الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وطاعته، أو: ذهب بنفسه وتكبّر وتعاظم، والتحقيق: أن المراد بالجانب النفس، فكأنه قال: وتباعد بنفسه عن شكر ربه، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ الفقر والضر، فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي: تضرُّع كثير، أي: أقبل على دوام الدعاء والابتهال. ولا منافاة بين قوله: فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ وبين قوله: فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ لأن الأول في قوم، والثاني في قوم، أو: قَنوط في البَر، وذو دعاء عريض في البحر، أو: قَنُوط بالقلب، وذو دعاء باللسان، أو: قَنُوط من الصنم، وذو دعاء لله تعالى.
الإشارة: اللائق بالأدب أن يكون العبد عند الشدة داعياً بلسانه، راضياً بقلبه، إن أجابه شكر، وإن منعه انتظر وصبر، ولا ييأس ولا يقنط، فإنه ضَمِنَ الإجابة فيما يريد، لا فيما تريد، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد، وإن فرّج عنك نسبتَ النعمةَ إليه، دون شيء من الوسائط العادية، هذا ما يُفهم من الآية، وتقدّم الكلام عليها في سورة هود «1» . والله التوفيق.
ثم وبّخ من أعرض عن النظر، فقال:
[سورة فصلت (41) : الآيات 52 الى 54]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
يقول الحق جل جلاله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ جحدتم أنه من عند الله، مع تعاضد موجبات الإيمان به، مَنْ أَضَلُّ منكم؟ فوضع قوله: مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ موضعه، شرحاً لحالهم، وتعليلاً لمزيد ضلالهم.
سَنُرِيهِمْ آياتِنا الدالة على حقيَّتِه وكونه من عند الله، فِي الْآفاقِ من فتح البلاد، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الحوادث الآتية، وآثار النوازل الماضية، وما يسَّر الله تعالى له ولخلفائه من الفتوحات، والظهور على آفاق الدنيا، والاستيلاء على بلاد المشارق والمغارب، على وجه خَرْق العادة، وَنريهم فِي أَنْفُسِهِمْ ما ظهر من فتح مكة وما حلّ بهم.
(1) راجع تفسير الآيات: 9- 11 من سورة هود. (2/ 514- 515) .
وقال ابن عباس: في الآفاق: منازل الأمم الخالية وآثارهم، وفي أنفسهم: يوم بدر. وقال مجاهد وغيره: في الآفاق: ما يفتح الله من القرى على نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وفي أنفسهم: فتح مكة. وقيل: الآفاق: في أقطار السموات والأرض، من الشمس، والقمر، والنجوم، وما يترتب عليها من الليل، والنهار، والأضواء، والظلال، والظلمات، ومن النبات، والأشجار، والأنهار، وَفِي أَنْفُسِهِمْ: من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، من تكوين النطفة في ظلمات الأرحام، وحدوث الأعضاء العجيبة، والتركيبات الغريبة، كقوله تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ
…
«1» .
وعبّر بالسين مع أن إراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك، بمعنى أن الله- تعالى- سيُطلعهم على تلك الآيات زماناً فزماناً، ويَزيدهم وقوفاً على حقائقها يوماً فيوماً، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ بذلك أَنَّهُ الْحَقُّ أي: القرآن، أو:
الإسلام، أو: التوحيد، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، توبيخ على تردُّدهم في شأن القرآن، وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات، وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى. والهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّر يقتضيه المقام، أي: أَلَمْ يُغن ولم يكف ربك. والباء: مزيدة للتأكيد، ولا تكاد تزاد إلا مع «كفى» .
و (أنه
…
) الخ: بدل منه، أي: ألم يُغنهم عن إراءة الآيات المبنية لحقيّة القرآن ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى- شهيد على كل شيء، وقد أخبر أنه من عنده. وقيل: معناه: إن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه فيتيقنون عند ذلك أن القرآن تنزيل من عالم الغيب الذي هو على كل شيءٍ شهيدٌ.
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ شك عظيم مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ فلذلك أنكروا القرآن، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ عالم بجميع الأشياء وتفاصيلها، وظواهرها، وبواطنها، فلا يخفى عليه خافية منهم، وهو مجازيهم على كفرهم وشكهم، لا محالة.
الإشارة: قد اشتملت الآية على مقام الاستدلال في مقام الإيمان، وعلى مقام العيان في مقام الإحسان، أي:
سنُريهم آياتنا الدالة على وجودنا في الآفاق، وفي أنفسهم، أي: في العوالم المنفصلة والمتصلة، حتى يتبين لهم أنه الحق، أي: وجوده حق، لأن الصنعة قطعاً تحتاج إلى صانع، ثم رقَّاهم إلى مقام المراقبة بقوله: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، ثم زاد إلى المشاهدة بقوله: أَلا إِنَّهُمْ أي: أهل الجهل بالله، فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ في الدنيا، بحصول الفناء، فيفنى وجود العبد في وجود الحق، أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ محيط، فبحر العظمة أحاط بكل شيء، وأفنى كل شيء، ولم يبقَ مع وجوده شىء.
(1) من الآية 21 من سورة الذاريات. وانظر تفسير البغوي (7/ 179) وابن كثير (4/ 105) .
وفي الحِكَم: «ما حَجَبَكَ عن الله وجود موجود معه إذ لا شيء معه، وإنما حجبك توهُّم موجود معه» «1» وقال أيضاً: «الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته» فأحدية الذات محت وجودَ الأشياء كلها، ولم يبقَ إلا القديم الأزلي.
وقال القطب ابن مشيش لأبى الحسن رضي الله عنه: يا أبا الحسن، حدِّدْ بصرَ الإيمان تَجد الله في كل شيء، وعند كل شيء، ومع كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وفوق كل شيء، وتحت كل شيء، وقريباً من كل شيء، ومحيطاً بكل شيء، بقُرب هو وصَفْهُ، وبحيطة هي نعتُه، وَعَدّ عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة والقرب في المسافات، وعن الدَّوْر بالمخلوقات، وامْحَق الكلَّ بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو هو هو، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. هـ.
وقوله: وعد عن الجهات: جاوز عن اعتقادها إذ لا ظرف، ولا حد، ولا مكان، ولا جهة، إذ الكل عظمة ذاته، وأنوار وصفاته، والحد إنما يتصور في المحدود، ولا حد لعظمة ذاته ولا نهاية، ولا يحصرها مكان، ولا جهة إذ الكل منه وإليه وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد، عين بحر التحقيق، وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليما «2» .
(1)(حكمة 137) انظر الحكم بترتيب المتقى الهندي (ص 34) .
(2)
فى آخر المجلد الثالث فى المخطوطة الأم، والمحفوظة بمكتبة السيد الفريق حسن التهامي مايلى:
كمل الجزء الثالث بحول الله وقوته، ووافق الفراغ من تبييضه يوم الأربعاء، تاسع رمضان، عام تسعة عشر ومائتين وألف، والحمد لله رب العالمين. انتهى استخراجه من مبيضته بحمد الله وتوفيقه عشية الأربعاء، السادس عشر من رمضان المعظم، موافقا لتاريخ التبييض من هاك العام، وعلى نبينا محمد أزكى الصلاة والسّلام.