الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُلْ تبكيتاً وتجهيلاً لهم: لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي: هو مالكها، ولا يقدر أحد أن يتصدّى لها، إلا أن يكون المشفوع له مرتضىً، والشفيع مأذوناً، وكلاهما مفقود في أصنامهم، ثم قرر اختصاصه بالشفاعة بقوله:
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: له التصرف فيهما، وفيما فيهما من المخلوقات، لا يملك أحد أن يتكلم في أمر من أموره بدون إذنه ورضاه، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة، لا إلى أحد سواه، فيفعل يومئذ ما يريد.
قال النسفي: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اليوم ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة، فلا يكون المُلك في ذلك اليوم إِلاّ له، فله المُلك في الدنيا والآخرة. هـ.
الإشارة: الشفاعة إنما تكون لأهل الجاه عند الله، والجاه يعظم بحسب التوجه، والتوجه يعظم على قدر المحبة، والمحبة على حسب العناية السابقة، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فبقدر أنوار التوجه تعظم أنوار المواجهة، وبقدر أنوار المواجهة تتسع المعرفة، وبحسب المعرفة يكون الجاه، وبقدر الجاه تتسع الشفاعة، حتى إن الواحد من الأولياء يشفع في وجود بأسره من أهل زمانه، إما عند موته، أو عند الحساب. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر علامة أهل الشرك، فقال:
[سورة الزمر (39) : الآيات 45 الى 46]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
قلت: «وحده» : منصوب عند سيبويه، على المصدر، وعند الفراء: على الحال، والظاهر: أنه أطلق المصدر على اسمه.
يقول الحق جل جلاله: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي: إذا أُفرد الله بالذكر، ولم تُذكر معه آلهتهم، فمدار المعنى على قوله: وَحْدَهُ، اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي: انقبضت ونفرت، كقوله:
…
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً «1» ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني: آلهتهم، ذُكر اللهُ معهم، أو لم يُذكر، إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لفرط افتتانهم بها، ونسيانهم ذكر الله، أو: وإذا قيل لهم:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نفروا لأن فيه نفيا لآلهتهم.
(1) من الآية 46 من سورة الإسراء. [.....]
وقال الورتجبي: صورة الآية وقعت على الجاحدين والمتكبرين، الذين ليس في محبتهم إلا متابعة الأشكال والأمثال، من حيث التشبيه والخيال لأن قلوبهم خلقت على مشاكلة الأضداد والأنداد، ولم يكن في قلوبهم سجية أهل المعرفة بالله، فإذا سَمِعُوا ذِكْر مَن لا يدخل في الخيال والمثال انقبضت قلوبهم وصدورهم، ونفرت، وإذا سمعوا ذكر غير الله من الصور والأشباح، سكنت نفوسهم إليها من غاية غباوتهم، وكمال جهالتهم، فهم مثل الصبيان، إذ هم يفرحون بالأفراس الطينية والأُسد الخشبية، ولا يطيقون أن ينظروا إلى عَدْوِ العاديات، وإلى الضراغم الباديات.. هـ. مختصراً.
ولقد بالغ في بيان حالتيهم المتقابلتين حيث ذكر الغاية فيهما، فإن الاستبشار: هو أن يمتلىء القلب سروراً، حتى تنبسط له بشرة الوجه وتتهلل، والاشمئزاز: أن يمتلىء القلب غيظاً وغمّاً، حتى ينقبض منه أديم الوجه، فتظهر عليه الكآبة والحزن. والعامل في إِذا الأولى:«اشمأزت» ، وفي الثانية: ما هو العامل في «إذا» الفجائية، والتقدير: وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا وقت الاستبشار.
ثم أمر نبيه بالالتجاء إليه حين إدبارهم، فقال: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: يا فاطر، وليس بوصف، خلافاً للفراء والمبرّد، أي: اللهم يا مظهر السماوَاتِ والأرْض، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي: ما غاب من أسرار ذاتك وما ظهر، أو: السر والعلانية، أي: التجئ إليه تعالى إذا اغتممت من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد فإنه القادر على الأشياء بجملتها، والعالم بالأحوال برمتها. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي: حُكماً يُسلمه كل مكابر ومعاند، ويخضع له كلَّ عاتٍ ومارد، فاحكم بيني وبين معاندي، بالنصر عليهم في الدنيا والآخرة.
وعن ابن المسيّب «1» : «ما أعرفُ آية قرئت فدعى عندها إلا أجيب سوى هذه» . يعنى أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله أن يحكم بينه وبين عدوه بالاستئصال، فأمهل لأنه رحمة. وعن الربيع بن خثيم- وكان قليل الكلام-: أنه أُخبر بقتل الحسين رضي الله عنه، وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد على أن قال: أو قد فعلوا؟، وقرأ: اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
…
الآية، ثم قال على إثرها: قُتِل من كان رسول صلى الله عليه وسلم يُجلسه في حجره، ويُقبِّل فاه «2» . هـ.
الإشارة: ينبغي للمؤمن أن يكون متعاكساً مع المشرك، إذا سمع كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» ، فرح وانبسط، وإذا ذكر اللغو واللعب اشمأز وانقبض، والعابد أو الزاهد إذا سَمِعَ ما يدل على الطاعة والاستعداد للآخرة فرح ونشط،
(1) فى النّسفى: الربيع بن المسيب.
(2)
انظر: تفسير النّسفى (2/ 185) .