الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَدَعا رَبَّهُ بعد ما تمادوا على تكذيبه، شاكياً إلى ربه: أَنَّ هؤُلاءِ أي: بأن هؤلاء، قَوْمٌ مُجْرِمُونَ، وهو تعريض بالدعاء عليهم، بذكر ما استوجبوه، ولذلك سمي دعاء، وقيل: كان دعاؤه:
اللهم عجِّل لهم ما يستوجبونه بإجرامهم، وقيل: هو قوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ «1» وقيل: قوله: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «2» ، وقرىء بالكسر «3» على إضمار القول. قال تعالى له- بعدُ: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا، والفاء تؤذن بشرط محذوف، أي: إن كان الأمر كما تقول فَأَسْرِ بِعِبادِي بني إسرائيل لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي: دبّر الله أن تتقدموا، ويتبعكم فرعون وجنوده، فننجّى المتقدمين، ونغرق الباقين، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ساكنا على حالته بعد ما جاوزته، ولا تضربه بعصاك لينطبق، ولا تُغيره عن حاله ليدخله القبط، أراد موسى عليه السلام لمّا جاوزه أن يضربه بعصا لينطبق، فأمره أن يتركه ساكناً على هيئته «4» ، قاراً على حالته، من انتصاب الماء كالطود العظيم، وكون الطريق يبساً لا يُغير منه شيئاً، ليدخله القبط، فإذا دخلوا فيه أطبقه الله عليهم، فالرهو في كلام العرب:
السكون، قال الشاعر:
طَيرٌ رَأَتْ بازياً نَضحَ الدُّعاءُ به
…
وأُمَّةٌ خَرَجَتْ رَهْواً إلى عيدِ
أي: ساكنة، وقيل: الرهو: الفرجة الواسعة، أي: اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً، إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ بعد خروجكم من البحر. وقرئ بالفتح، أي: لأنهم.
الإشارة: كل زمان له فراعين، يحبسون الناسَ عن طريق الله، وعن خدمته، فيبعث الله إليهم مَن يُذكَّرهم، ويأمرهم بتخلية سبيلهم، أو بأداء الحقوق الواجبة عليهم، فإذا كُذّب الداعي، قال: وإن لم تؤمنوا فاعتزلون، فإذا أيِس من إقبالهم دعا عليهم، فيغرقون في بحر الهوى، ويهلكون في أودية الخواطر. وبالله التوفيق.
ثم حضّ على الاعتبار، فقال:
[سورة الدخان (44) : الآيات 25 الى 33]
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)
(1) الآية 10 من سورة القمر.
(2)
الآية 85 من سورة يونس.
(3)
قرأ «إن هؤلاء» بالكسر ابن أبى إسحاق وعيسى والحسن فى رواية، وزيد بن علىّ. انظر مختصر ابن خالويه (ص 138) والبحر المحيط (8/ 36) .
(4)
قاله قتادة فيما أخرجه ابن جرير (25/ 121) .
يقول الحق جل جلاله: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي: كثيراً ما ترك فرعون وجنوده بمصر من بساتين. رُوي أنها كانت متصلة بضفتي النيل جميعاً، من رشيد إلى أسوان، (وعُيون) يحتمل أن يريد الخلجان، شَبَّهها بالعيون، أو كانت ثَمَّ عيون وانقضت، وَزُرُوعٍ أي: مزارع، وَمَقامٍ كَرِيمٍ، محافل مُزينة، ومنازل مُحسَّنة، وسمّاه كريماً لأنه مجلس الملوك، وقيل: المنابر، وَنَعْمَةٍ أي: بسطة ولذاذة عيش وتنعُّم، كانُوا فِيها فاكِهِينَ أي: متنعّمين فرحين مسرورين.
وفي المشارق: النعمة- بالفتح: التنعُّم، وبالكسر: اسم ما أنعم الله به على عباده، قال ابن عطية: النعمة- بالفتح: غضاوة العيش، ولذاذة الحياة، والنعمة- بالكسر: أعم من هذا كله، وقد تكون الأمراض والمصائب نِعماً، ولا يقال فيها نعمة بالفتح. هـ. فانظره.
كَذلِكَ، أي: الأمر كذلك، فالكاف في محل الرفع، على أنه خبر عن مضمر، أو نصب على أنه مصدر لمحذوف يدل عليه:(تركوا) أي: مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ
ليسوا منهم في شيء في قرابة ولا دين، ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل، بأن تولُّوا أحكامها والتصرُّف فيها. وقال الحسن: رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر، نظيره: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
…
«1» الآية، ومثله عن القرطبي والبيضاوي، وكذلك في نوادر الأصول، وقد تقدّم الكلام عليه في الشعراء «2» . وفي الآية اعتبار واستبصار، وتنبيه للعاقل على عدم الاغترار، وسيأتي في الإشارة ما فيه كفاية نظماً ونثراً.
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ، مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم، والاعتداد بوجودهم، وفيه تهكُّم بهم، وبحالهم المنافية، بحال مَن يعظم فقده، فيقال: بكت عليهم السماء والأرض، وكانت العرب إذا عظَّمت مهلك رجل قالوا: بكته الريحُ والبرقُ والسماء، قال الشاعر:
(1) من الآية 137 من سورة الأعراف.
(2)
عند تفسير الآية 59 من سورة الشعراء. [.....]
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَها
…
والبَرْقُ يَلْمعُ فِي الغمامَهْ «1»
وقال جرير، يرثي عمرُ بنُ عبد العزيز:
فالشَّمسُ طالِعةٌ ليستْ بكاسفةٍ
…
تَبكي عليك نُجُومَ اللَّيل والْقَمَرَا
حُمّلْتَ أمراً عظيماً فاصطَبرَتْ له
…
وقُمْتَ فينا بأمر اللهِ يَا عُمَرا «2» .
وقيل: البكاء حقيقة، وأن المؤمن تبكي عليه من الأرض مُصلَاّه، ومحل عبادته، ومن السماء مَصْعدُ عمله، كما في الحديث «3» ، وإذا مات العالم بكت عليه حيتان البحر، ودوابه، وهَوام البر وأنعامه، والطير في الهواء، وهؤلاء لمَّا ماتوا كُفاراً لم يعبأ الوجودُ بفقدهم، بل يفرح بهلاكهم. وَما كانُوا لّمَّا جاء وقت هلاكهم مُنْظَرِينَ ممهلين إلى وقت آخر، أو إلى الآخرة، بل عجّل لهم في الدنيا.
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ لما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ، من استعباد فرعون إياهم، وقتل أبنائهم، واستحياء نسائهم، مِنْ فِرْعَوْنَ، بدل من العذاب المهين بإعادة الجار، كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم، أو خبر عن مضمر، أي: ذلك من فرعون، وقُرئ «مَن فرعون» «4» على معنى: هل تعرفونه مَن هو في عتوه وتفرعنه؟ وفي إبهام أمره أولاً، وتبيينه بقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ثانياً، من الإفصاح عن كُنه أمره في الشر والفساد مما لا مزيد عليه، وقوله تعالى: مِنَ الْمُسْرِفِينَ إما خبر ثان، أي: كان متكبراً مسرفاً، أو حال من الضمير في «عالياً» ، أي: كان رفيع الطبقة من بين المسرفين، فائقاً لهم، بليغاً فى الإسراف.
(1) هذا البيت من أبيات قالها ابن المفرّغ فى بيعه جارية تسمى «الأراكة» وغلاما يسمى «بردا» ، وكانا أعز عليه من نفسه، وقد رغمه عباد بن زياد على بيعهما، ومن أبيات ابن المفرغ هذه:
والعبد يقرع بالعصا
…
والحرّ تكفيه الملامة
والقصة فى خزانة الأدب.
(2)
انظر ديوان جرير/ 235. وأمالى المرتضى (1/ 52) .
(3)
أخرج ابن جرير فى التفسير (25/ 124) من حديث ابن عباس رضي الله عنه موقوفا: «ليس أحد من الخلائق إلا له باب فى السماء، منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء فقده فبكى عليه، وإذا فقد مصلاه من الأرض التي كان يصلى فيها، ويذكر الله فيها، بكت عليه، وإن آل فرعون لم يكن لهم فى الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض» .
وأخرج الترمذي فى (التفسير- سورة الدخان ح 3255) وأبو يعلى فى مسنده (4/ 157) والبغوي فى التفسير (7/ 232) والخطيب فى تاريخ بغداد (8/ 327) عن أنس بن مالك مرفوعا: «ما من مؤمن إلا وله بابان، باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه، ذلك قوله عز وجل: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ، قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه» . وانظر مجمع الزوائد 7/ 105.
(4)
على الاستفهام. عزاها أبو حيان لابن عباس رضي الله عنه، انظر البحر المحيط 8/ 38.
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ أي: بني إسرائيل عَلى عِلْمٍ أي: عالِمين بأنهم أحقاء بالاختيار، أو عالِمين بأنهم يزيغون في بعض الأوقات، ويكثر منهم الفرطات، فلم يؤثر ذلك في سوابق علمنا، ليعلم أن الجنايات لا تؤثر في الرعايات، عَلَى الْعالَمِينَ أي: عالَمِي زمانهم، لما كثر فيهم من الأنبياء، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ، كفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وغيرها من عظائم الآيات، ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ نعمة ظاهرة، أو:
اختبار ظاهر، لينظر كيف يعملون، وقيل: البلاء المبين هو المطالبة بالشكر عند الرضا، والصبر عند الكدر والعناء.
الإشارة: كم ترك أهلُ الغفلة والاغترار، من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، من قصور وديار، فارقوها، أخصب ما كانوا فيها، وأُزعجوا عنها أحوج ما كانوا إليها، استبدلوا سعة القصور بضيق اللحود والقبور، ومحاسن الملابس والتيجان بعصائب الخِّرق والأكفان، فيا مَن ركن إلى الدنيا، انظر كيف تفعل بأهلها، فرحم الله عبداً أخذ من الدنيا الكفاف، وصاحب فيها العفاف، وتزوّد للرحيل، وتأهّب للمسير.
ذكر الطرطوسي في كتابه «سراج الملوك» : قال أبو عبد الله بن حمدون: كنتُ مع المتوكل، لما خرج إلى دمشق، فركب يوماً إلى رصافة «هشام بن عبد الملك» فنظر إلى قصورها خاوية، ثم خرج فنظر إلى دير هناك قديم، حسن البناء، بين مزارع وأشجار، فدخله، فبينما هو يطوف به، إذ بَصُر برقعة قد التصقت بصدره، فأمر بقلعها، فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات:
أَيا مَنْزلاً بالدّيْرِ أَصْبَحَ خَالياً
…
تَلاعَبَ فيه شمألُ ودِفُورُ
كَأَنَّكَ لَمْ يَسْكُنْكَ بيضٍ نَوَاعمٌ
…
وَلَمْ يَتَبَخْتَر في قِبابِكَ حُورُ
وأَبْنَاءُ أَمْلاكِ غَواشِمُ سَاداتٍ
…
صَغِيرهم عِندَ الأنَامِ كَبِيرُ
إذَا لَبسوا أَدْرَاعَهم فعَوَابسٌ
…
وَإن لَبسوا تيجانَهمْ فَبُدورُ
علَى أنَّهم يَومَ اللِّقاء ضَرَاغِمٌ
…
وأَنَّهم يوم النَّوالِ بُحورُ
ليالي هِشامٌ بالرّصاَفَةٍ قاطنٌ
…
وفيك ابنه يا دَيْرَ وَهُوَ أَميرُ.
إلى أن قال:
بلى فسقاك الغيث صَوب سحائبٍ
…
عَلَيْك بِها بَعد الرَّواحِ بُكْورُ
تَذَكَّرْتُ قَومي فيكما فَبَكيتهم
…
بشَجْوٍ ومثْلِي بالبُكَاءِ جديرُ
فعَزيْتُ نَفْسِي وهْي نَفَسٌ إذا جَرى
…
لَها ذِكْر قَومِي أَنَّةٌ وزفِيرُ
فلما قرأها المتوكل ارتاع، ثم دعا صاحب الدير، فسأله: مَن كتبها؟ فقال: لا علم لي، وانصرف هـ.
ومن هذا القبيل ما وجد مكتوباً على باب «كافور الإخشيدي» بمصر:
انْظر إلى عِبرِ الأيَّامِ مَا صنعتْ
…
أَفْنَتْ أنَاساً بها كانوا وما فنيت
دِيارهم ضَحِكَتْ أَيَّامَ دولتِهِمْ
…
فإِذا خلَتْ مِنْهُم صاحتهم وبَكَتْ
ومن هذا أيضاً ما وُجد على قَصر «ذي يزن» مكتوباً:
بَاتوا على قُلَل الأجْبَال تَحْرسُهمْ
…
غُلْبُ الرجال فلمْ تمنعْهم الْقُلَل
واستُنزلوا منْ أَعالِي عز معْقلهمْ
…
فأُسْكِنوا حُفراً، يا بئس ما نزلوا
أَيْنَ الْوجوه التي كانت محَجَّبةً
…
من دُونِها تُضْرَبُ الأستارُ والكلل؟
فأَفْصح القبرُ عَنْهم حين سائلهم
…
تِلْك الوجوه عَلَيْهَا الدود تقتبلُ
قد طالَ ما أَكَلوا دهراً وما شَرِبُوا
…
فَأصبحوا بَعدَ طُولِ الأكْلِ قد أُكلوا
وحاصل الدنيا ما قال الشاعر:
أَلَا إنَّما الدنيا كأحْلَامِ نَائِم
…
وَمَا خَيْر عَيْشٍ لَا يَكونُ بِدائم «1» ؟!
تَأمَّلْ إذَا ما نِلْتَ بالأمس لذّة
…
فأفينتها هَلْ أنتَ إلا كَحَالِمِ؟!
هذه فكرة اعتبار، وأما فكرة استبصار، فما ثَمَّ إلا تصرفات الحق، ومظاهر أسرار ذاته، وأنوار صفاته، ظهرت في عالم الحكمة بالأشكال والرسوم، وأما في عالم القدرة فما ثَمَّ إلا الحي القيوم.
تَجلَّى حَبِيبي فِي مَرَائِي جَمَالِهِ
…
فَفِي كُلِّ مَرْئِيّ لِلْحَبِيبِ طَلَائِعُ
فَلَمَّا تَبَدَّى حُسْنُه مُتَنَوِّعاً
…
تَسَمَّى بِأَسْمَاءٍ فهن مَطَالِعُ «2»
وقوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ يُفهم منه: أن من عظم قدره تبكي على فقده السموات والأرض ومَن فيهن، في عالم الحس، الذي هو عالم الأشباح، وتفرح به أهل السموات السبع في عالم الأرواح
(1) ورد: وكلّ نعيم فيها ليس بدائم.
(2)
البيتان للجيلى. انظر: النادرات العينية/ 69.