الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمدائن المتينة. وقيل: المعنى: وأكثر آثاراً، أي: ترك آثار في الأرض، كالحصون وغيرها. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أخذاً وبيلاً، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي: لم يكن لهم شيء يقيهم من عذاب الله.
ذلِكَ الأخذ بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الدالة على صدقهم، أو: بالأحكام الظاهرة الجلية، فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ، متمكن مما يريد غاية التمكُّن، قادر على كل شيء، شَدِيدُ الْعِقابِ لا يُؤبَه عند عقابه بعقاب.
الإشارة: قال القشيري: أَوَلَمْ يسيروا بنفوسهم في أقطار الأرض، ويطوفوا مشارقَها ومغاربَها، فيعتبروا بها، فيذهبوا فيها؟ ويسيروا بقلوبهم في الملكوت بجَوَلان الفكر، فيشهدوا أنوار التجلي، فيستبصروا بها؟ ويسيروا بأسرارهم في ساحات الصمدية، فيُستهلكوا في سلطان الحقائق، ويتخلَّصُوا من جميع المخلوقات قاصيها ودانيها؟
ثم قال: قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، إِنْ بغى من أهل السلوك، قاصدٌ لهم يصل إلى مقصوده، فَلْيَعلم أنَّ موجِبَ حجبته اعتراضٌ خَامَرَ قلبَه على بعض شيوخه، في بعض أوقاته، فإِنَّ الشيوخَ بمحلِّ السفير للمريدين. وفي الخبر:«الشيخ في أهله كالنبيِّ في أمته» «1» . هـ.
ثم سلّى نبيه بقصة موسى عليه السلام، فقال:
[سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)
(1) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 4969- 4970) للخليلى فى مشيخته، وابن النّجار، عن أبى رافع. وابن حبان فى الضعفاء، والشيرازي فى الألقاب، عن ابن عمر. والحديث ضعيف. وقال الشوكانى فى الفوائد (286) : جزم ابن حجر وغيره بأنه موضوع. وانظر: تنزيه الشريعة (1/ 207) الشذرة فى الأحاديث المشتهرة للصالحى (1/ 352) .
يقول الحق جل جلاله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا معجزاته التسع وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي: حجة قاهرة، وهي: إما عين الآيات، والعطف لتغاير العنوانين، فكونها آيات من جهة خرق العادة، وكونها حجة من حيث الدلالة على صدق صاحبها، وإما أن يريد بالسلطان بعض مشاهيرها، كالعصا، أُفردت بالذكر مع اندراجها تحت الآيات لعِظمها. وقال ابن عرفة: الآيات: المعجزات، والسلطان المبين، راجع إلى التحدي بها، فهو من قبيل الإدعاج «1» ، أو: يكون السلطان راجعاً إلى ظهورها إذ ليس من شرطها الظهور، أو: يرجع إلى نتيجتها، وهو الغلبة والنصر. هـ.
أرسل إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ، فَقالُوا فيما أظهره، أو: فيما ادّعاه من الرسالة: هو ساحِرٌ كَذَّابٌ. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا وهو الوحي والرسالة، قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي:
صبيانهم الذكور، وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ للخدمة، أي: أَعيدوا عليهم القتل الذي كنتم تفعلونه أولاً، وكان فرعون قد كفَّ عن قتل الولدان لئلا تعطل خدمته، فلما بُعث عليه السلام، وأحسَّ بأنه قد وقع ما توقع، أعاده عليهم غيظاً، وحُمقاً، وزعماً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرته. وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع وبطلان، فإنهم باشروا قتلهم أولاً، فما أغنى عنهم، ونفذ قضاء الله بإظهار مَن خافوه، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني، فلم يعلم أن كيده ضائع في الكَرّتين، واللام: إما للعهد المتقدم، والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر، والإشعار بعلة الحكم، أو: للجنس، وهم داخلون فيه دخولاً أوليّاً. والجملة: اعتراض جيء بها في تضاعيف ما حكى عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الإبراق والإرعاد الذي لا طائل تحته.
وَقالَ فِرْعَوْنُ لملئه: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى، وكان ملَؤه إذا همَّ بقتله كفّوه، وقالوا: ليس بالذي تخافه، وهو أقل من ذلك، وما هو إلا ساحر، وإذا قتلتَه أدخلتَ شبهة على الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة، والظاهر من دهاء اللعين ونكارته أنه قد استيقن أنه نبيّ، وأن ما جاء به آيات باهرة، وما هو بسحر، ولكن كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجَل بالهلاك، وكان قوله تمويهاً على قومه، وإيهاماً أنهم هم الكافُّون عن قتله، ولو لاهم لقتله، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من الفزع الهائل. وقوله: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ تجلُّد منه وإظهار لعدم المبالاة بدعائه، ولكنه أخوف ما يخافه.
(1) هكذا.
ثم قال: إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أي: يغير ما أنتم عليه من الدين، وهو عبادتهم له وللأصنام لتقربهم إليه، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ أي: ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية. والحاصل: أنه قال: أخاف أن يُفسد عليكم دينكم، بدعوته إلى دينه، أو: يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من التقاتل والتهارج، الذي يذهب معه الأمن، وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش.
وَقالَ مُوسى لَمَّا سَمِعَ ما أجراه من الحديث في قتله لقومه: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ، صدّر عليه السلام كلامَه بإنَّ تأكيداً له، وإظهاراً لمزية الاعتناء بمضمونه، وفرط الرغبة.
وخصّ اسم الرّب المنبئ عن الحفظ والتربية إذ بهما يقع الحفظ.
وفي قوله: وَرَبِّكُمْ حث لهم على أن يقتدوا به، فيعوذوا بالله عياذتَه، ويعتصموا بالتوكل اعتصامَه، ولم يُسمّ فرعون، بل ذكره بوصف يعمه وغيره من الجبابرة لتعميم الاستعاذة، والإشعار بعلة القساوة والجرأة على الله تعالى، وهو التكبُّر. قال ابن عرفة: أشار إلى أن كفره لم يكن لأجل أن موسى لم يأتِ بدليل ولا معجزة، ولم يكن أيضاً لخفاء تلك المعجزة، وعدم ظهورها، بل كان لجحود التعنُّت والتكبُّر، والإباية عن الانحطاط من سلطنة الملك إلى رتبة الاتِّباع. هـ. وقال: لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبُّر والتكذيب بالجزاء، وقلة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القوة والجرأة على الله وعباده، والعياذ بالله.
الإشارة: قال القشيري: كان موسى عليه السلام أكرم خَلْقِه في وقته، وكان فرعون أخَسّ خَلْقِه في وقته إذ لم يقل أحد: ما علمتُ لكم من إله غيري، فأرسل أخصَّ عباده إلى أخسّ عباده. ثم إن فرعون سعى في قتل موسى، واستعان على ذلك بخَيْله ورَجْله، ولكن كما قال تعالى: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ، وإذا حَفَرَ أحدٌ لِوَليِّ الله حُفرةً، ما وقع فيها غيرُ حافِرها، كذلك أجرى الحقُّ سُنَّتَه. هـ.
ثم ذكر موعظة مؤمن آل فرعون لقومه، فقال: