الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يسألون أيّان يومُ الدين لطول أملهم، أو يسألون أيَّان يوم الجزاء على المجاهدة. قال تعالى: هو (يوم هم) أي:
أهل الغفلة- على نار القطيعة أو الشهوة يُفتنون بالدنيا وأهوالها، والعارفون منزَّهون في جنات المعارف. ويقال للغافلين: ذُوقوا وبال فتنتكم، وهو الحجاب وسوء الحساب، هذا الذي كنتم به تستعجلون، بإنكاركم على أهل الدعوة الربانيين، فتستعجلون الفتح من غير مفتاح، تطلبون مقام المشاهدة من غير مجاهدة، وهو محال في عالم الحكمة «1» . وبالله التوفيق.
ثم ذكر أضدادهم، فقال:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 19]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
يقول الحق جل جلاله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ عظيمة، لا يبلغ كُنهها، ولا يُقادر قدرها، ولعل المراد بها الأنهار الجارية، بحيث يرونها، ويقع عليها أبصارهم، لا أنهم فيها، آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي:
نائلين ما أعطاهم راضين به، بمعنى أنَّ كلَّ ما يأتهم حسَنٌ مرضي، يتلقى بحسن القبول، إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا مُحْسِنِينَ متقنين لأعمالهم الصالحة، آتين بها على ما ينبغي، فلذلك نالوا ما نالوا من الفوز العظيم، ومعنى الإحسان ما فسره به عليه الصلاة والسلام:«أن تعبد الله كأنك تراه» الحديث «2» . ومن جملته ما أشار إليه بقوله:
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي: كانوا يهجعون، أي: ينامون في طائفة قليلة من الليل، على أن «قليلاً» ظرف أو كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً، على أنه صفة لمصدر، و «ما» مزيدة في الوجهين، ويجوز أن تكون مصدرية مرتفعة ب «قليلاً» على الفاعل، أي: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم. وقال النسفي: يرتفع هجوعهم على البدل من الواو في «كانوا» لا بقليلاً لأنه صار موصوفاً بقوله: مِنَ اللَّيْلِ فبعد من شبه الفعل وعمله، ولا يجوز أن
(1) على هامش النّسخة الأساسية مايلى: ليس بمحال، وكم من واحد جذبته العناية الإلهية وانتشلته.... الغفلة والظلمات فأصبح على بساط القرب والمشاهدة دون أدنى مجاهدة، بل نص العارفون على أن طريق المجاهدة انقطعت، ولم يبق إلا طريق المحبة بعد جذب العناية الإلهية. هـ. [.....]
(2)
جزء من حديث سؤال سيدنا جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان، وهو حديث مشهور. أخرجه البخاري فى (الإيمان باب سؤال جبريل النّبى عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، ح 50) ومسلم فى (الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان رقم 9، ح 5) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
تكون «ما» نافية على معنى: أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ويُحْيُونه كله. هـ. أو كانوا ناساً قليلاً ما يهجعون من الله لأن «ما» النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، ولأن المحسنين وهم السابقون كانوا كثيراً في الصدر الأول، وموجودون في كل زمان ومكان، فلا معنى لقلتهم، خلافاً لوقف الهبطي، وأيضاً: فمدحهم بإحياء الليل كله مخالف لحالته صلى الله عليه وسلم، وما كان يأمر به.
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وصفهم بأنهم يحيون جُل الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار من رؤية أعمالهم. والسَحر: السدس الأخير من الليل، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يُوصفوا بالاستغفار، كأنهم المختصون به، لاستدامتهم له، وإطنابهم فيه.
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ أي: نصيب وافر، يُوجبونه على أنفسهم، تقرُّباً إلى الله تعالى، وإشفاقاً على الناس، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أي: لمَن يُصرح بالسؤال لحاجة، وللمتعفف الذي يتعرّض ولا يسأل حياءً وتعففاً، يحسبه الناس غنيّاً فيحرم نفسه من الصدقة. وقد تكلم في نوادر الأصول «1» على مَن سأل بالله، أي: قال: أعطني لوجه الله، هل يجب إعطاؤه أم لا؟، وفي الحديث:«مَن سألكم بالله فأعطوه» «2» . قال: وهو مُقيد بما إذا سأل بحق، أي:
لحاجة، وأما إذا سأل بباطل- أي: لغير حاجة- فإنما سأل بالشيطان لأن وجه الله حق. ثم ذكر كلام عليّ شاهداً، «3» ثم حديث معاذ:«مَن سألكم بألله فأعطوه، فإن شئتم فدعوه» ، قال معاذ: وذلك أن تعرف أنه غير مستحق، وإذا عرفتم أنه مستحق، وسأل فلم تعطوه فأنتم ظَلَمة. وأُلحِقَ بغير المستحق مَن اشتبه حاله لتعليق الظلم على معرفة الاستحقاق خاصة.
وقال النووي في الأذكار: يُكره منع مَن سأل بالله، وتشفَّع به لحديث:«مَن سأل بالله فأعطوه» قال: ويكره أن يسأل بوجه الله عير الجنة. هـ. وفي حديث المنذري: «ملعونٌ مَن سأل بوجه الله، وملعونٌ مَن سأل بوجه الله، ثم مَنَعَ سَائِلَهُ ما لم يَسْأَلْ هُجْراً» «4» . وقال في كتابه «الأخبار» على قوله عليه الصلاة والسلام: «من سألكم بالله فأعطوه» إجلالاً لله تعالى، وتعظيماً، وإيجاباً لحقه. ثم قال: إذ ليس يجب إعطاء السائل إذا كان في معصية أو
(1) الأصل التاسع عشر والمائتان (فى الاستعاذة بالله تعالى، 2/ 187- 188) .
(2)
جزء من حديث أخرجه أحمد فى المسند (2/ 68) وأبو داود فى (الزكاة، باب عطية من سأل بالله، ح 1672) والحاكم فى المستدرك (1/ 412)«وصحّحه وأقره الذهبي» من حديث ابن عمر رضي الله عنه وكذا أخرجه الطبراني فى الكبير (12/ 397) والبيهقي (4/ 199) . وفى أوله: «من استعاذ بالله فأعيذوه
…
» الحديث.
(3)
قال الحكيم الترمذي: «سأل رجل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه شيئا، فلم يعطه فقال: أسألك بوجه الله تعالى، فقال له: كذبت، ليس بوجه الله سألتى، إنما وجه الله الحق، ولكن سألت بوجهك الخلق» .
(4)
ذكره المنذرى فى الترغيب والترهيب (ح 1246) وعزاه للطبرانى، من حديث أبى موسى الأشعري. قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (3/ 103) :«رواه الطبراني فى الكبير، وإسناده حسن، على ضعف فى بعضه مع توثيق» .
وقوله «هجرا» بضم الهاء وسكون الجيم: أي: ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق، ويحتمل أنه أراد: ما لم يسأل سؤالا قبيحا بكلام قبيح.
فضول، فمَن سأل بالله فيما ليس عليه ولا عليك فرضه، فإعطاؤك إياه لإجلال حق الله وتعظيمه، وليس عليك بفرض ولا حتم. انظر تمامه في الحاشية الفاسية.
الإشارة: إنَّ المتقين ما سوى الله في جنات المعارف، وعيون العلوم والأسرار. قال القشيري: في عاجلهم في جنة الوصل، وفي آجلهم في جنة الفضل، فغداً نجاة ودرجات، واليوم قربات ومناجاة. هـ. (آخذين ما آتاهم ربهم) من فنون المواهب والأسرار، وغداً من فنون التقريب والإبرار، راضين بالقسمة، قليلة أو كثيرة. إنهم كانوا قبل ذلك: قبل الإعطاء، محسنين، يعبدون الله على الإخلاص، يأخذون من الله، ويدفعون به، وله، ولا يردون ما أعطاهم، ولو كان أمثال الجبال، ولا يسألون ما لم يعطهم، اكتفاء بعلم ربهم.
قال القشيري: كانوا قبل وجودهم محسنين، وإحسانهم: كانوا يُحبون الله بالله، يحبهم ويحبونه وهم في العدم، ولمَّا حصلوا في الوجود، كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، كأنَّ نومهم عبادة، لقوله عليه الصلاة والسلام:«نوم العالم عبادة» «1» ، فمن َيكون في العبادة لا يكون نائماً، وهجوع القلب: غفلته، وقلوبهم في الحضرة، ناموا أو استيقظوا، فغفلتهم بالنسبة إلى حضورهم قليلة. وقال سهل رضي الله عنه: أي: كانوا لا يغفلون عن الذكر في حال، يعني هجروا النوم لوجود الأُنس في الذكر، والمراد بالنوم: نوم القلب بالغفلة.
(وبالأسحار هم يستغفرون)، قال القشيري: أخبر عن تهجدهم، وقلة دعاويهم، وتنزُّلهم بالأسحار، منزلةَ العاصين، تصغيراً لقدرهم، واحتقاراً لفعلهم. ثم قال: والسهر لهم فى ليالهم دائم، إما لفرط لهف، أو شدة أسف، وإما لاشتياق، أو للفراق، كما قالوا:
كم ليلةٍ فيك لا صباحَ لها
…
أفنيْتُها قابضاً على كبدي
قد غُصَّت العين بالدموع وقد
…
وضعتُ خدي على بنانِ يدي «2»
وإما لكمال أُنس، وطيب روح، كما قالوا:
سقى الله عيشاً قصيراً مضى
…
زمانَ الهوى في الصبا والمجون «3»
لياليه تحكي انسدادَ لحاظٍ
…
لعيْنيّ عند ارتداد الجفون. هـ. «4»
(1) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس ح 6731) عن عبد الله بن أبي أوفى، بزيادة «ونفسه تسبيح» وعمله مضاعف، ودعاؤه مستجاب، وذنبه مغفور» وأخرجه الديلمي (ح 6734) والبيهقي فى الشعب (ح 3937) بلفظ «الصائم» بدل «العالم» . وانظر كشف الخفاء 2/ 445، والأسرار المرفوعة ص 374.
(2)
القائل هو أحمد بن يوسف، صاحب ديوان الرّسائل فى عهد المأمون. انظر الأغانى (22/ 570) .
(3)
فى الأصول: السجون.
(4)
البيت فى الأصول: [لياليه تحكى إنشاء اللحاظ.. للعين عند ارتداء الجفون] والمثبت هو الذي فى لطائف الإشارات.