلام الطوية أنهم اتجهوا إلى اللَّه تعالى بقلب محسّ بقدرة اللَّه ومعجزته، وبأنه سبحانه وتعالى المنعم الهادي دون غيره فقالوا:(رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) نادوا ربهم قائلين، (رَبَّنَا)، أي الذي خلقتنا وكونتنا وطهرت قلوبنا، وخلصت نفوسنا من الشرك وأوهامه، (آتِنَا مِن لَّدُنكَ)، من حضرتك القدسية، وخزائنك التي لَا تنفد، (رَحْمَةً) وإنعاما وتوفيقا، وسلوكا مستقيما، ودواما للتوفيق. ورحمة اللَّه وسعت كل شيء وهي تعم كل حياة الإنسان، والدعوة الثانية المنبعثة من إيمان عميق موجه، وإذعان صادق يملأ القلب نورا، (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)، أي الأمر الذي اخترناه لأنفسنا من الإيمان في وسط الوثنية، والرشد هو إدراك الأمور إدراكا مستقيما لَا عوج فيه، وهذا الطريق المستقيم يقتضي تجنب الشرك وطلب الحق، والابتعاد عن كل مهاوي الرذيلة، والاتجاه إلى طريق الفضيلة ومحاسن الأخلاق، وألا يكون شطط ولا إفراط، ولا تفريط، إلا أن يدفع إلى ذلك الحق وتجنب الهوى.
يظهر أن أولئك الفتية طوردوا حتى أووا إلى الكهف، فالإيواء لَا يكون إلا عن منازعة يحسون فيها بأنهم لَا قِبَل لهم بمن يريدون أن يفتنوهم عن دينهم، وقد كان ذلك واقعا في عهد اضطهاد النصارى، كما أشرنا وكما بينا في غير هذا الكتاب (1).
وإن النوم يكون فيه سكون النفس، ولقد أنامهم اللَّه سنين عددا لينجوا بدينهم، وليكونوا حجة حسية على البعث، وليكونوا من آيات اللَّه تعالى في الوجود.
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
(1) راجع كتاب محاضرات في النصرانية للإمام محمد أبو زهرة.
كان الإيواء إلى الكهف فرارا من أذى المشركين، ولهم في ذلك الوقت القوة والسلطان، والعذاب مسلط على رقاب المؤمنين، وخصوصا القلة الشابة منهم، ولكن النجاة قد وفرها اللَّه تعالى لهم فأبعدهم عن الأحياء المشركين - وإن كانوا أحياء - ولتتم لهم الطهارة التامة، وتتم بهم الحجة الكاملة، وهو صنيع اللَّه تعالى، فقال:
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا).
(الفاء) لعطف ما بعدها على ما قبلها من غير تراخ، فهم أووا إلى الكهف فضرب اللَّه على آذانهم وقد عرَّف اللَّه الفتية فقال:(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) وتعريفهم لأنهم معهودون في الذكر في قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا).
والضرب على الآذان مجاز، فإنه يقال ضرب الحجاب إذا أغلق البيت، ويقال بنى الخباء إذا سده، فكنى بقوله تعالى:(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ)، أي سددنا هذه الاذان بحجاب وضربنا عليه ضربا محكما لكيلا يصل إلى داخلها أي صوت ينبههم من رقادهم، ويصح أن يقال شبهت حالهم في عدم السماع لأي صوت مع حياتهم بمن سدت آذانهم بحجاب قد ضرب عليها، فلا يصل إليها صوت مهما يكن عاليا أو مزعجا، فهم أحياء لَا يحسون بالأحياء، وقوله تعالى:(فِي الْكَهْفِ) فيه إشارة إلى أن في الكهف ذاته يصعب عليهم فيه الإحساس بما عند الأحياء من عذاب وإيلام، وقد استمر ذلك أمدا طويلا، ليس يوما ولا شهرا، ولا سنة بل سنين عدة، ولذا قال تعالى:(سِنِينَ عَدَدًا) فجعل العدد وصفا للمعدود، أي سنين كثيرة بالنسبة لنا، أما بالنسبة للَّه تعالى فهي ليست شيئا مذكورا، ويقول الزمخشري ومن تبعه: إن معنى (عَدَدًا)، أي ذوات عدد، أي أنها تعد بالسنين عدا، وقد قالوا إنه إذا قلَّ العدد لَا تحتاج إلى عد، لأن الأصابع تحصيها، أما إذا كثر العدد، فإنه يحتاج إلى العد والحساب بعد هذه السنين الطوال التي لَا تحصى إلا بالعد والحساب أيقظهم اللَّه من رقادهم فقال تعالى:
(ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
العطف بـ) (ثُمَّ) في موضعه، لأن الزمن تطاول بين دخولهم الكهف وضرب اللَّه تعالى على آذانهم فقد كانت سنين كثيرة لَا تعرف إلا بالعد والإحصاء، وسمى اللَّه تعالى سماعهم بعد أن ضرب على آذانهم بعثا، مع أنه ليس إلا أن يسمعوا بعد أن لم يسمعوا من غير أن يفقدوا حاسة السمع، ولكن كان هناك حجاب يمنع من السماع بإرادة اللَّه تعالى، وسمي ذلك بعثا؛ لأنه مظهر الحياة بعد أن اختفت، فمع أنهم أحياء واستمروا أحياء طول هذه المدة، وقد يقال في اللغة: بعثه، إذا أيقظه من نومه، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته لأهله وعشيرته:" والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون "(1)، فبين البعث واليقظة بعد النوم مشابهة تجعل أحدهما كالآخر، وخصوصا أن البعث هنا مع بقاء الحياة، وإنما الذي غيَّب الكلام والسماع هو الرقاد.
وإنهم عندما استيقظوا بعد طول الرقاد، اختلفوا على فريقين ففريق منهم قال:(لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، وقالت كثرتهم:(رَبُّكُمْ أعْلَمُ بِمَا لَبِثتُمْ)، سمى اللَّه تعالى الفريقين حزبين، لأن الحزب ما ينحاز إلى أمر معين من دين أو حرب أو نصرة، وحزب اللَّه في دينه هم المفلحون، كما قال تعالى:(. . . أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
كانوا في رقادهم لَا يشعرون كم أمضوا من الوقت فقسم حدد وعيَّن، وقسم أكثر أربا، وأشد تفويضا لم يهتموا، فاللَّه تعالى بين أن البعث سيعرفهم الحقيقة، لأنهم يختبرون بالحياة، ويعلمون في أي زمن يعيشون وفي عهد أي حاكم يكونون بعد هذا الرقاد، ولذا قال تعالى:(لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) إن اللَّه تعالى يعلم كل شيء يعلم ما كان وما يكون وما هو كائن، فاللَّه تعالى لَا يعلم جديدا، ولكن المراد أن يظهر ما يعلمه اللَّه تعالى واقعا يعلمونه، فمعنى (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ)، أي ليظهر علم اللَّه تعالى واقعا محسوسًا يعلمه الناس، بعد أن كانوا يظنون ويحدسون.
(1) سبق تخريجه.