الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَن مات عن رؤية نفسه قامت قيامته بلقاء ربه وشهوده. وقوله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ أي: قمر الإيمان فإنه إذا أشرقت عليه شمس العيان، لم يبقَ لنوره أثر، ليس الخبر كالعيان، وإن يَرَوا- أي: أهل الغفلة والحجاب- آيةً تدل على طلوع شمس العيان على العبد المخصوص، يُعرضوا منكرين، وَيَقُولُوا: هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.. الآية، وكل أمر قدّره الحق- تعالى في الأزل، من أوقات الفتح أو غيره، مستقر، يستقر ويقع في وقته، لا يتقدّم ولا يتأخّر، فلا ينبغي للمريد أن يستعجل الفتح قبل إِبَّانِه، فربما عُوقب بحرمانه، ولقد جاءهم من الأخبار عن منكري أهل الخصوصية، وما لحق أهلَ الانتقاد من الهلاك أو الطرد والبُعد ما فيه مزدجر، كما فعل بابن البراء وأمثاله، حكمة من الله بالغة، وسنة ماضية، يقول:«مَنْ آذَى لِي وليا فقد آذن بالحرب» فما تُغن النُذر إذا سبق الخذلان، فتولّ أيها السالك عنهم، وعن خوضهم، واشتغل بالله عنهم فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، واذكر الموت وما بعده، فإنه حينئذ يظهر عز الأولياء، وذل الأغبياء، يقولون: هذا يوم عسر على مَن طغى وتجبر.
ثم سرد قصص الأنبياء، تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم وتفسيرا لقوله: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ فقال:
[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 17]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
يقول الحق جل جلاله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي: قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحاً عليه السلام.
ومعنى تكرار التكذيب: أنهم كذَّبوا تكذيباً عقب تكذيب، كلما خلا منهم قرن مكذِّب، جاء عقبه قرن آخر مكذِّب مثله، وقيل: كذبت قوم نوح الرسل، (فكذَّبوا عبدنا) لأنه من جملتهم. وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع إضافته لنون العظمة تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله، وزيادة تشنيع لمكذِّبيه، وَقالُوا مَجْنُونٌ أي: لم يقتصروا على مجرد التكذيب، بل نسبوه للجنون، وَازْدُجِرَ أي: زجر عن أداء الرسالة بالشتم، وهدّد بالقتل، أو: هو من جملة قولهم، أي: قالوا: هو مجنون وقد ازدجرته الجن، أي: تخبّطته وذهبت بلُبه.
فَدَعا رَبَّهُ حين أيس منهم أَنِّي مَغْلُوبٌ أي: بأني مغلوب من جهة قومي، بتسليطهم عليّ، فلم يسمعوني، واستحكم اليأس من إجابتهم. قال القشيري: مغلوب بالتسلُّط لا بالحجة، إذ الحجة كانت له. هـ. وهذا جار فيمن لم يستجب لك، تقول: غلبني. ثم دعا عليهم بقوله: فَانْتَصِرْ فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم، وذلك بعد تحقُّق يأسه منهم وعظم إذايتهم. فقد رُوي أن الواحد منهم كان يلقاه فيضربه حتى يغشى عليه، فيقول:
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ منصب بكثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً، قال يمان: حتى طبق بين السماء والأرض «1» ، وقيل: كانوا يطلبون المطر سنين، فأُهلكوا بمطلوبهم. وفتح الأبواب كناية عن كثرة الأمطار، وشدة إنصابها، وقيل: كان في السماء يومئذ أبواب حقيقة.
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، وهو أبلغ من قولك: وفجرنا عيون الأرض، ومثله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «2» في إفادة العموم والشمول، فَالْتَقَى الْماءُ أي: مياه السماء ومياه الأرض، وقرىء:«الماءان» «3» ، أي: النوعان من الماء السمائي والأرضي. عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي: قُضي في أم الكتاب، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان، أو: قدر أنّ الماءين يكون مقدارهما واحداً من غير تفاوت. قيل: كان ماء السماء بارداً كالثلج، وماء الأرض مثل الحميم، ويقال: إنّ الماء الذي نبع من الأرض نضب، والذي نزل من السماء بَقِيَ حارّاً.
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ أي: أخشاب عريضة، والمراد: السفينة، وهي من الصفات التي تقوم مقام موصوفها كالشرح له، وهو من فصيح الكلام ومن بديعه، وَدُسُرٍ ومسامير، جمع: دسار، وهو المسمار، فِعال مِن: دسره: إذا دفعه لأنه يدسَر به مَنفذه. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي. بمرأىً منا، أو: بحفظنا، وهو حال من فاعل «تجري» ، أي: تجري محفوظة جَزاءً مفعول له، أي: فعلنا ذلك جزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ وهو نوح عليه السلام، وجعله مكفوراً لأن النبي نعمة من الله ورحمة، فكان نوح نعمة مكفورة. وقرأ مجاهد بفتح الكاف، أي: عقاباً لمَن كَفَرَ بالله. قيل: ما نجا من الغرق إلَاّ عُوج بن عُنُق، كان الماء إلى حجزته «4» ، وسبب نجاته: أنّ نوحا احتاج إلى
(1) ذكره البغوي فى تفسيره 7/ 428.
(2)
من الآية 4 من سورة مريم.
(3)
عزاها فى مختصر ابن خالويه، وزاد فى البحر المحيط (8/ 175) علىّ والحسن ومحمد بن كعب.
(4)
الحجزة: موضع التكة من السروال.
خشب الساج للسفينة، فلم يمكنه نقلها، فحمل عُوج تلك الخشب إليه من الشام، فشكر الله له ذلك، ونجّاه من الغرق.
قاله الثعلبي «1» . قلت: وقد تقدّم إبطاله في سورة العقود «2» ، وأنه من وضع الزنادقة. ذكره القسطلاني.
وَلَقَدْ تَرَكْناها أي: السفينة، أو: الفعلة، أي: جعلناها آيَةً يَعتبر بها مَن يقف على خبرها. وعن قتادة:
أبقاها الله بأرض الجزيرة، وقيل: على الجُوديَّ، حتى رآها أوائل هذه الأمة «3» . فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ من متعظ يتعظ ويعتبر، وأصله: مذتكر، فأبدلت التاء دالاً مهملة، وأدغمت الذال فيها لقرب المخرج، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟! استفهام تعظيم وتعجيب، أي: كان عذابي وإنذاري لهم على هيئة هائلة، لا يُحيط بها الوصف، والنّذر:
جمع نذير، بمعنى الإنذار.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي: سهّلناه للادّكار والاتعاظ بأن شحنَّاه بأنواع المواعظ والعِبر، وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد ما فيه شفاء وكفاية. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه، أي: فهل من متعظ يقبل الاتعاظ، وقيل: ولقد سهّلناه للحفظ، وأعنّا مَن أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليُعان عليه؟ قال القشيري: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ يسَّر قراءته على ألسنة قوم، وعِلْمَه على قوم، وفهمه على قلوب قوم، وحِفْظه على قلوب قوم، وكلهم أهل القرآن، وكلهم أهل الله وخاصته. ويقال: كاشَفَ الأرواح من قومٍ قبل إدخالها في الأجساد، فهل من مُدكر يذكر العهد الذي جرى لنا معه؟. هـ.
ويروى: أن كتب أهل الأديان من التوراة في الإنجيل والزبور لا يتلوها أهلها إلا نظراً، ولا يحفظونها ظاهراً كالقرآن، وفي القوت: مما خصَّ اللهُ به هذه الأمة ثلاثة أشياء: حفظ كتابنا هذا، إلا ما ألهم اللهُ عزيزاً من التوراة بعد أن كان بختنصّر أحرق جميعها، ومنها: تبقية الإسناد فيهم، يأثره خلف عن سلف، متصلاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يستنسخون الصُحف، كلما خلقت صحيفة جُددت، فكان ذلك أثرة العلم فيهم، والثالثة: أن كان مؤمن من هذه الأمة يسئل عن علم الإيمان، ويُسمع قوله مع حداثة سنه، ولم يكن مما مضى يسمعون العلم إلا مِن الأحبار والقسيسين والرهبان. وزاد رابعة: وهي ثبات الإيمان في قلوبهم، لا يعتوره شك، ولا يختلجه شرك، مع تقليب الجوارح في المعاصي. وقد قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً «4» بعد أن رأوا الآيات العظيمة، من انفلاق البحر وغيره. هـ. قال أبو السعود: وحمل تيسيره على حفظه لا يساعده المقام. هـ.
(1) وذكره القرطبي فى تفسيره (7/ 6489) .
(2)
لم يذكر الشيخ شيئا عن عوج بن عنق فى تفسير سورة المائدة. وقد ولع بعض المفسرين بذكر قصة عوج عند تفسير قوله تعالى:
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها المائدة/ 22. وقد بين العلماء زيف ما نقل فى هذه القصة. راجع فى هذا، الإسرائيليات والموضوعات للدكتور محمد أبى شهبة/ 186. [.....]
(3)
أخرجه ابن جرير (27/ 95) وعزاه السيوطي فى الدر (6/ 180) لعبد الرّزّاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
من الآية 138 من سورة الأعراف.