الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم حمَلَ فقاتل، فقَتل عدداً كثيرا، ثم رجع إلى مصافه، فتكالب عليه العدو، فحملَ ثالثة، وأنشأ يقول:
يَا لُعبةَ الْخُلْدِ قفى ثمّ اسمعي
…
مالك قَاتَلْنَا فَكُفّي وَارْجِعي
ثُمَّ ارْجِعِي إلى الْجِنَانِ وأَسْرعي
…
لَا تَطْمعِي لَا تَطْمعِي لا تطمعى
فقاتل رضي الله عنه حتى قُتل- رحمة الله. هـ «1» .
قوله تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، فيه ترغيب وتنشيط لأهل الوعظ والتذكير، الداعين إلى الله، الذين يسعون في أظهار الدين، وإرشاد عباد الله إلى محبة الله وطاعته. وفي الحديث عنه- صلى الله عليه وسلم:
«والذي نفس محمد بيده، لئن شئتُم لأُقسِمَنَّ لكم، إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى الله الذين يُحَبَّبُون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويمشُون في الأرضِ بالنَّصيِحَة» . وقال أيضاً: «الخَلقُ عِيَالُ اللَّهِ، وأحبُّ الخَلْقِِِ إلى اللَّهِ أَنفَعُهُم لعياله» «2» وأعظم النفع: إرشادهم إلى الله، الذي هو سبب سعادتهم السرمدية.
وقال الورتجبي: نُصرةُ العبد لله: أن يجاهد نفسه وهواه وشيطانه، فإنهم أعداؤه، فإذا خاصمها يُقويه الله وينصره عليهم، بأن يدفع شرهم عنه، ويجعله مستقيماً في طاعة الله، ويجازيه بكشف جماله، حتى يَثْبُتَ في مقام العبودية، وانكشاف أنوار الربوبية. هـ.
قال القشيري: ونصرةُ الله للعبد بإعلاء كلمته، وقمع أعدائه. ثم قال في قوله تعالى: وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ هو إدامة التوفيق، لئلا ينهزم من صَوْلة أعداء الدين، ولا يَضعُف قلبُه في معاداتهم، ولا ينكسر باطنُه ثقةً بالله في إعزازِ دينه. هـ. ثم ذكر تعالى أضداد الداعين إلى الله، الناصرين لدينه، وهم المنتقدون عليهم، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ أي: خيبةً لهم، وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ، فلا يتوصلون بها إلى معرفته، لكونها معلولة.
ثم أمر بالتفكر والنّظر لأنه أقرب الطرق إلى التخلص من غوائل الأعداء، فقال:
[سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 12]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)
(1) أخرجه أبو نعيم فى الحلية (10/ 165- 166) .
(2)
أخرجه البيهقي فى الشعب (ح 7445) والطبراني فى الكبير (ح 10033) وأبو يعلى فى مسنده (6/ رقم 3315 و 3370) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه البيهقي فى الشعب (ح 7448) وأبو نعيم فى الحلية (2/ 102) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
يقول الحق جل جلاله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي: أقعدوا فلم يسيروا فِي الْأَرْضِ، يعني كفار مكة، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة؟ فإنّ آثار ديارهم تنبئ عن أخبارهم، فقد دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فالجملة: استئناف مبني على سؤال، كأنه قيل: كيف كان عاقبتهم؟ فقيل: استأصل الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، يُقال: دمّره أهلَكه، ودمّر عليه: أهلك عليه ما يختص به، قاله أبو السعود. وفي الصحاح: الدمار: الهلاك، دمّره تدميراً، ودمَّر عليه، بمعنى. هـ. فظاهرة: أن معناهما واحد، وفسره في الأساس بالهلاك المستأصل، وقال الطيبي: في دمّر عليهم تضمينُ معنى أطبقَ، فعُدي بعلى، ولذلك استأصل. هـ.
وَلِلْكافِرِينَ أي: ولهؤلاء الكافرين السائرين بسيرَتِهم أَمْثالُها أي: أمثال تلك الهلكة المفهومة من التدمير، أو أمثال عواقِبهمْ أو عُقوبَاتهم، لكن لا على أنّ لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافَه بل مثله، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة، حسبما تعدّد الأمم المعذّبة، ويجوز أن يكون عذابُهم أشدّ من عذاب الأولين فقد قُتلوا وأُسروا بأيدي مَن كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم، والقتل بيد المثل أشد ألماً من الهلاك بسبب عام. وقيل:
دمَّر اللهُ عليهم في الدنيا، ولهم في الآخرة أمثالُها.
ذلِكَ أي: نصرُ المؤمنين وهلاكُ الكافرين في الحال أو المآل بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي: ناصِرُهم ومعِزَّهُم وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ فيدفع عنهم ما حَلّ بهم من العقوبة، ولا يخالف هذا قوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ «1» لأن المولى هناك بمعنى المالك.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وهذا بيان لحكم ولاية الله لهم وثمرتها الأخروية، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ في الدنيا بمتاعِها أياماً قلائل، وَيَأْكُلُونَ غافلين عن عَواقبهم، غير متفكرين فيها كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ في مسارحها، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح، فالتشبيهُ بالأنعام صادقٌ بالغفلةِ عن تدبير العاقبة، وعن شكر المنعِم، وبعدم التمييز للمضرّ من غيره، كأ كل الحرام وعدم تَوَقيه، وكذا كونُه غير مقصورٍ على الحاجة، ولا على وقتها، وسيأتي في الإشارة إن شاء الله. وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي:
منزلُ ثوَاه وإقامته، والجملةُ إما حال مقدرةٌ من واو (يأكلون) ، أو استئناف.
(1) من الآية 62 من سورة الأنعام. [.....]