الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقرّبهم «1» كلهم، وأخذ عليهم الميثاق على الإقرار بالعبودية، وأشهدهم على أنفسهم، وشهد عليهم بذلك، ثم ردّهم إلى الأصلاب ليخرجهم تناسلاً إلى الأرحام «2» . هـ.
وقال الجنيد رضي الله عنه في قوله: وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها: مَن أدركه عناية السبق في الأزل جرى عليه عنوان المواصلة، وهو أحق بها، لِما سبق إليه من كرامة الأزل. هـ. والحاصل: أنهم أحق بها بالسبق بالاصطفائية، وبقيت نعوتها وأنوارها في قلوبهم، دون الذين حجبهم الله عن رؤية نورها. قاله في الحاشية.
ثم بشّرهم بفتح مكة، وصدق الرّؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
[سورة الفتح (48) : آية 27]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)
يقول الحق جل جلاله: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا أي: صدَقه في رؤياه ولم يكذبه- تعالى الله عن الكذب- فحذف الجارَ وأوصل الفعل كقوله: صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ «3» يقال: صدقه الحديث: إذا حققه وبيّنه له، أو: أخبره بصدق، رُوي أنه صلى الله عليه وسلم رأى في النوم، قبل خروجه إلى الحديبية، كأنّه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين، وقد حلقوا وقصّروا، فقصّ الرؤيا على أصحابه، ففرحوا، وحسِبوا أنهم داخلوها، وقالوا: إن رؤيا رسول الله حق. والله تعالى قد أبهم الأمر عليهم لينفرد بالعلم الحقيقي، فلما صُدوا، قال عبد الله بن أُبيّ وغيرُه من المنافقين: والله ما حلقنا ولا قصّرنا، ولا رأينا المسجد الحرام، فنزلت «4» : لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ فيما أراه، وما كذب عليه، ولكن في الوقت الذي يريد.
وقوله: بِالْحَقِّ، إما صفة لمصدر محذوف، أي: صدقاً ملتبساً بالحق، أي: بالغرض الصحيح، والحكمة البالغة التي تُميز بين الراسخ في الإيمان والمتزلزل فيه، أو: حال من الرؤيا، أي: ملتبسة بالحق ليست من قبيل
(1) فى نوادر الأصول: [فقررهم] .
(2)
النقل بتصرف.
(3)
من الآية 23 من سورة الأحزاب.
(4)
أخرجه البيهقي فى دلائل النّبوة (باب نزول الفتح مرجع الحديبية 4/ 364) وابن جرير فى التفسير (26/ 107) عن مجاهد، مرسلا. [.....]
أضغاث الأحلام، ويجوز أن يكون قسَماً، أي: أقسم بالحق لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ، وعلى الأول: جواب القسم محذوف، أي: والله لتدخلن المسجد الحرام، والجملة القسمية: استئناف بياني، كأن قائلاً قال: ففيم صَدَقَه؟ فقال:
(لتدخلن المسجد إن شاء الله) . وهو تعليق للعِدة بالمشيئة لتعليم العباد. قال ثعلب: استثنى الله فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون. وقال في القوت: استثنى الله معلماً لعباده ورَادّاً لهم إلى مشيئته، وهو أصدقُ القائلين، وأعلمُ العالمين. هـ. أو: للإشعار بأن بعضهم لا يدخلونه، لموت، أو: غيبة، أو غير ذلك، أو: هو حكاية لِما قاله ملَك الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لما قاله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، حين قصّ عليهم، أي: والله لتدخلنها آمِنِينَ من غائلة العدو، فهو حال من فاعل «لتدخلن» والشرط معترض. مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ أي: محلقاً بعضكم، ومقصراً آخرون، لا تَخافُونَ بعد ذلك أبداً، فهو حال أيضاً، أو استئناف، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فتح مكة فَتْحاً قَرِيباً وهو فتح خيبر، لتستروح إليه قلوبُ المؤمنين، إلى أن يتيسر الفتح الموعود. والله تعالى أعلم.
الإشارة: العارف الكامل لا يركن إلى شيء دون الله تعالى، فلا يطمئن إلى وعد، ولا يخاف من وعيد، بل هو عبد بين يدَي سيده، ينظر ما يبرز من زمن عنصر قدرته، فإن بُشِّر بشيء في النوم أو اليقظة، لا يركن إليه، ولا يقف معه لأن غيب المشيئة غامض، وإن خُوّف بشيء في النوم أو غيره، لا يفزع ولا يجزع لأن الغنى بالله والأُنس به غيَّبه عن كل شيء، وفي الله خلف من كل تلف «ماذا فقد مَن وجدك؟ «1» » والله يتولى الصالحين، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً.. الآية «2» .
قال في الإبريز «3» : الرؤيا المُحْزِّنة إنما هي اختبار من الله للعبد، هل يبقى مع ربه أو ينقطع عنه، فإن كان العبد متعلقاً به تعالى، ورأى الرؤيا المحزنة، لم يلتفت إليها، ولما يُبال بها لعلمه بأنه منسوب إلى مَن بيده تصاريف الأمور، وأنَّ ما اختاره تعالى سبقت به المشيئة، فلا يهوله أمر الرؤيا، ولا يلقي إليها بالاً، وهذه لا تضره بإذن الله تعالى: وإذا كان العبد غير متعلق بربه، ورأى رؤيا محزنة، جعلها نصب عينيه، وعمّر بها باطنه، وانقطع بها عن ربه، ويُقدِّر أنها لا محالة نازلة به، فهذا هو الذي تضره لأنَّ مَن خاف من شيء سلّطه عليه. هـ.
(1) من مناجاة الشيخ ابن عطاء السكندرى. انظر تبويب الحكم للمتّقى الهندي (ص 42) .
(2)
الآية 2 من سورة الطلاق.
(3)
لسيدى عبد العزيز الدبّاغ- رحمه الله تعالى.