الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأهل الأذواق هم المتقون المتحابون فى الله، الذين أشار إليهم تعالى بقوله:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 67 الى 73]
الْأَخِلَاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)
يقول الحق جل جلاله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي: المتحابون في الدنيا على الأمور الذميمة متعادون يوم القيامة، يبغض بعضهم بعضاً، فتنقطع في ذلك اليوم كل خُلة كانت لغير الله، وتنقلب عداوة ومقتاً لانقطاع سببها، وهو الاجتماع على الهوى، إِلَّا الْمُتَّقِينَ أي: الأخلّة المصادقين في الله، فإنها الخُلة الباقية لأن خُلتهم في الدنيا لمَّا كانت لله، وفي الله، بقيت على حالها لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، بل تزداد خُلتهم بمشاهدة كل واحد منهم بركة خُلتهم من الثواب، ورفع الدرجات. وسئل صلى الله عليه وسلم:
مَن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال: «المتحابون في الله» ، وخرَّج البزار عن ابن عباس رضي الله عنه: قيل: يا رسول الله! أَيُّ جُلَسَائِنا خيرٌ؟ قال: «مَن ذكَّرَكُم بالله رؤيتُه، وزاد في عَمَلِكم مَنطِقُه وذكَّركُمْ بالله عِلمُه» «1» .
ومن كلام الشيخ أبي مدين رضي الله عنه: دليل تخليطك صحبتك للمخلطين، ودليل انقطاعك إلى الله صحبتك للمنقطعين. هـ. وفى سماع العتبية: قال مالك: لا تصحبْ فاجراً لئلا تتعلّم من فجوره، قال ابن رُشد: لا ينبغي أن يُصحب إلا مَن يُقتدى به في دينه وخيره لأن قرين السوء يُردي، قال الحكيم:
عَن المرءِ لا تَسْأَلْ وسل عن قرينه
…
ف كل قرين بالمقارن مقتد «2» .
(1) أخرجه أبو يعلى فى مسنده (2436) عن ابن عباس رضي الله عنه.
(2)
البيت منسوب إلى عدى بن زيد: انظر: نهاية الأرب (3/ 65) والعقد الفريد (2/ 311) .
وفي الحديث: «المَرْءُ عَلَى دينِ خَليله» وسيأتي، في الإشارة بقية الكلام على المتحابين في الله.
ويقال لهم حينئذ، تشريفاً لهم، وتطييبا لقلوبهم: يا عِبادِ «1» لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، ثم وصفهم أو مدحهم بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا صدّقوا بآياتنا التنزيلية، وَكانُوا مُسْلِمِينَ منقادين لأحكامنا، مخلصين وجوههم لنا، وعن مقاتل:«إذا بعث الله الناس، فزع كل أحد، فينادي منادٍ: يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، فيرجوها النّاس كلهم، فيتبعها الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، فيُنكِّس أهل الأديان الباطلة رؤوسَهم» «2» ، ثم يقول لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ نساؤكم المؤمنات تُحْبَرُونَ تُسرّون سروراً يظهر حُباره- أي: أثره- على وجوهكم أو: تُزَينون، من: الحبرة وهو حسن الهيئة، أو: تُكرَمون إكراماً بليغاً، وتتنعمون بأنواع النعيم. والحبرة: المبالغة فيما وصف بجميل وتقدّم في قوله: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ «3» أنه السماع.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ أي: بعد دخولهم الجنة حسبما أمروا به وَأَكْوابٍ من ذهب حذف لدلالة ما قبله. والصِحَاف: جمع صحفة، قيل: هي كالقصعة، وقيل: أعظم القصاع، فهي ثلاث: الجفنة، ثم القصعة، ثم الصحفة، والأكواب: جمع كوب، وهو كوز مستدير لا عروة له.
وفي حديث أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم: قال: «أدنى أهْلُ الجنةِ مَن له سَبْعُ درجاتٍ، هو على السادسة، وفوقه السابعة، وإنّ له ثَلَاثَمائةِ خادمٍ، ويُغدى عليه ويُراح بثلاثمائة صَحفةٍ من ذَهبٍ، في كلِّ صَحْفَةٍ لونٌ ليس في الأخرى مثله، وإنه ليلذ آخره كما يلذّ أَوله، ويقول: لَوْ أَذِنْتَ لي يا رب لأطْعَمْتُ أهلَ الجنةِ، وأسقيتهم، ولا ينقص مما عندي شيء، وإنَّ لَه من الحور العِين لاثنين وسبعين زوجة، سوى أزواجه في الدنيا، وإن الواحدة منهن ليأخذَ مِقعدُها قَدرَ ميل» «4» . وفي حديث عكرمة: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من يُفسح له في بصره مسيرة مائة عام، في قصور من ذهب، وخيام من لؤلؤٍ، وليس منها موضع شبر إلا معمور، يُغدى عليه ويُراح بسبعين ألف صحفة
(1) هكذا (يا عبادي لا خوف) بإثبات الياء، وإسكانها، وهى قراءة نافع، وأبى عمرو، وابن عامر، وأبى جعفر، وصلا ووقفا. والباقون بحذفها فى الحالين. انظر الإتحاف (2/ 458- 459) .
(2)
أخرجه الطبري (25/ 95) عن سليمان التيمي.
(3)
الآية 15 من سورة الرّوم.
(4)
أخرجه أحمد (2/ 537) وقال ابن القيم فى حادى الأرواح (223) : «سكين بن عبد العزيز، ضعّفه النّسائى. وشهر بن حوشب، ضعفه مشهور. والحديث منكر، يخالف الأحاديث الصحيحة» .
من ذهب، ليس فيها صحفة إلا وفيها لون ليس في الأخرى مثله، شهوته في آخرها كشهوته في أولها، ولو نزل به جميع أهل الدنيا لوسع عليهم مما أعطى، ولا ينقص ذلك مما اُوتي شيئاً» «1» . ويجمع بينهما بتعدُّد اهل هذه المنزلة، وتفاوتهم.
وَفِيها أي: في الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من فنون الملاذ. ومَن قرأ بحذف الهاء فلطول الموصول بالفعل والفاعل. وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ أي: تستلذه، وتقر بمشاهدته، وهذا حصر لأنواع النعيم لأنها إما مشتهيات في القلوب، أو: مستلذات في العيون، ففي الجنة كل ما يشتهي العبد من الملابس والمناكح والمراكب.
رُوي أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أُحبُّ الخيلَ، فهل في الجنة خيلٌ؟ فقال:«إنْ يُدْخلك اللهُ الجنةَ فلا تشاء أن تركبَ فرساً من ياقُوتَةٍ حمراء، يَطيرُ بكَ في الجنة حيث شئت، إلا فعلت، قال أعرابي: يا رسول الله، إني أحبُّ الإبلَ، فهل في الجنة إبل؟ فقال: يا أعرابي، إن يُدْخلك الله الجنة ففيها ما اشتهت نفسك ولذَت عيناك» «2» . هـ. وقال أبو طيبة السلمي: إن الشرذمة من أهل الجنة لتظلهم سحابة، فتقول: ما أُمْطِرْكُم؟ فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أَمطرَتْه، حتى إن الرجل منهم يقول: أمطر علينا كواعب أتراباً. وقال أبو أُمامة: إنَّ الرجلَ مِنْ أهلِ الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير، فيقع نضيجاً في كفه كما أراد، فيأ كل منه حتى تشهى نفسه، ثم يطير كما كان أول مرة، ويشتهي الشراب، فيقع الإبريق في يده، فيشرب منه ما يريد، ثم يُرفع الإبريق إلى مكانه. هـ. من الثعلبي.
قال القشيري: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس للعُبَّاد لأنهم [قاسوا]«3» في الدنيا- بحكم المجاهدات- الجوعَ والعطشَ، وتحمّلوا وجوهَ المشاقِّ، فيجزون في الجنة وجوهاً من الثواب، وأما أهل المعرفة والمحبُّون فلهم ما تلذّ أعينهم من النظر إلى الله، لطول ما قاسوه من فَرْطِ الاشتياق بقلوبهم، وما عالجوه من احتراقهم فيه لشدة غليلهم. هـ.
والحاصل: أن ما تشتهي الأنفس يرجع لنعيم الأشباح، وتلذ الأعين لنعيم الأرواح من النظر، والقُرب، والمناجاة والمكالمة، والرضوان الأكبر، منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر.
وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ إتمام للنعمة، وكمال للسرور فإن كل نعيم له زواله مكدر بخوف زواله لا محالة.
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ مبتدأ وخبر، والَّتِي أُورِثْتُمُوها: صفة الجنة، أو:«الجنة» صفة المبتدأ، الذي هو الإشارة، و «التي أورثتموها» : خبره. أو: «التي أورثتموها» صفة المبتدأ، وبِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: خبر، أي: حاصلة، أو كائنة
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 732) لعبد بن حميد، عن عكرمة، يرفعه.
(2)
أخرجه أحمد فى المسند (5/ 352) والترمذي فى (صفة الجنة، باب ما جاء فى صفة خيل الجنة 4/ 885/ ح 2543) والبغوي فى التفسير (7/ 222) عن عبد الرّحمن بن سابط مرسلا. وقال الهيثمي (10/ 413) : رواه الطبراني ورجاله ثقات. [.....]
(3)
فى الأصول: [قاموا] وما أثبته هو الذي فى القشيري.
بما كنتم تعملون في الدنيا، شبه جزاء العمل بالميراث لبقائه على أهله دائماً، ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم:«لَن يَدخلَ أحدُكُمُ الجنةَ عملُه» «1» لأن نفس الدخول بالرحمة، والتنعُّم والدرجات بقدر العمل، أو: تقول: الحديث خرج مخرج الحقيقة، والآية خرجت مخرج الشريعة، فالحقيقة تنفي العمل عن العبد، وتُثبته لله، والشريعة تُثبته له باعتبار الكسب، والدين كله وارد بين حقيقة وشريعة فإذا شرَّع القرآنُ حققته السُّنة، وإذا شرعت السنة حققه القرآن. والله تعالى أعلم.
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ بحسب الأنواع والأصناف، لا بحسب الأفراد فقط، مِنْها تَأْكُلُونَ أي: لا تأكلون إلا بعضها، وأعقابها باقية في أشجارها على الدوام، لا ترى فيها شجراً خلت عن ثمرها لحظة، فهي مزيّنة بالثمار أبداً، موقورة بها، وعن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت في مكانها مثلاها» «2» .
الإشارة: كل خُلة وصحبة تنقطع يوم القيامة، إلَاّ خُلة المتحابين في الله، وهم الذين ورد في الحديث: أنهم يكونون في ظل العرش، والناس في حر الشمس، يغشى نورُهم الناسَ في المحشر، يغبطهم النبيون والشهداء لمنزلتهم عند الله. قيل: يا رسول الله، مَن هؤلاءِ؟ صفهم لنا لنعرفهم، قال:«رجالٌ من قبائلَ شتى، يجتمعون على ذكر الله» «3» .
وقد ورد فيهم أحاديث، منها: حديث الموطأ، عن معاذ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى:
وَجَبَتْ محَبتِّي للمُتَحَابِّين فِيَّ، والمُتَجالِسينَ فيّ، والمُتبَاذِلينَ فِيّ، والمُتَزَاوِرينَ فِيّ» «4» ، وفي رواية أبي مُسلم الخولاني: قال صلى الله عليه وسلم: «المتحابُّون في الله عَلَى مَنَابِرَ مِن نُورٍ، في ظِلِّ العرشِ، يوم لا ظِلَّ إِلا ظِلُّه» «5» ، وفي حديث آخر:«ما تحابّ اثنان في الله إلا وُضِعَ لهما كُرسِيّاً، فيجلِسَانِ عليه حتى يفرع من الحساب» «6» وقال: صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المُتَحَابِّين في الله لَتَرى غُرفَهُم في الجنة كالكوكب الطَّالِعِ الشَّرقِي أو الغربي، فيقال: مَن هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المُتَحَابُّونَ في الله عز وجل» .
(1) حديث صحيح، أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، ح 6467) . ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى 4/ 2171، ح 2818) من حديث السيدة عائشة- رضي الله عنها: وأول الحديث: «سددوا وقاربوا
…
» .
(2)
أخرجه الطبري (25/ 97) والبزار (كشف الأستار ح 3530) وقال الهيثمي فى مجمع الزوائد (10/ 414) : رواه الطبراني والبزار، ورجال الطبراني وأحد إسنادى البزار ثقات.
(3)
قال الهيثمي فى المجمع (10/ 77) : رواه الطبراني، وإسناده حسن.
(4)
رواه مالك فى الموطأ (2/ 953) وأحمد (5/ 233) والحاكم (4/ 169) وصحّحه ووافقه الذهبي.
(5)
رواه ابن حبان (577) وعبد الله بن الإمام أحمد فى زوائد المسند (5/ 329) .
(6)
عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 7868) للطبرانى، عن أبى عبيدة ومعاذ، وضعّفه.
وفي رواية: «إنّ في الجنة غُرَفاً يُرى ظواهِرُها مِن بَوَاطِنِها، وبَواطِنُها من ظَواهرها، أعدَّها الله للمُتحابِّين في الله، والمُتَزَاورِينَ فيه، والمُتباذِلين فيه» «1» وفي لفظ آخر: «إنَّ في الجنَّة لعُمُداً من ياقوتٍ، عليها غُرَفٌ من زَبَرْجد، لها أبواب مُفَتَّحَةٌ تُضيء كما يُضيء الكوكب الدُّرِّي، قلنا: يا رَسُولَ الله، مَن يَسْكُنُها؟ قال: المتحابَّون في الله والمتباذِلُون في الله، والمتلاقون في الله، مكتوب على وجوههم: هؤلاء المتحابون في الله» «2» وفي الأثر أيضاً: إذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، نَادَىَ مناد: أين المتحابون في الله؟ فيقوم ناس- وهم يسير- فينطلقون إلى الجنة سِراعاً، فتتلقاهم الملائكة: فيقولون: رأيناكم سِراعاً إلى الجنة، فمَن أنتم؟ فيقولون: نحن المتَحَابُّون في الله فيقولون: وما كان تحابُّكُم؟ فيقولون: كنَّا نتحاب في الله ونتزاورُ في الله، ونتعاطف في الله، ونتباذل في الله، فيُقال لهم: ادخلوا الجنة، فنعم أَجْرُ العاملين. هـ. من البدور السافرة. والتباذل: المواساة بالبذل.
وذكر في الإحياء شروط المتحابين في الله، فقال رضي الله عنه: اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين، كعقد النكاح بين الزوجين، ثم قال: فَلأخيك عليك حق في المال، وفي النفس، وفي اللسان، وفي القلب. وبالعفو، وبالدعاء، وذلك تجمعه ثمانية حقوق:
الحق الأول: في المال بالمواساة، وذلك على ثلاثة مراتب أدناها: أن تُنزله منزلة عبدك وخادمك، فتقوم بحاجاته بفضله مالك، فإذا سنحت له حاجة، وعندك فضلة أعطيته ابتداءً، فإذا أحوجته إلى سؤال فهو غاية التقصير. الثانية: أن تنزله منزلة نفسك، وترضى بمشاركته إياك في مالك، فتسمح له في مشاركته. الثالثة- وهي العليا-: أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وهي رتبة الصدّيقين، ومنتهى درجات المتحابين.
الحق الثاني: الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات، والقيام بها قبل السؤال، وهذا أيضاً لها درجات كالمواساة، فأدناها: القيام بالحاجة عند السؤال، ولكن مع البشاشة والاستبشار، وإظهار الفرح. وأوسطها: أن تجعل حاجته كحاجتك، فتكون متفقداً لحاجته، غير غافل عن أحواله، كما لا تغفل عن أحوال نفسك، وتغنيه عن السؤال.
وأعلاها: أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وتؤثره على نفسك، وأقاربك، وأولادك. كان الحسن يقول: إخواننا أحبُّ إلينا من أهلينا وأولادنا لأن أهلينا يذكروننا الدنيا، وإخواننا يذكروننا الآخرة.
(1) رواه الطبراني فى الأوسط (ح 2903)، عن بريدة. قال الهيثمي فى المجمع (10/ 278) :«وفيه إسماعيل بن سيف، وهو ضعيف» .
(2)
رواه البزار (كشف الأستار، ح 3592) عن أبى هريرة رضي الله عنه.
الحق الثالث: على اللسان بالسكوت، فيسكت عن التجسُّس، والسؤال عن أحواله، وإذا رآه فى طريقه فلا يسأله عن غرضه وحاجته، فربما يثقل عليه، أو يحتاج إلى أن يكذب، ويسكت عن أسراره التي بثها إليه، فلا يبثها إلى غيره، ولا إلى أخص أصدقائه، ولا يكشف شيئاً منها ولو بعد القطيعة، وليسكن عن مماراته ومدافعته في كلامه.
الحق الرابع: على اللسان بالنطق، فيتودد إليه بلسانه، ويتفقده في أحواله، كالسؤال عن عارض عرض له، وأظهر شغل القلب بسببه، فينبغي أن يظهر له بلسانه كراهتها. والأحوال التي يُسِرُّ بها، ينبغي أن يظهر له بلسانه مشاركته في السرور بها. فمعنى الأخوة: المساهمة في السراء والضراء، ويدعوه بأحب أسمائه في حضوره ومغيبه، ويُثني عليه بما يعرف من محاسن أحواله، عند مَن يريد هو الثناء عنده، وكذا على أولاده وأهله، حتى على عقله، وخُلُقه، وهيئته، وخطه، وشعره، وتصنيفه، وجميع ما يفرح به، من غير كذب ولا إفراط، ويذب عنه في غيبته مهما قُصد بسوء، ويُعلمه مما علّمه الله وينصحه.
الحق الخامس: العفو عن الزلاّت والهفوات، فإن كانت زلته في الدين بارتكاب معصية، فليتلطّف في نصحه، فإن بقي مُصرّاً، فقد اختلف الصحابة في ذلك، فذهب أبو ذر إلى مقاطعته، وقال: إذا انقلب أخوك عما كان عليه فَأَبْغِضْهُ من حيث أحببته. وذهب أبو الدرداء، وجماعة، إلى خلاف ذلك، وقال أبو الدرداء: إذا تغيّر أخوك عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك فإن أخاك يُعوجُّ مرة ويستقيم أخرى. وهذا ألطف وأفقه، وذلك لما في هذه الطريق من الرفق، والاستمالة، والتعطُّف، المفضي إلى الرجوع والتوبة. وأيضاً: للأخوة عقد، ينزل منزلة القرابة، فإذا انعقدت وجب الوفاء بها، ومن الوفاء: ألا يهمله أيام حاجته وفقره، وفقر الدين أشد من فقر المال. ثم قال: والفاجر إذا صَحِبَ تقيّاً وهو ينظر إلى خوفه رجع عن قريب، ويتخلّى من الإصرار، بل الكسلان يصحب الحريص في العمل، فيحرص حياءً منه، وإن كانت زلته في حقك فلا خلاف أن العفو والاحتمال هو المطلوب. هـ. قلت: ولعل حق القلب يندرج هنا مع المحبة وشهود الصفاء منه.
الحق السادس: الدعاء له في حياته ومماته بكل ما يُحب لنفسه وأهله. قلت: ومن ذلك زيارة قبره، وإيصال النفع له في ذلك الوقت.
الحق السابع: الوفاء والإخلاص. ومعنى الوفاء: الثبات على الحب، وإدامته إلى الممات، معه ومع أولاده وأصدقائه.