الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة تسع وستين وخمسمائة
فيها ثارت الفرنج لموت نور الدّين الملك العادل أبو القاسم محمود ابن زنكي ابن آق سنقر [1] . تملّك حلب بعد أبيه ثم أخذ دمشق فملكها عشرين سنة، وكان مولده في شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وكان أجلّ ملوك زمانه، وأعدلهم، وأدينهم، وأكثرهم جهادا، وأسعدهم في دنياه وآخرته، هزم الفرنج غير مرّة. وأخافهم وجرّعهم المرّ، وكان أولا متحكما لملوك السلاجقة، ثم استقلّ، وكان في الإسلام زيادة ببقائه. افتتح من بلاد الرّوم عدة حصون، ومن بلاد الفرنج ما يزيد على خمسين حصنا، وكان أسمر، طويلا، مليحا، تركي اللحية، نقي الخدّ، شديد المهابة، حسن التواضع، طاهر اللّسان، كامل العقل والرأي، سليما من التكبر، خائفا من الله. قلّ أن يوجد في الصلحاء مثله، فضلا عن الملوك. ختم الله له بالشهادة ونوله الحسنى إن شاء وزيادة، وخطب له في الدّنيا، وأزال الأذان ب (حيّ على خير العمل) وبنى المدارس وسور دمشق، وأسقط ما كان يؤخذ من جميع المكوس، وبنى المكاتب للأيتام ووقف عليها الأوقاف، وبنى الرّبط والبيمارستان، وأقطع العرب الإقطاعات لئلا يتعرضوا للحاج، وبنى الخانات [2] ، وكان حسن الخطّ، كثير المطالعة، مواظبا على الصلوات
[1] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 184- 188) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 531- 539) .
[2]
في «ط» : «الخانات والرّبط» وقد تقدمت الإشارة إلى بنائه الرّبط قبل قليل كما ترى.
الخمس، كثير تلاوة القرآن، لم تسمع منه كلمة فحش، ذو عقل متين، يحب الصالحين ويزورهم في أماكنهم.
قال ابن الأثير [1] : طالعت تواريخ [2] الملوك المتقدّمين- قبل الإسلام وإلى يومنا هذا- فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين، وعمر بن عبد العزيز، ملكا أحسن سيرة منه، ولا أكثر تحريا للعدل والإنصاف. ثم ذكر زهده، وعدله، وفضله، وجهاده، واجتهاده، وكان لا يأكل، ولا يشرب، ولا يتصرف في شيء يخصه إلّا من ملك اشتراه من سهمه من غنائم الكفّار، ولم يلبس حريرا قطّ ولا ذهبا ولا فضة، وكان كثير الصيام، وله أوراد في الليل والنهار [3] ، وكان يقدم أشغال المسلمين عليها، ثم يتمم، وكان يلعب بالكرة في ميدان دمشق، فجاء رجل فوقف بإزائه، فقال للحاجب: سله ما حاجته؟
فقال: لي مع نور الدّين حكومة، فرمى الصولجان من يده وجاء إلى مجلس القاضي كمال الدّين الشّهرزوري، وقال له: لا تنزعج، واسلك معي ما تسلكه مع آحاد الناس، فلما حضر سوى بينه وبين خصمه وتحاكما، فلم يثبت للرجل عليه حقّ، وكان يدعي ملكا [4] في يد نور الدّين، فقال نور الدّين للقاضي: هل ثبت له عليّ حقّ؟ قال: لا. قال: فاشهدوا أني قد وهبت الملك له، وقد كنت أعلم أنه لا حقّ له عندي، وإنما حضرت معه لئلا يقال عنّي أني طلبت إلى مجلس الشرع فأبيت.
وبنى دار العدل، وكان يجلس في كل أسبوع أربعة أيام، ويحضر عنده الفقهاء، ويأمر بإزالة الحجّاب والبوّاب حتّى يصل إليه الشيخ الكبير
[1] انظر «الكامل في التاريخ» (11/ 403) .
[2]
في «الكامل» : «سير» .
[3]
في «ط» : «في النهار والليل» .
[4]
يعني شيئا من أملاكه.
والضعيف، ويسأل الفقهاء عما أشكل، وإذا حضر الحرب شد تركشين [1] وحمل قوسين، وبنى جامعه بالموصل، وفوّض أمره إلى الشيخ عمر الملّا، وكان من الأخيار، وإنما قيل الملّا لأنه كان يملأ أتون الآجر ويتقوت بالأجرة، وليس عليه غير قميص ولا عمامة، ولا يملك شيئا، فقيل له: إن هذا لا يصح لمثل هذا العمل، فقال: إذا وليت بعض الأجناد لا يخلو من الظلم وهذا الشيخ لا يظلم، فإن ظلم كان الظلم عليه، فدفع إلى الشيخ ستين ألف دينار، وقيل: ثلاثمائة ألف دينار، فتم بناؤه في ثلاث سنين، فلما دخل نور الدّين إلى الموصل دخله وصلى فيه، ووقف عليه قرية، فدخل عليه الملّا وهو جالس على دجلة، وترك بين يديه دفاتر الخرج، وقال: يا مولانا أشتهي أن تنظر فيها، فقال نور الدّين: يا شيخ، نحن عملنا هذا لله تعالى، دع الحساب ليوم الحساب، ثم رمى الورق إلى دجلة.
ووقع في يده ملك من ملوك الفرنج، فبذل في نفسه مالا عظيما، فشاور الأمراء، فأشاروا ببقائه في الأسر خوفا من شرّه، فقال له نور الدّين أحضر المال، فأحضر ثلاثمائة ألف دينار، فأطلقه، فلما وصل إلى بلده مات.
وطلب الأمراء سهمهم، فقال: ما تستحقون شيئا لأنكم أشرتم بغير الفداء، وقد جمع الله تعالى بين الحسنيين الفداء وموت اللعين، فبنى بذلك الفداء المارستان الذي بدمشق، والمدرسة، ودار الحديث، ووقف عليها الأوقاف.
وذكر المطري [2] في كتابه «تاريخ المدينة» أن السلطان محمود رأى
[1] في «آ» و «ط» و «سير أعلام النبلاء» (20/ 531) : «تركاشين» وما أثبته من «الكامل في التاريخ» وهو الصواب. جاء في «معجم الألفاظ الفارسية المعربة» لادي شير ص (36) :
التّلكش تعريب «تركش» وهو الجعبة.
[2]
هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن خلف الخزرجي الأنصاري السعدي المدني المطري، المتوفى سنة (741) هـ، واسم كتابه الذي ألمح إليه المؤلف «التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة» . انظر «لحظ الألحاظ» ص (110) و «الأعلام» (5/ 325- 326) .
النّبيّ- صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة ثلاث مرات، وهو يقول له في كل واحدة منها:
«يا محمود أنقذني من هذين الشّخصين» لشخصين أشقرين تجاهه، فاستحضر وزيره قبل الصبح فأخبره، فقال له [1] : هذا أمر حدث في مدينة النّبيّ- صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك، فتجهز وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، حتّى دخل المدينة على غفلة، فلما زار طلب الناس عامة للصدقة، وقال: لا يبقى بالمدينة أحد إلّا جاء، فلم يبق إلّا رجلان مجاوران من أهل الأندلس، نازلان في الناحية التي قبلة حجرة النّبيّ- صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب التي تعرف اليوم بدار العشرة- رضي الله عنهم قالا: نحن في كفاية، فجدّ في طلبهما، حتّى جيء بهما، فلما رآهما قال للوزير: هما [2] هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما، فقالا لمجاورة النّبيّ- صلى الله عليه وسلم فكرر السؤال عليهما، حتّى أفضى إلى العقوبة، فأقرا أنهما من النصارى، وصلا لكي ينقلا النّبيّ- صلى الله عليه وسلم من هذه الحجرة الشريفة، ووجدهما قد حفرا نقبا تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي يجعلان التراب في بئر عندهما في البيت، فضرب أعناقهما عند الشباك الذي في شرقي حجرة النّبيّ- صلى الله عليه وسلم خارج المسجد، ثم أحرقا، وركب متوجها إلى الشام راجعا، فصاح به من كان نازلا خارج السور واستغاثوا وطلبوا أن يبني لهم سورا يحفظهم، فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم [3] ومثل هذا لا يجري إلّا على يد وليّ الله تعالى. توفي- رحمه الله تعالى- بعلة الخوانيق، وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيبا، فما روجع، ودفن في بيت كان يخلو فيه بقلعة دمشق، ثم نقل إلى مدرسته التي
[1] لفظة «له» لم ترد في «آ» .
[2]
لفظة «هما» سقطت من «آ» .
[3]
ولم يعد لذلك السور أثر الآن، وليت ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية يبادرون إلى إعادة بناء ذلك السور في مكانه الأول إحياء لذكر نور الدّين العظيم.
عند سوق الخواصين، وروي أن الدعاء عند قبره مستجاب [1] ويقال: إنه دفن معه ثلاث شعرات من شعرات [2] لحيته- صلى الله عليه وسلم فينبغي لمن زاره أن يقصد زيارة شيء منه- صلى الله عليه وسلم ولما مات كان عمره نيفا وخمسين سنة.
وقام بعده بالملك ولده الصالح إسماعيل، ولما استظهر السلطان صلاح الدّين بن أيوب على بلاد الشام كلها تركه في حلب حتّى توفي سنة سبع وسبعين، وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس لصلاحه أيضا.
وفيها النقيب أبو عبد الله [3] أحمد بن علي الحسيني [4] الأديب، نقيب الطالبين. روى عن أبي الحسين بن الطّيوري وجماعة، وتوفي في جمادى الأولى.
وفيها أبو إسحاق بن قرقول الحافظ إبراهيم بن يوسف الوهراني الحمزي- وحمزة اسم قريته [5]- سمع الكثير وعاش أربعا وستين سنة، وكان من أئمة أهل المغرب، فقيها، مناظرا، متفننا [6] حافظا للحديث، بصيرا بالرجال.
قال ابن ناصر الدّين: كان ثقة مأمونا.
وفيها الحافظ أبو العلاء العطّار الحسن بن أحمد الهمذاني [7]
[1] قلت: وذلك من مبالغات المتأخرين.
[2]
في «ط» : «من شعر» .
[3]
في «آ» : «عبد الله» وهو خطأ.
[4]
انظر «العبر» (4/ 205) .
[5]
في «آ» و «ط» «الجمري، وجمرة اسم قريته» وهو تصحيف، صوابه: الحمزي- نسبة إلى حمزة مدينة بالمغرب- وهو ما أثبته انظر «وفيات الأعيان» (1/ 62- 63) و «العبر» (4/ 205) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 520) و «الوافي بالوفيات» (6/ 171) و «معجم البلدان» (2/ 302) و «التبيان شرح بديعة البيان» (167/ آ) .
[6]
في «آ» : «متقنا» .
[7]
انظر «العبر» (4/ 206) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 324- 329) .
المقرئ الحنبلي، الأستاذ، شيخ همذان وقارئها وحافظها. رحل وحمل القراءات والحديث عن الحدّاد، وقرأ بواسط على القلانسي، وببغداد على جماعة، وسمع من ابن بيان وطبقته، وبخراسان من الفراوي وطبقته.
قال الحافظ عبد القادر الرّهاوي: شيخنا أبو العلاء، أشهر من أن يعرّف، بل يتعذّر وجود مثله في أعصار كثيرة، وأول سماعه الدّوني في سنة خمس وتسعين وأربعمائة، برع على حفّاظ زمانه في حفظ ما يتعلق بالحديث من الأنساب، والتواريخ، والأسماء، والكنى، والقصص، والسير، وله التصانيف في الحديث [والقراءات] والرقائق. وله في ذلك مجلدات كبيرة منها: كتاب «زاد المسافر» في الحديث والقراءات، خمسون مجلدا. قال:
وكان إماما في العربية سمعت أنّ من جملة ما حفظ في اللغة كتاب «الجمهرة» وخرج له تلامذة في العربية أئمة، منهم إنسان كان يحفظ كتاب «الغريبين» للهروي، ثم أخذ عبد القادر يصف مناقب أبي العلاء ودينه وكرمه وجلالته، وأنه أخرج جميع ما ورثه، وكان أبوه تاجرا وأنه سافر مرّات ماشيا يحمل كتبه على ظهره، ويبيت في المساجد، ويأكل خبز الدّخن [1] إلى أن نشر الله ذكره في الآفاق.
وقال ابن رجب: ولد بكرة يوم السبت رابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
وقال ابن السمعاني في حقه: حافظ متقن مقرئ فاضل، حسن السيرة، مرضي الطريقة، عزيز النّفس، سخيّ بما يملك، مكرم للغرباء، يعرف القراءات، والحديث، والأدب، معرفة حسنة. سمعت منه.
[1] جاء في «المعجم الوسيط» (دخن) : الدّخن: نبات عشبيّ من النجيليات، حبّه صغير أملس كحب السمسم، ينبت برّيّا ومزروعا.
وذكره ابن الجوزي في «طبقات الأصحاب» وذكر في آخر [1] كتابه «التلقيح» أن أبا العلاء كان هو محدّث عصره ومقرئه.
وكان لا يغشى السلاطين، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يمكّن أحدا أن يعمل في محلته منكرا ولا سماعا، وتوفي ليلة الخميس لسبع عشرة بقيت من جمادى الأولى ببغداد.
وفيها دهبل بن علي بن منصور بن إبراهيم بن عبد الله المعروف بابن كاره البغدادي الحريمي الخباز أبو الحسن [2] الحنبلي.
ولد سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وسمع من ابن البسري، وابن نبهان، وغيرهما.
قال الشيخ موفق الدّين [المقدسي] : كان فقيها من فقهاء أصحابنا، وكان شيخا صالحا.
وقال أبو المحاسن القرشي [3] : كان فقيها حسنا فاضلا زاهدا صادقا ثقة.
وذكر غيره أنه أضرّ بأخرة.
وقال ابن رجب: روى عنه ابن الأخضر وجماعة، وتوفي ليلة الثلاثاء لليلتين خلتا من المحرم، ودفن بمقبرة باب حرب.
وفيها أبو محمد بن الدهّان سعيد بن المبارك البغدادي النحوي، ناصح الدّين [4] ، صاحب التصانيف الكثيرة. ألّف شرحا ل «الإيضاح» في ثلاث
[1] لفظة «آخر» سقطت من «آ» .
[2]
انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 329) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 46) .
[3]
في «آ» و «ط» : «العرسي» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[4]
انظر «إنباه الرواة» (2/ 47- 51) و «العبر» (4/ 207) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 581- 582) .
وأربعين مجلدة [1] ، وسكن الموصل، وأضرّ بأخرة، وكان سيبويه زمانه.
تصدّر للاشتغال [2] خمسين سنة [وعاش بضعا وسبعين سنة][3] .
وفيها أبو محمد عبد الصمد بن بديل بن الخليل الجيلي [4] المقرئ الحنبلي.
قال ابن القطيعي: قدم بغداد، ونزل باب الأزج، وقرئ عليه القرآن بالروايات الكثيرة، ورواها عن أبي العلاء الهمذاني [5] وكان عالما ثقة ثبتا فقيها مفتيا، وكان اشتغاله بالفقه على والدي رحمه الله. وناظر، ودرّس، وأفتى، وكتب إليّ وأنا مسافر كتابا ذكر لي فيه ما أحببت ذكره لبركته: الله الله، كن مقبلا مديما على شؤونك مشتغلا، بما أنت بصدده، ولا تكن مضيعا أنفاسا معدودة وأعمارا محسوبة، واجعل ما لا يعنيك دبر أذنك، وأغمض عينيك [6] عما ليس من حظها، واطلب من ريحانه ما حلّ لك، ودع ما حرّم عليك، وبذلك تغلب شيطانك [7] ، وتحوز مطالبك، والسلام.
توفي- رحمه الله سنة تسع وستين [8] وخمسمائة، ودفن بمقبرة أحمد بالقرب من بشر الحافي، رضي الله عنهما. انتهى.
وقال ابن النجار: صحب القاضي أبا يعلى، وتفقّه عليه، وكان خصيصا
[1] قلت: وشرح أيضا كتاب «اللّمع» لابن جنّي في مجلدين، قال ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (2/ 382) : ولم أر مثله مع كثرة شروح هذا الكتاب.
[2]
في «آ» و «ط» : «للاشتغال» وأثبت لفظ «العبر» مصدر المؤلف.
[3]
ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «العبر» .
[4]
انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 329- 330) .
[5]
تصحفت في «آ» و «ط» و «ذيل طبقات الحنابلة» إلى «الهمداني» والتصحيح من ترجمته في «معرفة القراء الكبار» (2/ 542) .
[6]
في «آ» و «ط» : «عينك» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[7]
تحرفت في «آ» إلى «سليمانك» .
[8]
تحرفت في «آ» إلى «وخمسين» .
به، وأنه توفي يوم السبت سلخ ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.
وفيها أبو بكر عبد الرحمن المقرئ بن الأسعد الغيّاثي [1] الفقيه الحنبلي، ويعرف بالأعزّ البغدادي.
كان في ابتداء أمره يغنّي، وله صوت حسن، ثم تاب وحسنت توبته.
وقرأ القرآن في زمن يسير، وتعلّم الخطّ في أيام قلائل، وحفظ كتاب الخرقي وأتقنه، وقرأ مسائل الخلاف على جماعة من الفقهاء، وكان ذكيا جدا يحفظ في يوم واحد ما لا يحفظ غيره في شهر. وسمع من عبد الوهاب الأنماطي، وسعد الخير الأنصاري [2] ، وتكلّم في مسائل الخلاف، وسافر إلى الشام، وسكن دمشق مدة، وأمّ بالحنابلة في جامعها، ثم توجه إلى ديار مصر، فاستوطنها إلى حين وفاته، وكان فقيها فاضلا قارئا مجوّدا، طيب النغمة.
قال ابن اللّيثي [3] : كان قويا في دين الله، متمسكا بالآثار، لا يرى منكرا أو يسمع به إلّا غيّره، لا يحابي في قول الحقّ أحدا. قال: وصحبته وسمعت عليه معتقدا في السّنّة. قاله ابن رجب.
وفيها عبد النّبيّ بن المهدي [4] الذي كان تغلّب على اليمن، ويلقب بالمهدي، وكان أبوه أيضا قد استولى على اليمن، فظلم، وغشم، وذبح الأطفال، وكان باطنيا من دعاة المصريين، فهلك سنة ست وستين، وقام بعده ولده [5] هذا فاستباح الحرائر، وتمرد على الله، فقتله شمس الدولة كما ذكرنا.
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 330- 331) وفيه: «عبد الرحمن بن النفيس بن الأسعد» .
[2]
تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الأنماطي» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[3]
في «ذيل طبقات الحنابلة» : «ابن اللتي» بالتاء، ولم أظفر بترجمة له فيما بين يديّ من المصادر والمراجع.
[4]
انظر «العبر» (4/ 207) و «غربال الزمان» ص (453) .
[5]
في «العبر» : «الولد» .
وفيها أبو الحسن علي بن أحمد بن حنين الكناني القرطبي [1] ، نزيل فاس. سمع «الموطأ» من أبي عبد الله بن الطلّاع [2] ، وأخذ القراءات عن أبي الحسن العبسي، وسمع من حازم بن محمد والكبار، وحجّ سنة خمسمائة، ولقي الكبار وعمّر دهرا.
ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة، وتصدّر للإقراء مدة.
وفيها الفقيه عمارة بن علي بن زيدان أبو محمد الحكمي المذحجي اليمني [3] الشافعي الفرضي، نجم الدّين، نزيل مصر، وشاعر العصر.
قال ابن خلّكان [4] : كان شديد التعصب للسّنّة، أديبا، ماهرا، لم يزل ماشي الحال في دولة المصريين إلى أن ملك صلاح الدّين، فمدحه ثم إنه شرع في أمور، وأخذ في اتفاق مع الرؤساء في التعصب للعبيديين وإعادة دولتهم، فنقل أمرهم- وكانوا ثمانية- إلى صلاح الدّين فشنقهم في رمضان.
انتهى.
وقال الإسنوي [5] : حجّ سنة تسع وأربعين، وسيّره قاسم بن هاشم أمير مكّة- شرفها الله تعالى- رسولا إلى الدّيار المصرية، فدخلها في ربيع الأول سنة خمسين وخمسمائة، والخليفة يومئذ الفائز بن الظافر، والوزير الصالح بن رزّيك، فمدحهما بقصيدة منها:
الحمد للعيس بعد العزم والهمم
…
حمدا يقوم بما أولت [6] من النّعم
[7]
[1] انظر «العبر» (4/ 208) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 56- 57) .
[2]
في «سير أعلام النبلاء» : «الكلاعي» .
[3]
انظر «العبر» (4/ 208) و «غربال الزّمان» ص (453- 454) .
[4]
انظر «وفيات الأعيان» (3/ 433) .
[5]
انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 565- 568) .
[6]
كذا في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» (3/ 432) : «بما أولت» وفي «طبقات الشافعية» للإسنوي: «بما أوليت» .
[7]
في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «من نعم» .
لا أجحد الحقّ عندي للركاب يد
…
تمنّت اللّجم فيها رتبة الخطم
قرّبن بعد مزار العزّ من نظري
…
حتّى رأيت إمام العصر من أمم
ورحن [1] من كعبة البطحاء مجتهدا [2]
…
وفدا إلى كعبة المعروف والكرم
حيث الخلافة مضروب سرادقها
…
بين النقيضين من عفو ومن نقم
فاستحسنا قصيدته وأجزلا صلته، وأقام إلى شوال من سنة خمسين في أرغد عيش وأعزّ جانب، ثم فارق مصر وتوجه إلى مكّة- حرسها الله تعالى- ثم إلى زبيد في صفر سنة إحدى وخمسين، ثم حجّ من عامه، فأرسله قاسم صاحب مكة إلى مصر في رسالة ثانية، فاستوطنها ولم يفارقها بعد، فأحسن إليه الصالح ومن يتعلق به كل الإحسان، وصحبوه مع اختلاف العقيدة وشدة التعصب للسّنّة، ولما لطف الله بإزالة ملك الدولة، كان عمارة مقيما بها، فرثاهم بقصيدة لامية طنّانة، ثم شرع في الاتفاق مع جماعة من رؤساء البلد على إعادة الدولة المصرية، فعلم بهم السلطان، وكانوا ثمانية من الأعيان، ومن جملتهم الفقيه عمارة المذكور، فأمر بشنق الجميع، فشنقوا في يوم السبت ثاني شهر رمضان، وكفى الله شرّهم.
ولما قبض على المذكور وأخذ للشنق تحيّل على المرور على باب القاضي الفاضل، فغيّب عنه، وامتنع من رؤيته، فأنشد:
عبد الرحيم قد احتجب
…
إن الخلاص من العجب
وكان ذلك آخر شيء نظمه. انتهى ما ذكره الإسنويّ.
وقيل: إنه صلب منكسا، وأنه أنشد في هذه الحالة:
وما تعلّقت بالسرياق منتكسا
…
لعلة أوجبت تعذيب ناسوتي
[1] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «وأرحن» .
[2]
كذا في «آ» و «ط» و «طبقات الشافعية» للإسنوي: «مجتهدا» وفي «وفيات الأعيان» :
«والحرم» .
لكنّني مذ نفثت السّحر من كلمي
…
عذّبت تعذيب هاروت وماروت
فالله أعلم.
وفيها هبة الله بن كامل المصري التّنوخي [1] قاضي القضاة، وداعي الدّعاة أبو القاسم، قاضي الخليفة العاضد. كان أحد الثمانية الذين سعوا في إعادة دولة بني عبيد، فشنقهم صلاح الدّين، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو البركات يحيى بن نجاح بن مسعود بن عبد الله اليوسفي [2] المؤدّب، الأديب الشاعر الحنبلي. سمع من أبي العز بن كادش وغيره.
وقال ابن الجوزي: سمع الحديث الكثير، ثم قرأ النحو، واللغة، وكان غزير الفضل، يقول الشعر الحسن.
وقال ابن القطيعي: كان من أهل الأدب والعلم [وفيه فضل] ، له خطّ حسن وشعر رقيق. سمع منه جماعة من الطلبة، وكان حنبلي المذهب، حسن الاعتقاد.
ومن شعره:
أقلى منك ذا الجفا أم دلال
…
كلّ يوم يروعني منك حال
أعذول يغريك أم عزّة المع
…
شوق أم هكذا يتيه الجمال
نظرة كنت يوم ذاك فإني
…
صرت في القلب عثرة لا تقال
أنا عرّضت يوم سلع بنفسي
…
للهوى فالغرام داء عضال
[3]
عبثا تقتل النّفوس ولا تح
…
سب إلّا أن الدّماء حلال
[1] انظر «العبر» (4/ 209) و «دول الإسلام» (2/ 84) .
[2]
انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 331- 332) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[3]
رواية البيت في «ذيل طبقات الحنابلة» :
أنا عرضت مهجتي يوم سلع
…
للهوى فالغرام داء عضال
من عجيب أن لا يطيش لها سه
…
م ولم تدر قطّ كيف النّضال
وهي طويلة.
توفي- رحمه الله تعالى- يوم السبت لإحدى عشرة مضت من شوال، ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد.