الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال القشيري: يقال: إن تكذيبهم وتكذيب سلفهم للأنبياء- عليهم السلام كان قديماً حتى أهلكهم، كذلك يفعل بهؤلاء «1» . هـ.
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ أي: مثل ذلك الإضلال الفظيع يُضل الله مَن هو مسرف في عصيانه، شاكّ في دينه، لم يتفكّر فيما شهدت البينات بصحته لِغلبة الوهم، والانهماك في التقليد.
ثم فسّره فقال: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بالرد والإبطال بِغَيْرِ سُلْطانٍ بغير حجة واضحة، تصلح للتمسُّك بها في الجملة، أَتاهُمْ: صفة لسلطان، أي: بغير برهان جاءهم بصحة ذلك، كَبُرَ مَقْتاً أي: عَظُمَ بُغضاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا، وفيه ضرب من التعجُّب والاستعظام. وفي «كبُر» ضمير يعود على «مَنْ» وتذكيره باعتبار اللفظ. كَذلِكَ أي: مثل ذلك الطبع الفظيع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فيصدر منه أمثال ما ذكر من الإسراف، والارتياب، والمجادلة بالباطل. ومَن قرأ بالتنوين «2» فوصف لقلب، وإنما وصف بالتكبُّر والتجبُّر لأنه منبعهما، كما تقول: سَمِعَتِ الأذن، كقوله: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «3» وإن كان الإثم للجملة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يُقال لأهل كل عصر: ولقد جاءكم فلان- لوليِّ تقدم قلبهم- بالآيات الدالة على صحة ولايته، فما زلتم، أي: ما زال أسلافكم من أهل عصره- في شك منه، حتى إذا مات ظهرت ولايته، وأقررتم بها، وقلتم: لن يبعث الله من بعده وليّاً، وهذه عادة العامة، يُقرون الأموات من الأولياء، ويُنكرون الأحياء. وهي نزعة أهل الكفر والضلال، كذلك يُضل الله من هو مسرف مرتاب، كالذين يُخاصمون في ثبوت الخصوصية عند أربابها، من غير برهان، وهو شأن المنكرين، كذلك يطبعُ الله على كل قلب متكبر جبار.
ثم ذكر عتو فرعون وطغيانه، فقال:
[سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَاّ فِي تَبابٍ (37)
(1) بالمعنى.
(2)
قرأ أبو عمر (قلب) بالتنوين فى الباء على قطع «قلب» عن الإضافة، وجعل التكبر والجبروت صفته، وقرأ الباقون بغير تنوين بإضافة «قلب» إلى ما بعده. واختلف عن ابن عامر. انظر الإتحاف (2/ 437) .
(3)
من الآية 383 من سورة البَقَرَة.
يقول الحق جل جلاله: وَقالَ فِرْعَوْنُ، تمويهاً على قومه، وجهلاً منه: يا هامانُ وزيره ابْنِ لِي صَرْحاً أي: قصراً عالياً، وقيل: الصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بَعُد منه.
يقال: صَرِح الشيءُ: إذا ظهر. لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أي: الطرق. ثم أبدل منها تفخيماً لشأنها، وإظهاراً أنه يقصد أمراً عظيماً:
أَسْبابَ السَّماواتِ أي: طرُقها وأبوابها، وما يُؤدّي إليها، وكل ما أدّاك إلى الشيء فهو سبب إليه، فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى أي: فأنظر إليه وأتحقق وجوده، قرأه حفص بالنصب، جواب التمني، والباقي بالرفع، عطفاً على «أبلغ» . قال البيضاوي: ولعله أراد أن يبني له صرحاً في موضع عال، يرصد منه أحوال الكواكب، التي هي أسباب سماوية، تدلّ على الحوادث الأرضية، فيرى هل فيها ما يدلّ على إرسال الله تعالى إياه، أو أن يرى فساد قوله عليه السلام فإنّ إخباره عن إله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود للسماء، وهو مما لا يقوى عليه الإنسان، وما ذلك إلا لجهله بالله وكيفية استنبائه. هـ.
قلت: والظاهر أنه كان مجسّماً، يعتقد أن الله في السماء، وأن اطلاعه إليه إنما كان ليرى هل ثَم إله، وإن قوله:
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً أي: في ادّعاء إله غيري، بدليل قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «1» مع أنَّ هذا كله إنما هو تمويه منه على قومه، وجرأة على الله، لا حقيقة له.
قال تعالى: وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك التزيين المفرط، والصدّ البليغ، زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ فانهمك فيه انهماكاً لا يرعوي عنه بحال، وَصُدَّ «2» عَنِ السَّبِيلِ أي: سبيل الرّشاد، وقرأ الكوفيون ويعقوب «وصُدّ» بالبناء للمفعول، فالفاعل في الحقيقة فيهما هو الله، بتوسط الشيطان في عالم الحكمة، ومَن قرأ «صَدّ» بالبناء للفاعل، فالفاعل: فرعون، إما صدّ الناس عن طريق الحق بأمثال هذه التمويهات، أو: اتصف بالصدّ. وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي: خسران وهلاك.
الإشارة: ما ظهر على فرعون هو من طغيان النفس وعتوها، فإنَّ النفس إذا اتصلت بها العوافي، وساعدتها أقدار الجمال في الظاهر، ادَّعت الربوبية، فإنَّ فرعون قيل: إنه عاش أربعمائة سنة، لم يتوجع فيها قط، فادّعى الربوبية، ولذا قال بعض الصوفية: في النفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون، حين قال: أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى، فكان
(1) من الآية 38 من سورة القصص. [.....]
(2)
قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي:(وصدّ) بضم الصاد. وقرأ الباقون بالفتح. انظر الحجة للفارسى (6/ 112) .