الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صوتها. ثم قال الله تعالى: (فَأخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى) انتقال من الغيبة إلى المتكلم، ويحتمل أن يكون ضمير المتكلم لموسى، وهو بعيد؛ لأنه ضمير جماعة، وليس ضمير مفرد ويحتمل أن يكون لله تعالى وهو الواضح؛ لأن الله تعالى هو الذي يخرج النبات، وإن كان الزارع هو الذي يحرث، ويلقي البذور بعد الحرث، ويرجو الثمار من الربِّ، وكان الالتفات إلى المتكلم لأنه تحول القول من موسى إلى ربه الذي يتحدث عنه، والفعل ثابت له، فهو يخرج الحب والنوى وهو الذي أخرج كل شيء، وقوله تعالى:(فَأَخْرَجْنَا بهِ)، أي بالماء فهو الذي أمدها بالحياة، كما قال تعالى:(. . . وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلًّ شَيْءٍ حَيٍّ)، وقوله تعالى:(أَزْوَاجًا) يقول المفسرون: أي أصنافًا، وأرى أن أزواجا ليست من الازدواج بمعنى الأصناف، بل من الزوجية، أي أنه من كل نبات زوجان كما أن في الحيوان من كلٍّ روجين، ففي النبات زوجان ذكر وأنثى يجري التلاقح بينهما وإن كان ربما لَا نراه ولكن يجري بمقدار.
(مِن نَّباتٍ شَتَّى)، أي مختلف متنوع فهذا حب متراكب، وهذا في سنابل وهذا للإنسان وذاك للحيوان، وهذا نخيل باسق وهذا كروم، وهذه فاكهة ورمان، و (شَتَّى) جمع شتيت كمرضى جمع مريض، وهو على ما قلنا صفة للنبات.
بعد أن ذكر سبحانه أنه الذي أخرج كل شيء من الزرع في بلد الزرع، وأنه هو الذي أنزل الماء من السماء في بلد النيل، بعد ذلك ذكر نعمته المباشرة في هذا فقال عز من قائل:
(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى
(54)
وهذا التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطبين؛ لبيان النعم التي أنعم بها عليهم، إذ إن هذا النبات فيه طعام لكم ولأنعامكم " والأنعام " جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، لأنها نعم أنعم بها عليكم في ركوبها، وفي أكلها، وفي أخذ أنواع المنافع منها، من أصوافها، وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين.
وقوله: (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) الأمر فيها للإباحة لَا للوجوب، والأمر بالأكل للإنسان واضح ولا يكون إلا بعد الإعداد من طحين ونخل وعجن وخبز، وبعضها
يؤكل مباشرة كبعض الخضر، وقال بالنسبة للأنعام (وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) ولم يقل " لتأكل أنعامكم "، والجواب عن ذلك أن الماشية، لَا تخاطب، والنعمة ليست لها، إن النعمة لمالكها، ولذا جعل خطاب الإباحة موجها إليهم بقوله جلت عزته:(وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ)؛ لأن الرعي ذاته نعمة أنعم بها عليهم؛ إذ ربما تكون لهم أنعام ولا يجدون مرعاها، فلا يمكنهم أن ينتفعوا بها، ومعنى:(وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) مكنوها من الكلأ، والعشب الذي خلقه تعالى، ومعنى رعيها أن يقوم على شئونها، ويتتبع بها مواطن الماء والكلأ، وينتقل بها من مكان إلى مكان لسقيها وأكلها، فالمقصود الظاهر هو أكلها، وهو تعبير عن السبب وإرادة المسبب، أو الفعل وإرادة المآل، وذلك مجاز مرسل جائز في أساليب البيان.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لأُوْلِي النُّهَى) الإشارة إلى المذكور من آيات الله من خلق الأرض وجعلها ممهدة، وخط السبل فيها، وإنزال الماء من السماء إلى الأرض، وإخراج النبات أزواج في صنوف شتى متفرقة متعددة المنافع متنوعة الأجناس، إن في ذلك كله لآيات بينات تدل على قدرة الواحد الأحد، ولكن لَا يدركها إلا أولو النُّهى، أي أولو العقول، وسمي العقل " نُهية "؛ لأنه ينهى عن قبائح الأفعال، كما سمي العقل عقلا؛ لأنه يعقل النفوس عن الزلل والوقوع في الأخطاء والخطايا إن استعمل فيما خلقه الله تعالى له، ولم يشطط، ولم يفسد، وفي كل هذا كما أشرنا وحدانية الله؛ لأنه وحده الخالق الوهاب.
* * *
العناد والمواجهة بالآية
(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ
فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
* * *
استعلى فرعون على الخلق، واختبر الله به أهل مصر اختبارا شديدا حتى إنه فرض عليهم أن يجعلوه إلها فجعلوه، وفرض عليهم عبادة العجل فعبدوه، وأوجب عليهم أن يلغوا عقولهم في عقله، ورأيهم في رأيه، حتى إنه ليقول لهم مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ، فبين الله تعالى أنه من الأرض، ويعود إلى الأرض، ثم يكون الحساب الشديد على ما قدم من عمل، ولذا قال تعالى:
(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى).
فعظامه ولحمه نبت من تراب، فآدم أبوه، وأبو الخليقة خلق من طين، ثم كان غذاء ذريته من نبات الأرض الذي ينبت في الطين، ومن حيوان الأرض الذي يتغذى من نباتها، وهكذا كان لحمه، ولقد كان خطاب الله تعالى لفرعون الذي استكبر واستعلى ليخفف من غلوائه.
وما أن تنتهي حياته في الدنيا حتى يعود إلى الأرض التي نبت منها، وصوره الله من طينها، ولذا قال تعالى:(وَفِيهَا نُعِيدُكمْ) بأن تدفنوا فيها، وعبر سبحانه وتعالى بقوله:(وَفِيهَا نُعِيدُكمْ) فعدى بـ " في " دون " إلى "؛ للإشارة إلى أنه لم يخرج من محيط الأرض فمنها خلق وفيها يحيى فهو مستمر فيها حيًّا وميتًّا.