الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم قال الورتجبي: قال أبو بكر النقاش: سألتُ الجنيد عن الأخ الحقيقي؟ فقال: هو أنت في الحقيقة، غير أنه غيرك في الهيكل. قلت: يعني أن الناس في الحقيقة ذاتٌ واحدة، وما افترقوا إلا في الهياكل، فكلهم أخوة. وقال أبو عثمان الحيري: أُخُوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تُقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تقطع بمخالفة النسب. هـ. وتقدم لنا شروط الأخوة في قوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ
…
الآية «1» .
وقال القشيري هنا: ومن حق الأخوة ألا تُلجأه إلى الاعتذار، بل تُبسط عذرَه، أي: تذكر عذره قبل أن يعتذر، فإن أُشكل عليك وجهه عُدت بالملامة على نفسك في خفاء عذره عليك، وتتوب عليه إذا أذنب، وتعوده إذا مرض، وإذا أشار عليك بشيء فلا تطالبه بالدليل وإيراد الحجة، كما أنشدوا:
إِذا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسأَلُوا مَنْ دَعَاهُم
…
لأيَّةِ حَرْبٍ أم لأيِّ مكان «2» . هـ.
ومن أوكد شروطها «3» : التعظيم، كما أبان ذلك بقوله تعالى:
[سورة الحجرات (49) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
يقول الحق جل جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ أي:
عسى أن يكون المسخُورُ منهم خيراً عند الله- تعالى- من الساخرين لأن الناس لا يَطَّلِعون إلا على الظواهر، وهو تعليل للنهي، والقوم خاص بالرجال لأنهم القوّامون على النساء، وهو في الأصل: جمع قائم، كصوم وزور، فى جمع صائم وزائر، واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية إذ لو كانت النساء داخلة في الرجال، لم يقل:
وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ، وحقق ذلك زهير في قوله:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي
…
أَقومٌ آلُ حِصْنِ أَمْ نِساءُ؟ «4»
وأَمَّا قولهم في قوم فرعون، وقوم عاد: هم الذكور والإناث، فليس لفظ القوم شاملاً لهم، ولكن قصد ذكر الذكور، والإناث تبع لهم.
(1) الآية 67 من سورة الزخرف.
(2)
البيت ينسب إلى وداك بن ثميل المازني. كما فى العقد الفريد (5/ 202) ، ونهاية الأرب (3/ 229) .
(3)
أي: الأخوة.
(4)
حيث أراد بالقوم الرّجال دون النّساء. والبيت من الوافر. انظر ديوان زهير (12) والمغني (1/ 41) .
وَلا يسخر نِساءٌ مؤمنات مِنْ نِساءٍ منهن عَسى أَنْ يَكُنَّ أي: المسخور منهن خَيْراً مِنْهُنَّ أي: الساخرات، فإنّ مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يَظهرَ من الصور والأشكال، والأوضاع والأطوار، التي عليها يدور أمر السخرية، وإنما هي الأمور الكامنة في القلوب، من تحقيق الإيمان، وكمال الإيقان، وموارد العرفان، وهي خَفيّة، فقد يُصغّر العبدُ مَن عظَّم اللهُ، ويتحقرُ مَن وقّره الله، فيسقطُ من عين الله، فينبغي ألا يجترئ أحدٌ على الاستهزاء بأحدٍ إذا رآه رَثّ الحال، أو ذا عاهة في بدنه، ولو فى دينه، فلعله يتوب ويُبتلى بما ابْتُلي به. وفي الحديث:«لا تُظْهِر الشماتَة لأخيك فيُعافِيه الله ويبتليكَ» «1» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه: البلاء موكّل بالقول، لو سخِرتُ من كلب لخشيتُ أن أُحَوَّل كلباً. هـ.
وتنكير القوم والنساء إما لإرادة البعض، أي: لا يسخر بعضُ المؤمنين والمؤمنات من بعض، وإما لإرادة الشيوع، وأن يصير كل جماعة منهم مَنهية عن السخرية، وإنما لم يقل: رجلٌ من رجلٍ، ولا امرأةٌ من امرأة إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية، واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه.
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ولا يعيب بعضكم بعضاً بالطعن في نسبه أو دينه، واللمز: الطعن والضرب باللسان، والمؤمنون كنفس واحدة، فإذا عاب المؤمن المؤمنُ فقد عاب نفسه. وقيل: معناه: لا تفعلوا ما تلمزون به أنفسكم بالتعرُّض للكلام لأن مَن فعل ما استحق به اللمز فقد لمزَ نفسَه حقيقة. وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي: لا يَدْعُ بعضكم بعضاً بلقب السوء، فالتنابزُ بالألقاب: التداعي بها. والتلقيبُ المنهي عنه ما يُدخِل على المدعُوِّ به كراهيةً، لكونه تقصيراً به وذمّاً له، فأمَا ما يُحبه فلا بأس به، وكذا ما يقع به التمييز، كقول المحدِّثين: حدثنا الأعمش والأحدب والأعور.
رُوي أن قوماً من بني تميم استهزأوا ببلال وخَبَّاب وعَمَّار وصُهيب، فنزلت «2» . وعن عائشة- رضي الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة، وكانت قصيرة. وعن أنس: عَيّرت نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ سلمة بالقِصَر، فنزلت «3» . ورُوي: أنها نزلت في ثابت بن قيس، وكان به وَقْر- أي: صمم- فكانوا يوسِّعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى قوماً وهو يقول: تفسَّحوا، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل: تنحّ فلم يفعل، فقال: مَن هذا؟
فقال: أنا فلان، فقال: فلان بن فلانة- يريد أُمّاً كان يُعَير بها في الجاهلية، فخجل الرجُل، فنزلت، فقال ثابت: والله لا أفخر على أحد بعد هذا أبدا «4» .
(1) أخرجه الترمذي فى (صفة القيامة والرّقائق، باب 54، ح 2506) من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حديث حسن غريب» .
(2)
عزاه السيوطي فى الدر (6/ 96- 97) لابن أبى حاتم، عن مقاتل.
(3)
ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (ص 409) .
(4)
ذكره البغوي فى تفسيره 70/ 342- 343) عن ابن عباس رضي الله عنه.
وقال ابن زيد: معنى وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ لا يقل أحد: يا يهودي، بعد إسلامه، ولا يا فاسق، بعد توبته.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يعني: أن اللقب بئس الاسمُ هو، وهو ارتكابُ الفسق بعد الإيمان، وهو استهجان للتنابز بالألقاب، وارتكاب هذه الجريمة بعد الدخول في الإسلام، أو: بئس قولُ الرجل لأخيه: يا فاسق، بعد توبته، أو: يا يهودي، بعد إيمانه، أي: بئس الرمي بالفسوق بعد الإيمان.
رُوي: أنَّ الآية نزلت في صفية بنت حُيي، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يقُلن لي: يا يهودية بنتُ يهوديّين، فقال صلى الله عليه وسلم:«هلاّ قلت: إن أبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم» «1» ، أو: يُراد بالاسم هنا:
الذكر، من قولهم: طار اسمه فى النّاس بالكرم أو اللؤم، كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يُذكروا بالفسق.
وقوله: بَعْدَ الْإِيمانِ، استقباح للجمع بين الإيمان والفسق الذي يحظره الإيمان، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة الصَّبْوة. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما نُهي عنه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضع المخالفة موضع الطاعة، فإن تاب واستغفر خرج من الظلم.
وعن حذيفة رضي الله عنه: شَكَوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَرَب لساني، فقال:«أين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة» «2» ، والذَرَب- بفتح الذال والراء: الفحش، وفي حديث ابن عمر: كنا نعدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: «رب اغفر لي، وتب عليّ، إنك أنت التوّاب الرحيم» «3» .
الإشارة: مذهب الصوفية التعظيم والإجلال لكل ما خلق الله، كائناً مَن كان لنفوذ بصيرتهم إلى شهودِ الصانع والمتجلِّي، دون الوقوف مع حس الصنعة الظاهرة، وقالوا:«شروط التصوُّف أربعة: كف الأذى، وحمل الجفا، وشهود الصفا، ورميُ الدنيا بالقفا» . فشهود الصفا يجري في الأشياء كلها، فإياك يا أخي أن تَحقِر أحداً من خلق الله فتُطرد عن بابه، وأنت لا تشعر، ولله در القائل:
(1) أخرج الترمذي فى (المناقب، باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ح 3894) والنّسائى فى الكبرى (عشرة النّساء 33) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (5/ 394 و 396، ح 23233 و 23255) وابن أبى شيبة (كتاب الدعاء 6/ 57، ح 29432) والحاكم (2/ 457)«وصحّحه وأقره الذهبي» والبيهقي فى الشعب (6786) .
(3)
أخرجه أبو داود فى (الصلاة، باب فى الاستغفار، ح 1516) والترمذي فى (الدعوات، باب ما يقول إذا قام من مجلسه، ح 3434) وقال: «حديث حسن صحيح غريب» وابن ماجة فى (الأدب، باب الاستغفار، ح 3814) والنّسائى فى عمل اليوم والليلة (ص 148) وزاد السيوطي عزوه فى الدر (6/ 48) لابن أبى شيبة وابن مردويه، والبيهقي فى الأسماء والصفات.