الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ
…
الآية، قال الورتجبي: اتبع الكفرة ما وقع في مخايلهم، من هواجس النفس، ووساوس الشيطان، ولا يقبلون طرائق الرشد من حيث الوحي والإلهام، وأنَّ الذين صدقوا في دين الله، وشاهدوا الله بالله، اتبعوا سنّة رسوله وخطابه، وما يقع في أسرارهم من النور والبيان، والإلهام والكلام، بنعت الإخلاص في طاعته، والأدب في خدمته والإعراض عن غيره. قال ابن عطاء: اتباع الباطل:
ارتكاب الشهوات وأمالي النفس، واتباع الحق: اتباع الأوامر والسنن. هـ. قال القشيري: اتباع الحق بموافقة السنة، ومتابعة الجد في رعاية الحق وإيثار رضاه، والقيام بالطاعة، واتباع الباطل: الابتداع والعمل بالهوى، وإيثار الحظوظ وارتكاب المعصية. هـ.
ثم أقرّ بجهاد من كفر وصدّ، فقال:
[سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 9]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)
قلت: (فضَرْب) : مصدر، نائب عن فعله، مضاف إلى مفعوله، و (مَنّاً) و (فِدَاءً) : مصدران لمحذوف، و (الذين كفروا) : مبتدأ حُذف خبره، وهو العامل في المصدر، أي: والذين كفروا فأتعسهم تعساً، و (أضل أعمالهم) : عطف على الخبر المحذوف.
يقول الحق جل جلاله: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا في المحاربة فَضَرْبَ الرِّقابِ، أصله: فاضربوا الرقاب ضرباً، فحذف الفعل وناب عن مصدره للاختصار، مع إعطاء معنى التوكيد، لدلالة نصبه على مؤكده، وضرب الرقاب عبارةٌ عن مطلق القتل، والتعبير به عن القتل تصوير له بأشنع صورة وتهويل لأمره، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أكثرتم فيه القتل، وأغلظتموه، من: الشيء الثخين، وهو الغليظ،
أو: أثقلتموهم بالجِراح وهزمتموهم، فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي: فأسِروهم، وشُدوا وثاقهم، لئلا يتفلتوا، والوثاق بالفتح والكسر: ما يشد به. فإذا أسرتموهم فتخيروا فيهم فَإِمَّا مَنًّا أي: فإما أن تمنوا منا بعد الأسر، وَإِمَّا فِداءً:
أن تفدوا فداءً، والمعنى: التخيُّر بين الأمرين بعد الأسر، بين أن يَمُنُّوا عليهم فيطلقوهم، وبين أن يُفادوهم، ومذهب مالك: أن الإمام مُخَيَّر في الأسارى بين خمسة، وهي: المنّ، والفداء، والقتل، والاسترقاق، وضرب الجزية، وقيل:
لا يجوز المَن ولا الفداء لأن الآية منسوخة بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» فيتعين قتلهم، والصحيح أنها محكمة. ومَذْهَب الشافعي: أن الإمام مُخير بين أربعة: القتل، والاسترقاق، والفداء بأسارى المسلمين، والمنّ. ولعل لجزية عنده خاصة بأهل الكتاب.
ومذهب أبي حنيفة: التخيير بين القتل والاسترقاق فقط، قال: والآية منسوخة لأن سورة براءة آخر ما نزل.
وعن مجاهد: ليس اليوم مَنّ ولا فداء، والمراد بالمنّ في الآية أن يمنّ عليهم بترك القتل، فيسترقوا، أو يمنّ عليهم بإعطاء الجزية. هـ.
والمشهور: مذهب مالك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل عقبةَ بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، يوم بدر صبراً، وفادى سائر الأسارى، ومَنَّ على ثُمَامَةُ بن أَثالٍ الحنفي، وهو أسير، واسترق نساء بنى قريظة، فباعهم، وضرب الجزية على نصارى نجران ومجوس هاجر.
ثم ذكر غاية الحرب فقال: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي: اضربوا رقابهم حتى تضع الحرب أثقالها، وآلاتها، التي لا تقوم إلا بها، كالسلاح والكراع، وذلك حيث لم يبقَ حرب، بأن تضع أهل الحرب عُدتها. وقيل:
(أوزارها) : آثامها، يعني: حتى يترك أهل الحرب المشركين شركهم، بأن يُسلموا جميعاً. والمختار: أن المعنى:
أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يظهر الإسلام على سائر الأديان، ويؤمن أهل الكتاب، طوعاً أو كرهاً، ويكون الدين كلُّه لله، فلا يحتاج إلى قتال. وقال الحسن: معناه: حتى لا يُعبد إلا الله. وقال ابن عطية: ظاهر اللفظ: أنها استعارة، يُراد بها التزام الأمر كذلك أبداً، كما تقول: أنا أفعل ذَلِكَ إلىَ يَوْمِ القِيَامةِ. هـ. فالغاية ب «حتى» ، راجعة إلى الضرب والشد، وما ترتب عليه من المنّ والفداء.
ذلِكَ الأمر ذلك، أو افعلوا ذلك، وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ لانتقم مِنْهُمْ بغير قتال بأن ينزل بهم أسباب الهلاك والاستئصال، كالخسف أو الرجف أو غير ذلك، وَلكِنْ أمركم بالقتال لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ
(1) الآية 5 من سورة التوبة.
أي: المؤمنين بالكافرين، فأمَرَهم بالجهاد ليستوجبوا الثواب العظيم، وليسلم مَن سبق إسلامه من الكافرين. وَالَّذِينَ قُتِلُوا «1» فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة التوحيد، لا لغرض آخر، فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ فلن يضيعها.
سَيَهْدِيهِمْ في الدنيا إلى طريق الرشد والصواب، وفي الآخرة إلى جزيل الثواب، وقيل: يهديهم إلى جواب منكر ونكير، وَيُصْلِحُ بالَهُمْ بأن يَقبل أعمالهم ويُرضي خصماءهم، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ.
قال مجاهد: عرّفهم مساكنهم فيها حتى لا يحتاجوا إلى دليل لها «2» ، أو: طَيَّبها، من: العَرف، وهو طيب الرائحة، ويمكن الجمع: بأن عَرْف المحل يهدي صاحبَه إلى جنته ومحله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ بنصر دينه وإظهار شريعة نبيه يَنْصُرْكُمْ على عدوكم، ويفتح لكم، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في مواطن الحرب ومواقفها، أو على محجة الإسلام، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ أي: فيقال: تعساً لهم، والتعس: الهلاك، أو السقوط والانحطاط، أو العثار، أو البُعد. وقال ابن السكيت: التعس: أن يجر على وجهه. هـ أي: أتعسهم الله تعساً، أي: أهلكهم وأبعدهم. وقال ابن عباس: «في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالتردي في النار» . والمراد بالذين كفروا عام، وقيل: المراد مَن يضاد الذين ينصرون دين الله، كأنه قيل:
إِن تَنصُروُاْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويثبت أقدامكم، ومَن لم ينصره فتعساً له، فوضع «الذين كفروا» موضع مَن لم ينصره تغليظاً، فهو وِفقٌ لأسلوب السورة من التقابل المعنوي، فهو عطف جملة على جملة شرطية مثلها، ولذلك دخلت الفاء في خبر الموصول، كما قرره الزجاج. انظر الطيّبي. هـ من الحاشية. وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي: أحبطها وأبطلها.
ذلِكَ التعس والإضلال بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام، المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمّارة بالسوء، فَأَحْبَطَ لأجل ذلك أَعْمالَهُمْ التي كانوا عَمِلُوها، من صلة الأرحام وغيرها.
الإشارة: نهايةُ الجهاد الأصغر: وضعُ الحرب أوزارَها بالإسلام أو السّلم، ونهاية الجهاد الأكبر: استسلامُ النفس وانقيادها لما يُراد منها، أو موتها بالغيبة عنها بالكلية. قال بعض العارفين: انتهى سير السائرين إلى الظفر
(1) قرأ أبو عمرو وحفص (قتلوا) بضم القاف، وقرأ الباقون (قاتلوا) بفتح القاف، وتخفيف التاء، وألف بينهما. انظر: السبعة لابن مجاهد/ 600 والإتحاف 2/ 475- 476.
(2)
هذا معنى ما قاله مجاهد وأكثر المفسرين. وقول مجاهد أخرجه الطبري، وفى الصحيح ما يدل على صحة هذا القول، فقد أخرج البخاري فى (الرقاق، باب القصاص يوم القيامة ح 6535) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخلص المؤمنون من النّار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنّار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذّبوا ونقّوا أذن لهم فى دخول الجنة، فوالذى نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله فى الجنة منه بمنزله كان فى الدنيا» .
بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا. هـ. فالإشارةُ بقوله: (إذا لقيتم الذين كفروا
…
) الخ إلى قتل الهوى والشيطان وسائر القواطع، حتى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا وثاقهم، ولا تأمنوا غائلتهم.
قال القشيري، بعد كلام: وكذلك العبد إذا ظفر بنفسه فلا ينبغي أن يُبْقِيَ بعد انتقَاش شَوْكها بقيةً، ولا في قلع شجرها مستطاعاً وميسوراً فالحيّة إن بقيت منها بقية من الحياة مَنْ وضع عليها إصبُعَه بَثَّتْ سُمَّها فيه. هـ. فإذا تمكنتم من معرفة الله، فإما أن تَمُنوا عليها بترك جِهادها الأكبر، وإما أن تفدوها بالغيبة عنها في حلاوة الشهود، حتى تضع الحرب أوزارها بالموت، ولو شاء اللهُ لخلّصكم منها من غير جهاد، فالقدرة صالحة، ولكن ليختبركم، فيظهر السائرون من القاعدين مع حظوظهم «لولا ميادينُ النفوس ما تحقق سير السائرين» «1» . والذين قاتلوا نفوسَهم في سبيل الله وطلب معرفته، فلن يُضل أعمالَهم، سيهديهم إلى معرفته، ويُصلح بالهم بالاستغراق في شهوده، ويُدخلهم جنة المعارف، قد عرَّفها لهم، وبيَّنها على أيدي الوسائط من الشيوخ العارفين، أو طيّبها لهم، فيهتدون بنسيم واردات التوجه، إلى أنوار المواجهة. وقد أشار تعالى بقوله: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى طلب الإخلاص، فلا يوصل الجهاد الأصغر ولا الأكبر إلى رضوان الله، أو معرفته، إلا بتحقُّق الإخلاص، من غير التفات لغرض نفساني، لا عاجلاً ولا آجلاً.
ذكر الشيخ أبو نعيم الحافظ: أن ميْسرة الخادم، قال: غزونا في بعض الغزوات، فإذا بفتى «2» جانبي، وهو مقنَّع بالحديد، فحمل على الميمنة، ثم الميسرة، ثم على القلب، ثم أنشأ يقول:
أَحْسِنْ بمَولاكَ سَعيدُ ظنّاً
…
هَذَا الذِي كُنتَ تَمَنَّى «3»
تَنَح يا حُورَ الْجنَانِ عَنَّا
…
مَا فيك قَاتَلْنَا ولا قُتِلْنا
لكِنْ إِلى سَيدكُنَّ اشْتَقْنَا
…
قَدْ عَلِم السر وما أَعْلَنَّا
قال: فحمَل فقاتل، فقَتَل منهم عدداً، ثم رجع إلى موقفِه، فتكالب عليه العدو، فحملَ، وأنشأ يقول:
قد كُنْتُ أرجو وَرَجَائي لَمْ يَخِبْ
…
أَلَاّ يَضيعَ الْيَومَ كَدِّي والطَّلَبْ
يا مَن ملأ تِلْكَ الْقُصُورِ باللعب
…
لَولَاكَ مَا طَابَتْ ولَا طَابَ الطَّرَب
(1) حكمة عطائية رقم (244) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي ص 18.
(2)
اسمه «سعيد» كما هو واضح من البيت الأول، وترجم له أبو نعيم ب «سعيد الشهيد، المقنع فى الحديد، المشتاق إلى رؤية المنعم المجيد» .
(3)
هكذا فى الأصول، وفى الحلية:[هذا الذي كنت له تمنى] .