الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: ما عرف الله حق معرفته مَن أثبت الكائنات معه، وهي ممحوة بأحدية ذاته، لا وجود لها معه على التحقيق، فالأرض قبضة أسرار ذاته، والسماوات محيطاتُ أفلاك أنواره، وبحر الذات مطبق على الجميع، ماحٍ للكل، وأنشدوا:
فَالْكُلُّ دون اللهِ إِن حقيقته
…
عَدم عَلَى التفصيلِ والإجمالِ
وَاعلَمْ بأنَّكَ والعَوالِمَ كُلَّها
…
لَوْلَاهْ فِي مَحْوٍ وَفِي اضْمِحْلَالِ
مَن لَا وجُودَ لذاتهِ مِنْ ذاتِهِ
…
فوجُودُهُ لولاهُ عينُ مُحالِ
وقال آخر:
مَن أبصرَ الخلقَ كالسرابِ
…
فقَد تَرقَّى عن الحجابِ
إِلى وُجودٍ تراهُ رَتْقاً
…
بِلَا ابتعادٍ ولا اقْتِرابِ
ثم تمم أحوال القيامة، فقال:
[سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 70]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَاّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)
يقول الحق جل جلاله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ النفخة الأولى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي: خرّ ميتاً، أو مغشياً عليه، إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يُميتهم الله بعد ذلك، وقيل: حمَلَة العرش، وقيل: خزَنة النار والجنة «1» .
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى هي النفخة الثانية. و «أخرى» : في محل الرفع صفة لمحذوف، أي: نفخ نفخة أخرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ من قبورهم، حال كونهم إذا فاجأهم خطب يَنْظُرُونَ يُقلبون أبصارهم في الجوانب
(1) راجع تفسير الآية 87 من سورة النّمل.
الأربعة، كالمبهوتين، أو: ينظرون ما يفعل بهم، ودلت الآية على أن النفخة اثنتان للموت، والبعث، وقيل: ثلاث للفزع، والموت، والبعث.
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ أضاءت بِنُورِ رَبِّها حين يتجلّى لفصل عباده، فتُشرق الأرض- أي: عرَصَات القيامة- بنور وجهه، ويقال: إن الله يخلق في القيامة نوراً يلبسه وجهَ الأرض، فتشرق به. قال في الحاشية الفاسية: وهذا القول هو الذي اختاره محيي السنة، وانتصر له الطيبي، بما ورد من الأحاديث المقتضية لرؤيته في عرصات القيامة، قال: وما تعسف الزمخشري، من حمل النور على العدل، إلا فراراً من ذلك. هـ. قال القشيري:
هو نور يخلقه في القيامة، عند تكوير الشمس، وانكدار النّجوم، ويستضيىء به قومٌ دون قوم، والكفارُ يَبْقَون في الظلمة، والمؤمنون: يَسْعى نُورُهُمْ
…
الآية «1» . ويقال: غداً إشراق الأرض، واليوم إشراق القلب، غداً أنوار التولي، واليوم أنوار التجلي. هـ.
وقال السدي: بعدله، على الاستعارة، يقال للملك العادل: أشرقت الأرض بعدله، كما استعيرت الظلمة للظُلم.
وفي الحديث: «الظلم ظلمات يوم القيامة» «2» .
وَوُضِعَ الْكِتابُ أي: صحائف الأعمال. اكتفى باسم الجنس، أو: كتاب المحاسبة والجزاء. وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم، وَالشُّهَداءِ أي: الحفظة، ليشهدوا على كل إنسان بما عمل، والذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة إذا جحدتهم أممهم، أو: الذين استُشهدوا في سبيل الله. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ:
بين العباد بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب، أو زيادة عقاب. قال ابن عطية: الضمير في بَيْنَهُمْ عائد على العالم بأجمعه. هـ. فيقتضي دخول الملائكة، ويتصور القضاء في حقهم، من حيث جعلوا حفظة على العباد، وأمناء على الوحي والتبليغ، وغير ذلك من ترتيبهم في مقاماتهم، وترقيهم في علومهم، وتفاوتهم في ذلك. وفي وجوه تخصيصاتهم وتصديقهم في التبليغ، ورد ما استندوا فيه لظواهر الأمور، مع علمه تعالى خلافه، مما لا اطلاعَ لهم عليه. قاله في الحاشية.
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما عَمِلَتْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فلا يفوته شيء من أفعالهم. ومضمون الآية: تصوير التعرُّض للقضاء بين العباد على ما هو شأن الملك، من إحضار الشهود وخواص حضرته، حين يبرز لذلك، ويشهده الظالم والمظلوم، وإن كان كنه معرفته موكولاً إليه، ثم من لوازم ذلك العدل. والله تعالى أعلم.
(1) الآية 12 من سورة الحديد.
(2)
أخرجه البخاري فى (المظالم، باب الظلم ظلمات يوم القيامة ح 2447) ومسلم فى (البر، باب تحريم الظلم، 4/ 1996، ح 2579) من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه.