الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة ق
مكية. وهى خمس وأربعون آية. ووجه مناسبتها: أن السورة قبلها واردة فى الترغيب فى الأدب، والترهيب من سوء الأدب، ولا يتحقق ذلك إلا لمن صحت عنده رسالة الرّسول ونبوته، فأقسم فى هذه السورة على تحقيق رسالته وإنذاره بقوله:
[سورة ق (50) : الآيات 1 الى 11]
بسم الله الرحمن الرحيم
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماء مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)
يقول الحق جل جلاله: ق أيها القريب المقرب من حضرتنا وَحق الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إنك لرسول مجيد، أو: ق أي: وحق القَويّ القريب، والقادر القاهر. وقال مجاهد: هو جبل محيط بالأرض من زمُردة خضراء، وعليه طغى الماء، وخُضرة السماء منه، والسماء مقبّبة عليه، وما أصاب الناس من زمرد فمما تساقط من ذلك الجبل. ورُوي أن ذا القرنين وصل إليه، فخاطبه «1» ، وقال: يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله، قال: إن
(1) قال ابن كثير فى تفسيره (4/ 222) : «وقد روى عن بعض السلف أنهم قالوا: «ق» جبل محيط بجميع الأرض، يقال له: جبل قاف، وكأن هذا- والله أعلم- من خرافات بنى إسرائيل التي أخذها عنهم بعض النّاس، لما رأوا من جواز الرّواية عنهم، مما لا يصدّق ولا يكذب، وعندى: أن هذا وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على النّاس أمر دينهم» .
شأن ربنا لَعظيم، وإن ورائي أرضاً ميسرة خمسمائة عام، في عرض خمسمائة عام، من ثلج يحطم بعضه بعضاً، لولا ذلك الثلج لاحترقت من نار جهنم. هـ.
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أي: ذي المجد والشرف على سائر الكتب، أو: لأنه كلام مجيد، مَن علم معانيه وعمل بما فيه مَجُد عند الله وعند الناس. وجواب القسم محذوف، أي: إنك لرسول نذير، أو: لتبعثن، بدليل قوله: أَإِذا مِتْنا.. الخ، أو: إنا أنزلناه إليك لتُنذر به فلم يؤمنوا، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ أي: لأن جاءهم مُنْذِرٌ مِنْهُمْ من جنسهم، لا من جنس الملائكة، أو: من جلدتهم، وهو إنكار لتعجّبهم مما ليس بعجب، وهو أن يُخوفهم من غضب الله رجلٌ منهم قد عرفوا عدالته وأمانته، ومَن كان كذلك لم يكن إلا ناصحاً لقومه، خائفاً أن ينالهم مكروه وإذا علم أن مخوفاً أظلهم لزمه أن ينذرهم، فكيف بما هو غاية المخاوف؟ أو إنكار لتعجُّبهم مما أنذرَهم به من البعث مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السموات والأرض وما بينهما، وإقرارهم بالنشأة الأولى، مع شهادة العقل بأنه لا بدّ من الجزاء، وإلا كان إنشاء الخلق عبثاً. ثم بيَّن تعجُّبهم بقوله: فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي: هذا الذي يقوله محمد من البعث بعد الموت شيءٌ عجيب، أو: كون محمد منذراً بالقرآن شيءٌ يُتعجب منه. ووضع «الكافرون» موضع الضمير للدلالة على أنهم في قولهم هذا مُقدِمون على كفر عظيم.
ثم قالوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً أي: أنُبعث حين نموت ونصير تراباً كما يقوله هذا النذير؟ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي: ذلك البعث بعد هذه الحالة رجوع مستبعَد، منكَر، بعيد من الوهم والعادة. فالعامل في «إذا» محذوف مفهوم من الكلام كما قدرنا. قال تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ، وهو ردّ لاستبعادهم فإنَّ مَن عمّ علمه ولطفه حتى ينتهي إلى حيث علم ما تنقص الأرضُ من أجساد الموتى، وتأكل من لحومهم وعظمهم، كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا؟! عن النبي صلى الله عليه وسلم:«كلُّ ابن آدم يأكله التراب إلا عَجْبُ الذَّنَب، ومنه خُلق، وفيه يُرَكَّب» «1» وهو العُصْعص، وقال في المصباح: العَجْب «2» - كفلْس- من كل دابة: ما انضم عليه الورِك من أصل الذَّنَب. هـ. وهو عَظم صغير قدر الحمصة، لا تأكله الأرض، كما لا تأكل أجساد الأنبياء والأولياء والشهداء.
قال ابن عطية: حفظ ما تنقص الأرض إنما هو لِيعود بعينه يوم القيامة، وهذا هو الحق. وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأجساد المبعوثة يجوز أن تكون غير هذه، هذا عندي خلاف ظاهر كتاب الله، ولو كانت غيرها كيف كانت تشهد الجلود والأيدى والأرجل على الكفرة؟ إلى غير ذلك مما يقتضي أن أجساد الدنيا هي التي تعود. هـ.
(1) أخرجه مسلم فى (الفتن، باب ما بين النّفختين ح 2955) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري مطولا وبنحوه فى (التفسير- سورة الزمر، باب وَنُفِخَ فِي الصُّورِ.. ح 4814) .
(2)
بسكون الجيم.
وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ لتفاصيل الأشياء، أو: محفوظ من التغيير، وهو اللوح المحفوظ، أو: حافظاً لما أودعه وكتب فيه، أو: يريد علمه تعالى، فيكون تمثيلاً لعلمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها، بعلم مَنْ عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شيء.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ، إضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة، وتكذيب البعث، الى ما هو أشنع منه وأفظع، وهو تكذيبهم للنبوة الثابتة بالمعجزات الباهرة، لَمَّا جاءَهُمْ من غير تأمُّل وتفكُّر، وقيل: الحق: القرآن، أو: الإخبار بالبعث، فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب، لا قرار له، يقال: مرج الخاتم في أصبعه إذا اضطرب من سعته، فيقولون تارة: مجنون، وطوراً: ساحر، ومرة: كاهن، ولا يثبتون على قول. أو: مختلط، يقال: مرج أمر الناس: اختلط. أو: ملبِس، قال قتادة: مَن ترك الحق مرج عليه أمره، وألبس عليه دينه.
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ بحيث يشاهدونها كل وقت كَيْفَ بَنَيْناها رفعناها بغير عمد وَزَيَّنَّاها بما فيها من الكواكب المترتبة على نظام عجيب، وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ من فنوق لمَلاستها وسلامتها من كل عيبٍ وخلل، وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت، من: رسى الشيء ثبت، والتعبير عنها بهذا الوصف للإيذان بأن إلقاءها إنما هو للإرساء، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف بَهِيجٍ حسن. تَبْصِرَةً وَذِكْرى علتان للأفعال المذكورة، أي: فعلنا ما فعلنا تبصُّراً وتذكيراً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي: راجع إلى ربه، متفكر في بدائع صنائعه.
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً كثير المنافع فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ بساتين كثيرة وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي:
حب الزرع الذي شأنه أن يحصد من البُرِّ والشعير وأمثالهما، وتخصيص حب الحصيد بالذكر لأنه المقصود بالذات إذ به جل القوام.
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ طوالاً في السماء، أو: حوامل، من: بسَقت الشاة: إذا حملت. وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في «جنات» لبيان فضلها على سائر الأشجار، لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود، بعضه فوق بعض، والمراد:
تراكم الطلع، أو: كثرة ما فيه من الثمر، رِزْقاً لِلْعِبادِ أي: لرزق أشباحهم، كما أن قوله: تَبْصِرَةً وَذِكْرى لرزق أرواحهم. وفيه تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بما ذكر من حيث التذكُّر والتبصُّر الذي هو رزق الروح أهم وأقدم من تمتُّعه من حيث الرزق الحسي، وَأَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أرضاً جدبة، لا نماء فيها أصلا، فلما أنزلنا عليها الماء ربت واهتزت بالنبات والأزهار، بعد ما كانت جامدة. وضمَّن البلدة معنى
البلد فذَكَّر الوصف. كَذلِكَ الْخُرُوجُ من القبور، فكما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تُخرجون أحياء بعد موتكم، لأن إحياء الموات كإحياء الأموات. وقدّم الخبر للقصد إلى القصر. والإشارة في «كذلك» إلى الحياة المستفادة من الإحياء، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعد رتبها، أي: مثل ذلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور، لا شيء مخالف لها. وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء، وعن حياة الأموات بالخروج تفخيم لشأن النبات، وتهوين لأمر البعث، وتحقيق للمماثلة لتوضيح منهاج القياس، وتقريبه إلى أفهام الناس.
الإشارة: ق أيها القريب المقرب، وحق القرآن المجيد، إنك لحبيب مجيد، رسول من عند الملك المجيد، وإن كنت بشراً فنسبتك من البشر كياقوتة بين الحجر، فالبشرية لا تُنافي الخصوصية، بل تجامعها مِنَّةً منه تعالى وفضلاً، على مَن شاء من عباده، فاستبعاد الكفار مجامعة الخصوصية للبشرية كاستبعاد إبليس تفضيل آدم لكونه بشراً من طين، وذلك قياس فاسد، مضاد للنص، وكما استَبعدت الكفرة وجود خصوصية النبوة في البشر، استبعدت الجهلة خصوصية التربية بالإصطلاح في البشر، بل عجِبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ، يدل على الله، ويُبين الطريق إليه، قالوا: هذا شيء عجيب، أئذا متنا بأن ماتت قلوبنا بالغفلة، وكنا تراباً أرضيين بشريين، تحيى أرواحنا بمعرفة العيان؟! ذلك رجع بعيد.
قال تعالى: (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) أرض النفوس من أرواحهم، وتهوي بها إلى الحضيض الأسفل، فيجذبها إلى أعلى عليين، إن سبقت عنايتنا، وعندنا كتاب حفيظ يحفظ المراتب والمقامات، فيلتحق كل واحد بما سبق له. بل كذّبوا بالحق، وهو الداعي إلى الحق، لمّا جاءهم في كل زمان، فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ، تارة يُقرون وجود التربية بالهمّة والحال، وينكرون الاصطلاح، وتارة يُقرون بالجميع، وينكرون تعيينه، أفلم ينظروا إلى سماء القلوب والأرواح، كيف بنيناها، أي: رفعنا قدرها بالعلوم والمعارف، وزيَّنَّاها بأنوار الإيمان والإحسان، وليس فيها خلل، وأرض النفوس مددناها: جعلناها بساطاً للعبودية، وألقينا فيها رواسي أرسيناها بالعقول الصافية الثابتة، لئلا تضطرب عند زلزلات الامتحان، وأنبتنا فيها من كل صنف بهيج، من فنون علم الحكمة والتشريع، تبصرةً وتذكيراً لكل عبدٍ منيبٍ، راجع إلى مولاه، قاصدٍ لمعرفته.
قال القشيري: تبصرةً وذكرى لمَن رجع إلينا في شهود أفعالنا إلى رؤية صفاتنا، ومن شهود صفاتنا إلى شهود ذاتنا. هـ. ونزَّلنا من السماء ماء العلوم اللدنية، كثير البركة والنفع، فأنبتنا به جنات المعارف وحب الحصيد، وهو حب المحبة لأنه يحصد من القلب محبة ما سوى الله. والنخل باسقات، أي: شجرة المعرفة الكاملة لها طلع نضيد: