الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومَن شرب بكأس الصفا خلص له عن كل شوب بلا كدورة في عهده، فهو في كل وقت ظامئ عن نفسه، خالٍ عن مطالباته، قائم به، بلا شغل في الدنيا ولا في الآخرة، ومَن شرب كأس الولاء عدم فيه القرار، ولم يغب سيرُه لحظة، ليلاً ولا نهاراً، وَمن شرب في حال اللقاء أَنِسَ على الدوام ببقائه فلم يطلب مع بقائه شيئاً آخر، لا من عطائه ولا من لقائه لاستهلاكه في علائه عند سطوات كبريائه. هـ.
قلت: أما شراب الوفاء فهو عَقد الإرادة مع الشيخ، أو عقد المحبة والخدمة مع الحق، فيجب الوفاء بكل منهما، وهو كشُرب العطشان من الماء العذب، وأما شراب الصفاء فهو صفاء العلم بالله، وهو كاللبن تتغذى به الأرواح في حال ترقيها إلى الحضرة، وأما شراب الولاء فهو شراب أهل التمكين من الولاية الكبرى، فيشربون من الخمرة الأزلية، فيسكرون، ثم يصحون، وفيها يقول الششتري رضي الله عنه:
لَا شَرابَ الدَّواليِ، إِنَّها أَرْضِيَّة
…
خَمْرُهَا دُون خَمْرِي، خمرتي أزليه «1»
وأما شراب حال اللقاء فالمراد به: أوقات رجوعهم إلى البقاء، فيتفنّنون في علوم الحكمة وحلاوة المعاملة.
والله تعالى أعلم.
ثم شفع بأضدادهم، فقال:
[سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 18]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)
قلت: (آنفاً) : قال الزمخشري ومَن تبعه: ظرف، أي: الساعة، وقال أبو حيان: لا أعلم أحداً عدّه من الظروف، وجوَّز «مَكيّ» فيه الظرف والحالية،. قال الهروي:«آنفا» مأخوذة من: ائتنفت الشيء: إذا ابتدأته، وروضة أنُفٌ: إذا لم تُرعَ. المعنى: ماذا قال في وقت يقرب من وقتنا؟. و (أن تأتيهم) : بدل اشتمال من الساعة.
يقول الحق جل جلاله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، وهم المنافقون، كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمعون كلامه ولا يَعُونَه، ولا يُراعونَه حق رعايته، تهاوناً منهم، حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
(1) انظر الديوان ص 310. والدوالى: العنب
من الصحابة- رضي الله عنهم: ماذا قالَ آنِفاً ما الذي قال الساعة؟ على طريقة الاستهزاء، أو: ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه؟.
وقال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، ويعيب المنافقين، فسمع المنافقون قوله، فلما خرجوا من المسجد، سألوا ابنَ مسعود عما قال النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء «1» . وقال ابن عباس:«أنا من الذين أتوا العلم، وقد سُئلت فيمن سُئل» «2» .
ويقال: الناس ثلاثة: سامع عامل، وسامع غافل، وسامع تارك.
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ لعدم توجهها إلى الخير أصلاً، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ الباطلة، فلذلك فعلوا ما فعلوا، مما لا خير فيه، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا إلى طريق الحق زادَهُمْ الله بذلك هُدىً علماً وبصيرة، أو شرْح صدر بالتوفيق والإلهام، أو: زادهم ما سمعوا من الرّسول صلى الله عليه وسلم هدايةً على ما عندهم، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ أعانهم عليها، أو: آتاهم جزاء تقواهم، أو: بيَّن لهم ما يتقون.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي: ما ينتظرون إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي: تُباغِتهم بغتةً، وهي الفجاءة، والمعنى:
أنهم لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية، ولا بالإخبار بإتيان الساعة، وما فيها من عظائم الأهوال، وما ينظرون إلا إتيان نفس الساعة بغتة، فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها علاماتها، جمع: شَرَط بالتحريك، بمعنى: العلامة، وهي مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وانشقاق القمر، والدخان، على قول. وقيل: قطع الأرحام، وقلة الكِرام، وكثر اللئام، فقوله تعالى: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها تعليل لمفاجأتها، لا لمطلق إتيانها، على معنى: أنه لم يبقَ من الأمور الموجبة للتذكير أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة، إذ قد جاء أشراطها، فلم يرفعوا لها رأساً، ولم يعدوها من مبادئ إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة.
فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ، قال الأخفش: التقدير: فأنَّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم، أي: فمن أين لهم التذكير والاتعاظ إذا جاءتهم الساعة؟ ف «ذكراهم» : مبتدأ، و «أنَّى» : خبر مقدم، و «إذا جاءتهم» : اعتراض، وسط بينهما، رمز إلى غاية سرعة مجيئها، والمقصود: عدم نفع التذكير عند مجيئها، كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى «3» .
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (7/ 283) .
(2)
أخرجه ابن جرير (26/ 51) والحاكم (التفسير 2/ 457) بلفظ: «كنت فيمن يسئل» والحديث صحّحه الحاكم، من طريق سعيد بن جبير، ووافقه الذهبي.
(3)
من الآية 23 من سورة الفجر.