الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 28]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
يقول الحق جل جلاله: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ أي: لو أغناهم جميعاً لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي:
لتَكَبروا وأفسدوا فيها، بطراً، ولعلا بعضُهم على بعض بالاستعلاء والاستيلاء، لأن الغِنى مبطرة مفسدة، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة. وأصل البغي: تجاوز الاقتصاد [عما يجزي]«1» من حيث الكمية أو الكيفية.
وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ أي: بتقدير ما يَشاءُ أن ينزله، مما تقضيه مشيئته. يقال: قدره وقدّره قدراً وتقديراً إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ محيط بخفايا أمورهم وجلاياها، فيقدر لكل واحد منهم ما يليق بشأنه، فيُفقر ويُغني، ويُعطى ويَمنع، ويقبض ويبسط، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية، ولو أغناهم جميعاً لَبَغوا في الأرض، ولو أفقرهم لهلكوا، وما ترى من البسط على مَن يبغي، ومِن البغي بدون البسط، فهو قليل، ولكن البغي مع الفقر أقلّ، ومع البسط أكثر وأغلب، فالحكمة لا تنافي بغي البعض بدفعه بالبعض الآخر، بخلاف بغي الجميع. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
…
«2» الآية.
وقال شقيق بن إبراهيم: لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ أي: لو رزق الله العباد من غير كسب لَبَغَوْا طغوا وسَعَوا في الأرض بالفساد، ولكن شغلهم بالكسب والمعاش، رحمة منه. هـ. أي: لئلا يتفرّغوا للفساد، ومثله في التنوير.
وقال شيخ شيوخنا الفاسي العارف: والظاهر حمل العباد على الخصوص المصْطَفين من المؤمنين، فإنهم يحمون من الطغيان وبسط الرزق لئلا يبغوا. هـ.
وقال قتادة: كان يقال: خير الرزق: ما لا يطغيك، ولا يلهيك، فذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أخوَفُ ما أخافُ على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها» «3» . هـ.
(1) هكذا فى الأصول، وفى تفسير أبى السعود [فيما يتحرى] .
(2)
من الآية: 40 من سورة الحج.
(3)
أخرجه الطبري (25/ 19) .
رُوي: أن أهل الصُّفة تمنوا الغنى، فنزلت «1» . وقيل: نزلت في العرب، كانوا إذا أخصبوا تحاربوا، وإذا جدبوا انتجعوا. هـ.
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي: المطر الذي يُغيثهم من الجدب، ولذا خصّ بالنافع منه، فلا يقال للمطر الكثير:
غيث، مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا: يئسوا منه. وتقييد تنزيله بذلك، مع نزوله بدونه أيضاً لمزيد تذكُّر كمال النعمة.
وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي: بركات الغيث ومنافعه، وما يحصل به من الخصب في كل مكان، من السهل، والجبل، والنبات، والحيوان. أو: رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر وغيره. وَهُوَ الْوَلِيُّ الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة، الْحَمِيدُ المستحق للحمد على ذلك، لا غيره.
الإشارة: عادته تعالى مع أوليائه أن يعطيهم ما يكفيهم بعد الاضطرار، ويمنعهم منه فوق الكفاية لئلا يشغلهم بذلك عن حضرته، وفي الحديث:«إن الله يحمي عبده المؤمن- أي: مما يضره الدنيا وغيرها- كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة» «2» وفي حديث آخر: «إذا أحبّ الله عبداً حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء» «3» . ورَوى ابن المبارك، عن سعيد بن المسيب قال: جاء رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة؟ فقال: «هم الخائفون، الخاضعون، المتواضعون، الذاكرون كثيراُ» فقال: يا رسول الله فهم أول الناس يدخلون الجنة؟ قال: «لا» قال: فمَن أول الناس دخولاً الجنة؟ قال «الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة، فيخرج إليهم ملائكة، فيقولون: ارجعوا إلى الحساب، فيقولون: علام نحاسب؟ والله ما أفيضت علينا الأموال فنفيض فيها، وما كنا أمراء نعدل ونجور، ولكنا جاءنا أمره فعبدنا حتى أتانا اليقين» . هـ.
قوله: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ
…
الآية، كما ينزل غيث المطر على الأرض الميتة، ينزل أمطار الواردات الإلهية على القلوب الميتة، فتحيا بالذكر والمعرفة، بعد أن أيست من الخصوصية.
قال القشيري، بعد كلام: وكذلك العبد إذا ذَبُلَ غُصْنُ وقته، وتكَدَّرَ صَفْو ودّه وكسفت شمس أُنسِه، وبَعُدَ عن الحضرةِ وساحاتِ القرب عَهْدُه، فربما ينظر إليه الحقُّ نظر رحمة، فينزل على سِرِّه أمطارَ الرحمة، ويعود عودُه طريّاً، ويُنْبِتُ في مشاهد أُنْسِه ورداً جَنِياً، وأنشدوا فى المعنى:
(1) أخرجه الواحدي فى أسباب النّزول (ص 390) عن عمرو بن حريث، وذكره الهيثمي فى المجمع (7/ 104) وعزاه للطبرانى، ورجاله رجال الصحيح.
(2)
أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (ح 10451) من حديث حذيفة رضي الله عنه، والحديث ضعّفه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 1901) .
(3)
أخرجه الترمذي فى (الطب، باب ما جاء فى الحمية، ح 3036) والبيهقي فى الشعب (ح 1450) من حديث قتادة بن النّعمان رضي الله عنه.