الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم قال: ويقال: إن المؤمن بقوة عقله يوجبُ [استقلاله بعمله]«1» إلا أن يبرُز منه كمالٌ يُمكِّنه من وفارة بصيرته، ثم إذا بدت لائحةٌ من سلطان المعارف تصير تلك [الأبواب]«2» مغمورة، فإذا بَدَتْ أنوارُ التوحيد استهلكت تلك الجملة كذلك، وأنشدوا:
فلمَّا استبان الصبحُ أدرج ضوءُه
…
بأنواره ضوء الكواكب «3» . هـ.
قلت: استقلال العبد بعمله هو مثل بروز الزرع من منبته، ووفُورِ بصيرته هو إخراج حبه في سنبله، وبدو لائحة من سلطان المعارف هو اصفراره، وظهور أنوار التوحيد التي تفني وجوده وتغمره في وجود الحق هو صيرورتها حطاما، فتأمل. وهذا كله نتيجة شرح الصدر الذي أشار إليه بقوله:
[سورة الزمر (39) : آية 22]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)
قلت: الهمزة للإنكار، ومِنْ: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: كمَن ليس كذلك.
يقول الحق جل جلاله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ أي: وسَّعه وهيَّأه لِلْإِسْلامِ حتى قَبِله وفرح به، واستضاء بنوره، فَهُوَ عَلى نُورٍ عظيم مِنْ رَبِّهِ، وبصيرة في دينه، وهذا النور: هو اللطف الإلهي الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية، والتوفيق للاهتداء بها، أو: بمحض الإلهام من الجود والكرم، فيقذف في قلبه نور اليقين، بلا سبب، أو: بصحبة أهل النور، هل يكون هذا كمَن قسا قلبه، وحرج صدره، واستولى عليه ظلمة الغي والضلالة، فأعرض عن تلك الآيات بالكلية؟! ولمَّا نزلت هذه الآية سئل صلى الله عليه وسلم عن الشرح المذكور، فقال:«نُورٌ يقذفه الله في القلب، فإذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» قيل: وهل لذلك علامة؟ قال: «نعَمَ التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، والاستِعدَادُ للمَوتِ قبل نزوله» «4» .
(1) فى القشيري: [استفادة له بعلمه]
(2)
فى القشيري (الأنوار) .
(3)
أنشده أبو العباس السهارى. كما فى طبقات الأولياء (367) . وجاء فى طبقات الصوفية للسلمى (447) : أنشده أبو العباس السياري، واسمه: القاسم بن القاسم بن مهدى.
(4)
أخرجه البغوي فى تفسيره (7/ 114) والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، في (الأصل السادس والثمانين) والحاكم فى المستدرك (4/ 411) وسكت عنه. والبيهقي فى الشعب (ح 10552) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ: أي الصلبة اليابسة مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي: من أجل ذكره، الذي من حقه أن ينشرح له الصدر، وتلين له النفس، ويطمئن به القلب، وهؤلاء إذا ذكر الله عندهم اشمأزوا من أجله، وازدادت قلوبهم قساوة.
قال الفخر: اعلم أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية، وزيادة الاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية، وقد يوجب القسوة والبُعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية، فإذا عرفتَ هذا، فنقول: رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورتبتها: هو ذكر الله، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله سبباً لازدياد مرضها، كان مرض تلك النفوس مرضاً لا يرجى زواله، ولا يُتوقع علاجه، وكانت في نهاية الشر والرداءة، فلهذا المعنى قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وهذا كلام محقق. هـ. وهو كما قيل في الجُعَل «1» أنها تتضرر برياح الورد، أي: وتنتعش بالشين. ف كل مَن يفر من ذكر الله، ويثقل عليه، فقلبه جُعَل.
ذكره في الحاشية.
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: أولئك البُعَداء الموصوفون بما ذكر من قساوة القلوب في ضلال بعيد من الحق، ظاهر ضلاله لكل أحد. قيل: نزلت الآية في حمزة وعليّ- رضي الله عنهما وأبي لهب وولده «2» ، وقيل:
في عمّار وأبي جهل. والحق: إنها عامة.
الإشارة: مَن أراد الله به السعادة شَرَح صدرَه للإسلام، فقَبِله وعمل عمله، ومَن أراد به جذب العناية وتحقيق الولاية، شرح صدره لطريق أهل مقام الإحسان، فدخل في طريقهم، وهيّأ نفسه لصُحبتهم وخدمتهم، فما زال يقطعون به مهامه النفوس حتى يقولون له: ها أنت وربك، فتلوح له الأنوار، وتُشرق عليه شموس المعارف والأسرار، حتى يفنى ويبقى بالله.
قال القشيري: والنورُ الذي من قِبَله تعالى نورُ اللوائح بتحقق العلم، ثم نورُ اللوامع بثبات الفهم، ثم نورُ المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد، وعند ذلك فلا [وجد ولا فقد]«3» ، ولا بُعد ولا قُرب، كلا، بل هُوَ الله الواحد القهّار. هـ. فمَن لم يبلغ هذا لا يخلو قلبه من قساوة، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله، أولئك فى ضلال مبين.
(1) الجعل: دابة سوداء من دواب الأرض، كالخنفساء. انظر اللسان (جعل 1/ 638) .
(2)
ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (ص 383) بدون إسناد.
(3)
فى الأصول [فلا وجه ولا قصة] والمثبت من القشيري. [.....]