الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال أيضاً:
يا قاصداً عَيْنَ الْخَبرْ
…
غطَّاهُ أَيْنَكُ «1»
ارجع لذاتكَ واعْتَبِر
…
ما ثمَّ غيْرَك
الخيرُ منك والخبَرْ
…
والسر عندك
وقوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال الورتجبي: وفي سماء صفاتي رزق أرواحكم، من مشاهدة النور، وغذاء العلم الرباني، وما توعدون من مشاهدة الذات وكشف عيانه. هـ.
قلت: هذا قوت الأرواح، أمّا قوت الأشباح فتجب الغيبة عنه، ثقةً بالله، وتوكلاً عليه. قال في قطب العارفين:
اعلم أنه عز وجل قسَّم الأرزاق في الأزل، وجزّأه على عمر العبد، ووقَّت أوقاته، وحدَّ للعبد ما يأتيه منه في السنة، والشهر، واليوم، والساعة، ف كل ما حدّ لك أن تناله من رزقك عند صلاة العصر، مثلاً، لا تناله عند صلاة الصبح، ولو طلبته بكل حِيلة في السموات والأرض، فإن الطلب لا يجمع، والتوكل لا يمنع. هـ. وقال فيه أيضاً: العارف يجد في نفسه الاعتماد على الله، وإن كانت السماء لا تُمطر، والأرض لا تُنبت
…
، الخ كلامه، ومثله قول ذي النون: لو كانت السماء من زجاج، والأرض من نحاس لا تُنبت شيئاً، ومصر كلها عيالي، ما اهتممتُ لهم برزقٍ لأنَّ مَن خلقهم هو الذي تكفّل برزقهم. هـ. وقال في القطب أيضاً: ومن علامة جهل قلب العالم: خوف شدائد السنيين الآتيات، والاستعداد لها قبل مجيئها، بمصاحبة الاضطراب، وفقد الطمأنينة بالقسمة السابقة، فمَن اتصف بهذه الصفة فقد نازع الربوبية، وانسلخ من العبودية. هـ.
ثم سرد قصص الأمم السالفة، وما جرى عليها لأنّ فيها آيات، فتنخرط فى سلك الآيات المتقدمة، فقال:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 37]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
(1) فى الديوان: (ص 267) غطاه غينك رضي الله عنه.
يقول الحق جل جلاله: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ، استفتح بالاستفهام التشويقي، تفخيماً لشأن الحديث، وتنبيهاً على أنه ليس مما عَلِمَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بغير طريق الوحي. والضيف في الأصل: مصدر: كالزور، والصوع، يصدق بالواحد والجماعة، قيل: كانوا اثني عشر مَلَكاً، وقيل: تسعة عاشرهم جبريل. وجعلهم ضيفاً لأنهم في صورة الضيف، حيث أضافهم إبراهيم، أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك. وقوله الْمُكْرَمِينَ أي: عند الله، لأنهم عباد مكرمون، أو عند إبراهيم، حيث خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، وعجّل لهم القرى.
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ: ظرف للحديث، أو لِمَا في الضيف من معنى الفعل، أو بالمكَرمين، إن فسر بإكرام إبراهيم لهم، فَقالُوا سَلاماً أي: نُسلم عليك سلاماً، قالَ إبراهيم: سَلامٌ أي: عليكم سلام. عدل به إلى الرفع بالابتداء للقصد إلى الثبوت والدوام حتى تكون تحيته عليه السلام أحسن من تحيتهم، وهذا أيضاً من إكرامه، قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي: أنتم قوم مُنكَرون، لا نعرفكم، فعرّفوني مَن أنتم. قيل: إنما أنكرهم لأنهم ليسوا ممن عهدهم مِن الناس، أو: لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس، وقيل: إنما قال ذلك سِرّاً ولم يخاطبهم به، وإلا لعرّفوه بأنفسهم.
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي: ذهب إليهم في خِفيةٍ من ضيوفه، فالروغان: الذهاب بسرعة، وقيل: في خفية. ومن آداب المضيف أن يبادر الضيف: بالقِرَى، وأن يخفى أمره من غير أن يشعر به الضيف، حذراً من أن يكفّه، وكان عامة مال إبراهيم البقر. فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، الفاء فصيحة تُفصح عن جُملٍ حّذفت لدلالة الحال عليها، وإيذاناً بكمال سرعة المجيء، أي: فذبح عجلاً فَحَنَذَه «1» ، فجاء به، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، بأن وضعه بين أيديهم، حسبما هو المعتاد، فلم يأكلوا، ف قالَ أَلا تَأْكُلُونَ، أنكر عليهم ترك الأكل، أو: حثَّهم عليه، فَأَوْجَسَ أضمر مِنْهُمْ خِيفَةً خوفاً، لتوهم أنهم جاءوا للشر لأن مَن لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمِامك. عن ابن عباس رضي الله عنه: وقع في نفسه أنهم ملائكة أُرسلوا للعذاب، قالُوا لا تَخَفْ إنَّا رُسل الله. قيل: مسح جبريل العِجْل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه «2» ، فعرفهم وأمِن منهم، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي: يبلغ ويكون عالما، وهو إسحاق عليه السلام.
(1) أي: شواه، انظر اللسان (حنذ 2/ 1021) .
(2)
رواه عون بن أبى شداد، فيما ذكره القرطبي (7/ 6402) .
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة لمَّا سمعت بشارتهم إلى بيتها، وكانت في زاوية منه تنظر إليهم، فِي صَرَّةٍ صيحة، من الصرير، وهو الصوت، ومنه: صرير الباب وصرير الأقلام. قال الزجَّاج: الصرّة: شدّة الصياح. وفي القاموس الصرّة: - بالكسر: أشد الصياح، وبالفتح: الشدة من الكرب والحزن والحر والعطفة والجماعة وتغضيب الوجه. هـ. ومحله النصب على الحال، أي: فجاءت صارة، وقيل: صرتها: قولها: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ
…
«1»
أو: فجاءت مغضّبة الوجه، كما هو شأن مَن يُخبر بشيء غريب، استبعاداً له، فَصَكَّتْ وَجْهَها لطمته ببسط يدها، وقيل: ضربت بأطراف أصابعها جبهتها، فعل المتعجِّب، وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي: إنها عجوز عاقر، فكيف ألد؟!.
قالُوا كَذلِكَ أي: مثل ما قلنا وأخبرناك به قالَ رَبُّكِ أي: إنما نخبرك عن الله تعالى، والله قادر على ما يُستعبد، إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ في فعله، الْعَلِيمُ فلا يخفى عليه شيء، فيكون قوله حقاً، وفعله متقناً لا محالة.
رُوي أن جبريل عليه السلام قال لها حين استبعدت: انظري إلى بيتك، فنظرت، فإذا جُذوعُهُ مورقة مثمرة، ولم تكن هذه المفاوضة مع سارة فقط، بل هي وإبراهيمُ عليه السلام حاضر، حسبما شُرح في سورة الحجر «2» ، وإنما لم يذكرها اكتفاء بما ذكر هناك، كما أنه لم يذكر هناك سارة، اكتفاء بما ذكر هنا وفي سورة هود «3» .
ولمّا تحقق أنهم ملائكة، ولم ينزلوا إلا لأمر، قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي: فما شأنكم وما طِلبتكم وفيمَ أُرسلتم؟
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، هل أُرسلتم بالبشارة خاصة، أو لأمر آخر، أو لهما؟ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أي:
قوم لوط، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ أي: طين متحجر، هو السجّيل، وهو طينٌ طُبخ، كما يُطبخ الآجر، حتى صار في صلابة الحجارة، مُسَوَّمَةً مُعلَّمةً، على كلِّ واحد اسم مَن يهلك بها، من السّومة وهي العلامة، أو: مرسلة، من أسمت الماشية: أرسلتها، ومر تفصيله في هود «4» عِنْدَ رَبِّكَ أي: في مُلكه وسلطانه لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ في الفجور.
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها، الفاء فصيحة، مفصحة عن جُمل قد حُذفت، ثقةً بذكرها في مواضع أُخر، كأنه قيل: فباشروا ما أُمروا به، فذهبوا إلى لوط، وكان مِن قصتهم ما ذكر في موضع آخر، فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها أي: مِن قرى قوم لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني لوطاً ومَن آمن معه. قيل: كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة
(1) كما جاء فى الآية 72 من سورة هود.
(2)
عند قوله تعالى: بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ. قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ الآيتان 55- 56.
(3)
فى قوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ الآية 71.
(4)
عند تفسير الآيات 81- 82.
عشر. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ أي: غير أهل بيت مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وفيه دليل على أنَّ الإسلام والإيمان واحد، أي: باعتبار الشرع، وأما في اللغة فمختلف، والإسلام محله الظاهر، والإيمان محله الباطن. وَتَرَكْنا فِيها أي: في قُراهم آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي: مِن شأنهم أن يخافوا لسلامة فطرتهم، ورقة قلوبهم، وأما مَن عداهم من ذوي القلوب القاسية، فإنهم لا يعتبرون بها، ولا يعدونها آية.
الإشارة: الإشارة بإبراهيم إلى القلب، وأضيافه: تجليات الحق، فنقول حينئذ: هل بلغك حديث إبراهيم القلب، حين يدخل عليه أنوار التجليات، مُسلِّمة عليه، فيُنكرها أول مرة، حيث لم يألف إلا رؤية حس الكائنات، فراغ إلى أهله: عوالمه، فجاء بعِجْل سمينٍ النفس أو السِّوى، فقربّه إليهم، بذلاً لها في مرضاة الله، فقال: ألا تأكلون منها، لتذهب عني شوكتها إذ لا تثبت أنوار الشهود إلا بعد محق النفس وموتها، فأوجس منهم خيفة لان صدمات التجلي تدهش الألباب، إلا مَن ثبته الله، قالوا: لا تخف، أي: لا تكن خوَّافاً، إذ لا ينال هذا السر إلا الشجعان، كما قال الجيلاني «1» :
وإِيَّاكَ حَزْماً لا يَهُولُكَ أمرُهَا
…
فَمَا نَالَهَا إلَاّ الشُّجاعُ المُقّارعُ
وبشَّروه بغلامٍ عليم، وهو نتيجة المعرفة، من اليقين الكبير، والطمأنينة العظمى، فأقبلت النفس تصيح، وتقول:
أألد هذا الغلام، من هذا القلب، وقد كبر على ضعف اليقين، وأنا عجوز، شِخْتُ في العوائد، عقيم من علوم الأسرار؟!، فتقول القدرة: كذلك قال ربك، هو علي هيّن، أتعجبين من قدرة الله، «مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته. فقد استعجز القدرة الإلهية، وَكَانَ الله على كُلِّ شيء مقتدراً» «2» إنه هو الحكيم في ترتيب الفتح على كسب المجاهدة، العليم بوقت الفتح، وبمَن يستحقه. قال إبراهيم القلب أو الروح: فما خطبكم أيها التجليات، أو الواردات الإلهية، قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، وهم جند النفس، لنرسل عليهم حجارة من طين، مسومةً عند ربك للمسرفين، وهم الأذكار والأوراد والمجاهدات والرياضات والمعاملات المهلِكة للنفس وأوصافها، فأخرجنا مَن كان فيها من المؤمنين، سالمين من الهلاك، وهو ما كان لها من الأوصاف الحميدة، والعلوم الرسمية، إذ لا تُخرِج المجاهدة إلا مَن كان مذموماً، فما وجدنا فيها من ذلك إلا النذر القليل إذ معاملة النفس جُلها مدخولة، وتركنا فيها آيةً من تزكية النفس، وتهذيب أخلاقها، للذين يخافون العذاب الأليم، فيشتغلون بتزكيتها لئلا يلحقهم ذلك العذاب.
(1) الشيخ عبد الكريم الجيلي فى عينيته (ص 78) .
(2)
حكمة عطائية رقم (197) انظر تبويب الحكم (ص 18) .