الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتجبّر ففرعون إمامه وقدوته. أو: جعلناهم متقدمين في الهلاك، ليتعظ بهم مَن بعدهم إلى يوم القيامة.
والسلف: جمع سالف، وهو الفارط المتقدم، وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ أي: عظةً لهم، أو: قصة عجيبة، تسير مسير الأمثال، فيقال: مثلكم كقوم فرعون، كما قال تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ «1» . وهاهنا قراءات، قد وجَهناها في كتاب مستقل.
الإشارة: عاقبة التكبُّر والافتخار الذُّل والهوان والدمار، وعاقبة التواضع والانكسار العزُّ والنصرة، انظر إلى فرعون لما تعزّز واستكبر هلك مع قومه في لُجة البحار. قال القشيري: ليعلم أن مَن تعزّز بشيء دون الله فهلاكه وحتْفه فيه، وفرعون لمَّا استصغر موسى وحديثه، وعابَه بالفقر، سلَّطه الله عليه، فكان هلاكه بيده، وما استصغر أحدٌ أحداً إلا سُلط عليه. ثم قال في قوله تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ: طاعةٌ الرهبة لا تكون مخلصةً، وإنما تكون الطاعةُ صادقةً إذا صَدَرَتْ عن الرغبة، فَلَمَّا آسَفُونا أغضبونا، وإنما أراد: أغضبوا أولياءنا، وهذا أصل في باب الجمع، أضاف إغضابهم أولياءه إلى نفسه. وفي الخبر أنه تعالى يقول:«مرضت فلم تعدني» «2» وقال لإبراهيم عليه السلام: يَأْتُوكَ رِجالًا «3» وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «4» هـ.
ثم ذكر شأن عيسى، فقال:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 62]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
(1) من الآية 11 من سورة آل عمران.
(2)
حديث قدسى صحيح، أوله: «يا ابن آدم
…
» ، أخرجه مسلم فى (البر والصلة، باب فضل عيادة المريض، 4/ 1990، ح 56) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(3)
من الآية 27 من سورة الحج.
(4)
من الآية 80 من سورة النّساء.
يقول الحق جل جلاله: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على قريش: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ
…
«1» الآية، فغضبوا، فقال ابن الزِّبَعْرى: يا محمد! أخاصة لنا ولآلهتنا، أم لجميع الأمم؟ فقال عليه الصلاة والسلام:«هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» ، فقالوا: ألست تزعم أن عيسى [نبي] ، يُثنى عليه وعلى أمّه خيراً، وقد علمت أنَّ النصارى يعبدونهما؟ وعزير يُعبد، والملائكة يُعبدون، فإن كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا، وضحكوا، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم انتظاراً للوحي.
وفي رواية: فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «إنما عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك» . وقال ابن الزبعرى: «ما أجهلك بلغة قومك، أَمَا فهمت أن «ما» لِما لا يعقل، فهي خاصة بالأصنام» «2» ، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى
…
«3» الآية. ونزلت هذه الآية.
والمعنى: ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا لآلهتهم، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه إِذا قَوْمُكَ قريش مِنْهُ أي: من هذا المثل يَصِدُّونَ ترتفع لهم جلبة وضجيج، فرحاً وضحكاً، فهو من: الصديد، وهو الجلبة ورفع الصوت، ويؤيده: تعديته بمَن، ولو كان من الصدود لقال:«عنه» ، وقرئ بالكسر والضم، قيل: هما لغتان، كيعكِفُون ويعكُفُون ويعرِشون ويعرُشُون، وقيل: بالكسر معناه: الصديد، أي: الضجيج والضحك، وبالضم معناه: الإعراض، فيكون من الصدود، أي: فهم من أجل هذا المثل يعرضون عن الحق، أي:
يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض، أو يزدادون.
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعني أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا هيناً. أو: فإذا كان عيسى في النار، فلا بأس بكوننا مع آلهتنا فيها. قال تعالى: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي: ما ضربوا لك ذلك المثل إلا لأجل الجدال والخصام، لا لطلب الحق حتى يذعنوا له عند ظهوره، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي: لُدّاً، شِدَاد الخصومة، مجبولون على اللجاج، وذلك أن الآية إنما قصدت الأصنام، بدليل التعبير ب «ما» ، إلا أن ابن الزبعرى حدا عنه لمّا رأى كلام الله تعالى محتملاً لفظُه للعموم، مع علمه بأن المراد به أصنامهم، وجد للحيلة مساغاً، فصرف اللفظ إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله، على طريق اللجاج والجدال والمكابرة، وتوقَّح في ذلك، فصمت عنه صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه.
(1) الآية 98 من سورة الأنبياء.
(2)
قال الحافظ ابن حجر فى الكافر الشاف (ص 111- 112) : «استقر فى ألسنة كثير من علماء العجم، وفى كتبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما أجهلك بلغة قومك..» إلخ. وهو شىء لا أصل ولا يوجد لا مسندا ولا غير مسنده. هـ. ووجدت على هامش النّسخة الأم ما يلى:
«هذه الرّواية لا أصل لها، بل الخبر من أصله لم يورده المؤلف كما هو، ولبيان ذلك لا يسعه هذا المحل» هـ. [.....]
(3)
الآية 101 من سورة الأنبياء.
وقيل: لما سمعوا قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ
…
«1» الآية، قالوا: نحن أهدى من النصارى، لأنهم عبدوا آدمياً، ونحن نعبد الملائكة، فنزلت. فقولهم: آلهتنا خير، هو حينئذ تفضيل لآلهتهم على عيسى عليه السلام لأن المراد بهم الملائكة. ومعنى: ما ضَرَبُوهُ.. الخ: ما قالوا هذا القول إلا للجدال. وقيل: لما نزل: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ.. الآية، قالوا: ما يريد محمد إلا أن نعبده كما عبد النصارى المسيح. ومعنى «يصدون» : يضجون ويسخرون، والضمير على هذا في «أم» هو لمحمد صلى الله عليه وسلم، وغرضهم ومرادهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون مرادهم التنصُّل عما أنكر عليهم من قولهم: الملائكة بنات الله، ومن عبادتهم لهم، كأنهم قالوا: ما قلنا بدعاً من القول، ولا فعلنا منكراً من الفعل، فإنَّ النصارى جعلوا المسيح ابن الله، وعبدوه، فنحن أرشد منهم قولاً وفعلاً، حيث نسبنا له الملائكة، وهم نسبوا إليه الأناسي. فقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ أي: ما عيسى إلا عبد، كسائر العبيد، أنعمنا عليه بالنبوة، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ، أي: أمراً عجيباً، حقيقاً بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة، ففيه تنبيه على بطلان رفعه عن رتبة العبودية، أي: قصارى أمره أنه ممن أنعمنا عليه بالنبوة، وخصصناه ببعض الخواص البديعة، بأن خلقناه على وجهٍ بديع، وقد خلقنا آدم بوجه أبدع منه، فأين هو من رتبة الربوبية حتى يتوهم أنه رضي بعبادته مع الله؟ ومَن عبده فإنما عبد الشيطان.
ثم قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ بدلاً منكم، كذا قال الزجاج، ف «مِن» بمعنى البدل يَخْلُفُونَ أي: يخلفونكم في الأرض، أي: لو نشاء لذهبنا بكم وجعلنا بدلاً منكم ملائكة يخلفونكم في الأرض، فيكونون أطوع منكم لله تعالى، وقيل:(ولو نشاء) لقدرتنا على عجائب الأمور (لجعلنا منكم) بطريق التوالد، وأنتم رجال، من شأنكم الولادة- (ملائكة) كما خلقناهم بطريق الإبداع (في الأرض) مستقرين فيها، كما جعلناهم مستقرين في السماء، يخلفونكم مثل أولادكم، ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم، فكيف يستحقون المعبودية مع أنهم أجسام، متولدون عن أجسام، والمستحق للعبادة يتعالى عن ذلك؟! وَإِنَّهُ أي: عيسى عليه السلام لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي: مما يعلم به مجيء الساعة عند نزوله. وقرأ ابن عباس «لَعَلَمٌ» بفتح اللام «2» ، أي: وإن نزوله لَعَلَم للساعة، أو: وإن وجوده بغير أب، وإحياءه للموتى، دليل على صحة البعث، الذي هو معظم ما ينكرة الكفرة.
(1) الآية 59 من سورة آل عمران.
(2)
اللام الثانية مع فتح العين (لعلم) وهو الأمارة والعلامة.