الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَرَبِّنا
إنه لحق، أكدوا جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقيقتهما كما في الدنيا، وأنَّى لهم ذلك؟ قالَ تعالى لهم: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بها في الدنيا، ومعنى الأمر: الإهانة بهم والتوبيخ لهم، نعوذ بالله من موارد الهوان.
الإشارة: تربية اليقين تطلب في أمرين، حتى يكونا كرأي العين: وجود الحق أو شهوده، وإتيان الساعة وقربها، حتى تكون نُصب العين، وتقدّم حديث حارثة شاهداً على إيمانه، حيث قال: «وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون
…
» الحديث.
ثم أمر بالصبر على ما يسمع من الكفرة، فى إمكان البعث وغيره، فقال:
[سورة الأحقاف (46) : آية 35]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
قلت: لَهُمْ: متعلق بتستعجل، وأما تعليقه ببلاغ فضعيف، لا يليق بإعجاز التنزيل، خلافاً لوقف الهبطي، وبَلاغٌ: خبر عن مضمر، أي: هذا بلاغ.
يقول الحق جل جلاله: فَاصْبِرْ يا محمد على ما يُصيبك من جهة الكفرة كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ أي: الثبات والحزم مِنَ الرُّسُلِ، فإنك مِن جملتهم، بل من أكملهم وأفضلهم، و «من» للتبعيض، واختلف في تعيينهم، فقيل: هم المذكرون في الأحزاب وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ «1» وهم أهل الشرائع، الذي اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمُّل مشاقها، وسياسة مَن تمسّك بها، ومعاداة الطاعنين فيها. وقيل: هم الصابرون على بلاء الله تعالى، كنوح صَبَر على إذاية قومه، كانوا يضربونه حتى يُغشى عليه، وإبراهيم صبر على النار، وذَبْحِِ ولده، ومفارقة وطنه، وترك ولده ببلد خالية من العمران، ويعقوب على فقد ولده، وذهَاب بصره، ويوسف على الجُب والسجن، وأيوب على الضُر، وموسى قال له قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «2» وعلى مكابدة التيه مع قومه، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة.
(1) الآية 7 من سورة الأحزاب.
(2)
الآيتان 61، 62 من سورة الشعراء.
وقيل: هم اثنا عشر نبياً، أُرسلوا إلى بني إسرائيل، فعصوهم، فأوحى الله إلى الأنبياء: إني مرسل عذابي على عصاة بني إسرائيل، فشقَّ عليهم، فأوحى الله إليهم: أن اختاروا لأنفسكم، إن شئتم أنزلتُ بكم العذاب، وأنجيت بني إسرائيل، وإن شئتم أنجبتكم وأنزلت ببني إسرائيل، فتشاوروا بينهم، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب ويُنجي بني إسرائيل، فسلّط عليهم ملوك الأرض، فمنهم مَن نُشر بالمناشير، ومنهم مَن سُلخ جلدة رأسه ووجهه، ومنهم مَن رُفع على الخشب، ومنهم مَن أُحرق بالنار. نسأل الله العافية، فإنهم أقوياء ونحن ضعفاء.
وقيل: «من» للتبيين، كقولك: اشتريت ثياباً من الخز، فكلهم أولو العزم، وقيل: إلا يونس، لقوله: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «1» وآدم لقوله: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «2» .
ثم قال تعالى: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي: لكفار مكة نزول العذاب، فإنه نازل بهم، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً يسيرة مِنْ نَهارٍ لما يُشاهدونه من شدة العذاب وطول مدته. قال الثعالبي: وإذا علمت أيها الأخ أن الدنيا أضغاث أحلام، كان من الحزم اشتغالك الآن بتحصيل الزاد للمعاد، وحفظ الحواس، ومراعاة الأنفاس، ومراقبة مولاك، فاتخذه صاحبا، ودع الناس جانبا، ثم نقل عن الغزالي ما يهيج النفس إلى النهوض إلى الله، والفرار مما سواه، فانظره.
هذا بَلاغٌ أي: هذا الذي وُعظتم به كفاية في الموعظة، أو تبليغ من الرسول، أو مني إليك، ومنك إلى العالمين. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أي: ما يُهلك إلا الخارجون عن هذا الاتعاظ، أو عن هذه المواعظ، أو عن الطاعة، أو: فلا يهلك مع هذه المواعظ البالغة، والأدلة القاطعة إلا مَن هلك عن بينة، أو: فلا يهلك مع رحمة الله وتفضُّله إلا الهالكون، ونظير ما ختم به هنا ما ختم به سورة الأنبياء: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ الآية «3» .
فائدة: قال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها، فليكتب هاتين الآتين الكريمتين في صحيفة، ثم تغسل وجهها منها، وتُسقى منها: بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، العظيم الحليم، سبحان الله رب السموات والأرض، ورب العرش العظيم، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاّ عشية أو ضحاها، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ. صدق الله العظيم. هـ.
(1) الآية 48 من سورة القلم.
(2)
الآية 115 من سورة طه.
(3)
الآية 106 من سورة الأنبياء. [.....]
الإشارة: أولو العزم من الأولياء هم أولو الجد والتشمير، قد خلّصهم البلاء وشحّرهم، فهم جلاليون الظاهر، جماليون الباطن، قد أسّسوا منار الطريق، وأظهروا معالم التحقيق، قاسوا شدائد المجاهدة، وأفضوا إلى دوام المشاهدة، عالجوا سياسة الخلق، حتى هدى الله على أيديهم الجم الغفير، فهم خلفاء الرسل في تجديد الشرائع، وإحياء الدين- جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. فيُقال لكل وليّ من أولي العزم: فاصبر كما صبر أولو العزم من الأولياء قبلك.
قال القشيري: والصبرُ هو الوقوفُ لحكم الله تعالى، والثبات من غير بَثّ الاستكراه. هـ. أي: من غير إظهار الشكوى والتذكرة. قلت: وأعظم مواطن الصبر عند ورود الفاقات، وتوالي الأزمات، وصيانة الوجه عن ذل المخلوقات، ولله در القائل.
اِرض بِأدْنَى الْعَيْشِ وَاشْكر عَلَيْهِ
…
شُكْرَ مَن الْقلُّ كَثيرٌ لَدَيْهِ
وجَانِب الْحرص الَّذِي لَمْ يَزَل
…
يَحُطُّ قَدْرَ الْمتَراقِي إِلَيهِ
وحَامِ عَنْ عِرْضِكَ وَاسْتَبقهِ
…
كَمَا يُحامي اللَّيْثُ عَنْ لُبْدَتَيْهِ
واصبر على ماناب مِن نوبٍ
…
صَبْرَ أُولِي الْعَزْمِ، وَاغْمِضْ عَلَيْهِ
ولبدتي الأسد: جانبا كتفيْه.
ويُقال لأُولي العزم، حين يُؤذون من جهة الخلق: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ
…
الآية. وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ
…
الآية، قال القشيري: مُدةُ الخلق من مبتدأ خلقتهم إلى مُنتهى آجالهم، بالإضافة إلى الأزلية، كلحظةٍ، بل هي أقلُّ، إذ الأول لا ابتداء له ولا انتهاء، وأيّ خَطَرٍ لما حصل في لحظةٍ.. خيراً كان أو شرًّا؟. هـ.
قال الورتجبي، ثم بيَّن أن عند معاينة سطوات القهريات، لا يهلك فيها إلا الخارجون من نعوت استعداد معرفتي، حين يحتجبون بظلمات نعوتهم «1» بقوله: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون بالدعاوى الباطلة. هـ. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
(1) فى الورتجبي: ظنونهم.