الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة غافر
«1» مكية «2» . وآيها: خمس- أو ثمان- وثمانون آية «3» ، ومناسبتها لما قبلها قوله: غافِرِ الذَّنْبِ
…
إلخ، فإنها فذلكة لما تقدم من أحوال المحشر لأن منهم من غفرت ذنوبه، وقبلت توبته، فسيق إلى الجنة، وتطاولت عليه النّعم، ومنهم من شددّ عقابه، وردت عليه محاسنه، فسيق إلى النّار، قال تعالى:
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَاّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
يقول الحق جل جلاله: حم أي: يا محمد. فاقتصر على بعض الحروف، ستراً عن الوشاة، كعادة العُشاق في ذكر محبوبهم، يرموزن إليه ببعض حروفه. وقال ابن عطية: سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن «حم» ما هو؟
فقال: «بدء أسماء وفواتح سور» «4» وفي حديث: «إذا بُيتّم فقولوا: حم لا يُنصرون» قال أبو عبيد: كأن المعنى: اللهم لا ينصرون. قلت: لا يبعد أن يكون توسل بحبيب الله على هزم الأعداء. وعن ابن عباس: (أنه اسم الله الأعظم) .
هـ. وكأنه مختصر من «حي قيوم» .
تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي: هذا تنزيل القرآن مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي: العزيز بسلطانه، الغالب على أمره، العليم بمَن صدّق به وكذّب. وهو تهديد للمشركين، وبشارة للمؤمنين. والتعرُّض لوصفي العزة والعلم للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب لظهوره عزِه وعز مَن تمسّك به، ولاشتماله على علوم الأولين والآخرين.
(1) فى الأصول: [سورة المؤمن] .
(2)
قال السيوطي فى الدر المنثور (5/ 643) : أخرج ابن الضريس، والنّحاس والبيهقي فى الدلائل، عن ابن عباس- رضي الله عنهما، قال:«أنزلت الحواميم السبع بمكة» .
(3)
قال الداني فى «البيان فى عد آي القرآن» ص 218: «وهى ثمانون وثنتان فى البصري، وأربع فى المدنيين والمكي، وخمس فى الكوفي، وست فى الشامي» . هذا ولم أقف على من قال أنها ثمان وثمانون آية.
(4)
ذكره فى المحرر الوجيز (4/ 545) والبحر المحيط (7/ 429) .
غافِرِ الذَّنْبِ أي: ساتر ذنب المؤمنين وَقابِلِ التَّوْبِ وقابل توبةَ الراجعين شَدِيدِ الْعِقابِ للمخالفين، ذِي الطَّوْلِ على العارفين، أي: الفضل التام على العارفين، أو: ذي الغنى عن الكل. وعن ابن عباس: (غافر الذنب، وقابل التوب، لمَن قال: «لا إله إلا الله» شديد العقاب لمن لم يقل لا إله إلا الله)«1» .
والتَّوب: مصدر، كالتوبة. ويقال: تاب وثاب وآب، أي: رجع، فإن قلتَ: كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً، والموصوف معرفة، وهو الله؟ قلتُ: أما غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ فمعرفتان لأنه لم يُرِدْ بهما حدوث الفعلين حتّى يكون في تقدير الانفصال، فتكون إضافتهما غير حقيقة، وإنما أُريد ثُبوت ذلك ودوامه. وأما شَدِيدِ الْعِقابِ فهو في تقدير: شديد عقابُه، فيكون نكرة، فقيل: هو بدل، وقيل: كلّها أبدال غير أوصاف. وإدخال الواو في قابِلِ التَّوْبِ لنكتة، وهي: إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين قبول توبته، فتُكتب له طاعة، وبين جعلها ماحية للذنوب، كأن لم يُذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول. وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات النعمة دليل سبقها ورجحانها، «أنَّ رَحمَتِي سبقَت غَضَبي» «2» .
قال القشيري: سُنَّةُ اللهِ تعالى: إذا خَوَّف العبادَ باسْمٍ، أو لفظٍ، تدارَكَ قلوبَهم بأن يُبشِّرهم باسْمَين أو وَصْفيْن. هـ. رُوي: أن عمر رضي الله عنه افتقد رجلاً ذا بأسٍ شديد، من أهل الشام، فقيل له: تابَع هذا الشراب، فقال لكاتبه: اكتب: من عمر إلى فلان، سلام الله عليك، وأنا أحمد إليك اللهَ، الذي لَا إله إِلَاّ هُوَ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم
…
إلى قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وختم الكتاب، وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر مَن عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته الصحيفة، جعل يقرؤها، ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذّرني من عقابه، فلم يبرح يردّدها حتى بكى. ثمّ نزع، فأحسن النزوع، وحسنت توبته. فلما بلغ عمر رضي الله عنه أمرُه، قال:«هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم قد زلّ فسدّدوه، وادعو له الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه» «3» أي:
بالدعاء عليه هـ.
لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: فيجب الإقبال الكلي عليه، وهو: إما استئناف، أو: صفة لذي الطَّوْل، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: المرجع، فيُجازي كُلاًّ من العاصي والمطيع. قال القشيري: إذا كان إلى الله المصير فقد طاب المسير.
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ أي: ما يُخاصم فيها بالطعن فيها، واستعمال المقدمات الباطلة لإدحاض الحق المشتملة عليه، إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، وأما الذين آمنوا فلا يخطر ببالهم شائبة شُبهة منها، فضلاً عن الطعن فيها،
(1) ذكره البغوي فى التفسير (7/ 138) .
(2)
جزء من حديث صحيح، أخرجه البخاري فى (التوحيد، باب قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ح 7554) ومسلم فى (التوبة، باب فى سعة رحمة الله تعالى، رقم 4751، ح 15) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه أبو نعيم فى الحلية (4/ 97) .
وأما الجدال فيها لحل مشكلاتها، وكشف حقائقها، وتوضيح مناهج الحق منها، وردّ مذاهب أهل الزيغ بها، فمِن أعظم الجهاد في سبيل الله.
قال الطيبي: وأما اتصال قوله: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ
…
الآية بما قبله، فهو أنه لَمَّا قال تعالى: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ من الإله المعبود، الموصوف بصفات العلم الكامل، والعز الغالب، الجامع بين غفران الذنب وقبول التوبة، المتفرّد بالعقاب، الذي لا يقدّر كنهه، وبالإفضال الذي لا يبلغ قدره، قال: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ أي: ما يجادل في مثل هذا الكتاب، المشتمل على الآيات البينات، المنزل من مثل ذلك الموصوف بنعوت الكمال، إلا أمثال هؤلاء الكفرة المغرورين، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ فإنه استدراج، فلا يَغْرُر مثلك في منصب الرسالة تقلُبُ أولئك تقلبَ الأنعام، المنعَّمين في هذا الحطم. وآيات الله: مظهر أقيم مقام المُضمر للتعظيم والتفخيم. هـ.
والفاء لترتيب النهي عن الاغترار على ما قبله من التسجيل عليهم بالكفر، الذي لا شيء أمقت منه عند الله، ولا أجلب لخسران الدنيا والآخرة، فإنَّ مَن تحقق ذلك لا يكاد يغتر بما لَهُم من الحظوظ الفانية، والزخارف الدنيوية، فإنهم مأخوذون عما قليل، كما أُخذ من قبلهم. ولذلك ذكرهم بقوله: كَذَّبَتْ
…
الخ.
الإشارة: «حم» أي: بحلمي ومجدي تجليت في كلامي، المنزل على حبي، وهو تنزيل الكتاب من الله العزيز، المُعزّ لأوليائه، العليم بما كان وما يكون منهم، فلا يمنعه عِلمُه عما سَلَفَ من قضائه. غافرُ الذنب لمَن أَصَرَّ واجْتَرَم، وقابلُ التوب لمَن تاب واحتشم، شديد العقاب لمَن جَحَدَ وكفر، ذي الطول لمَن توجه ووصل، ويقال: غافر الذنب للغافلين، وقابل التَّوب للمتوجهين، شديد العقاب للمنكرين، ذي الطول للعارفين الواصلين. لَا إله إِلَاّ هُوَ، فلا موجود معه، إليه المصير بالسير في ميادين النفوس، حتى يحصل الوصول إلى حضرة القدوس. ما يُجادل في آيات الله، وهم أولياء الله، الدالون على الله، إلا أهلُ الكفر بوجود الخصوصية. قال القشيري: إذا ظهر البرهانُ، واتَّضح البيانُ استسلمَت الألبابُ الصاحيةُ للاستجابة والإيمان. وأمَّا أهلُ الكفر فلهم على الجحود إصرارٌ، وشُؤْمُ شِرْكهم يحولُ بينهم وبين الإنصاف، وكذلك مَن لا يحترم أولياء الله، يُصرُّون على إنكارهم تخصيصَ الله عباده بالآيات، ويعترضون عليهم بقلوبهم، فيُجادلون في جَحْدِ الكرامات، وسيفتضحون، ولكنهم لا يُميزون بين رجحانهم ونقصانهم. هـ.