الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الجاثية
مكية، وقيل: إلا قوله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا.. إلخ. وهى سبع وثلاثون آية. ووجه مناسبتها: قوله:
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ «1» مع قوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي: فالذى يسرناه بلسانك هو منزل من الله، الغالب على أمره.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 6]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
قلت: (واختلاف الليل والنهار
…
) الآية فيها العطف على عاملين،. سواء نصبت «آيات» أو رفعتها، فالعاملان إذا نصبت «إن» و «في» أقيمت الواو مقامهما، فعملت الجر في (واختلاف) والنصب في (آيات) ، وإذا رفعت فالعاملان الابتداء، وحرف «في» عملت الواو الرفع في «آيات» والجرّ في «واختلاف» وهذا مذهب الأخفش، فإنه يُجوِّز العطفَ على عاملين، وأما سيبويه فلا يُجيزه، وتخريج الآية عنده: أن يكونَ على إضمار «في» ، والذي حسّنه: تقديم ذكر «فى» في الآيتين قبله، ويؤيده: قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (وفي اختلاف الليل والنهار) وفيها أوجه أُخر.
يقول الحق جل جلاله: حم يا حبيب يا مجيد هذا تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، فكونه من الله عز وجل دلّ أنه حق وصدق وصواب، وكونه من العزيز دلَّ أنه معجز، يَغلِب ولا يُغلب، وكونه من الحكيم دلّ أنه مشتمل على الحِكَم البالغة، وأنه محكَم في نفسه، يَنسِخ ولا يُنْسَخ.
ثم برهن على عزته، وباهر حكمته، فقال: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إما فى نفس السموات والأرض فإن في شكلهما من بدائع وفنون الحِكَم ما يقصر عنه البيان، وإما في خلقهما وإظهارهما، كما في قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» ، لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ لدلالاتٍ على وحدانيته تعالى لأهل الإيمان،
(1) الآية 58 من سورة الدخان.
(2)
الآية 190 من سورة آل عمران.
وهو الأوفق بقوله: وَفِي خَلْقِكُمْ أي: من نطفة ثم من علقة متقلبة من أطوار مختلفة إلى تمام الخلق، وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ: عطف على المضاف دون المضاف إليه، أي: وفي خلق ما يبث، أي: ينشر ويُصرّف من دابة آياتٌ ظاهرة على باهر قدرته وحكمته، لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي: من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه، ويعرفوا فيها صانعها، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: تعاقبهما بالذهاب والمجيء، أو: تفاوتهما طولا، وقصرا، وَفى ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ مطر لأنه بسبب الرزق، فعبَّر عن السبب بالمسبب لأنه نتيجته، تنبيهاً على كونه آية من جهة القدرة والرحمة، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بأن أخرج أصناف الزرع والثمرات والنبات بَعْدَ مَوْتِها أي: خلُوها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها، وخلو أشجارها عن الثمار والأزهار.
وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي: هبوبها من جهة إلى أخرى، ومن حال إلى حال، وتأخيره عن نزول المطر مع تقدمه عليه في الوجود، إما للإيذان بأنه آية مستقلة، ولو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح ونزول المطر آية واحدة، أو: لأن كون التصريف آية ليس مجرد كونه مبتدأ لإنشاء المطر، بل له ولسائر المنافع، التي من جملتها: سوق السفن في البحار، وإلقاح الأشجار، آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبّرون بعقولهم، فيصلون إلى صريح التوحيد. وفي تقديم الإيمان على الإيقان، وتأخير تدبُّر العقل لأن العباد إذا نظروا في السموات والأرض نظراً صحيحاً علموا أنها مصنوعة، وأنه لا بُدَّ لها من صانع، فآمنوا بالله، وإذا نظروا في خلق أنفسهم، وتنقلها من حالٍ إلى حال، وفي خلق ما ظَهَرَ على ظَهْر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيماناً وأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدّد في كل وقت، كتعاقب الليل والنهار، ونزول الأمطار، وحياة الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، جنوباً وشمالاً، ودَبوراً وصباً، عقِلوا، واستحكم في عقولهم، وخلص يقينهم، فكانوا من ذوي الألباب.
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ مبتدأ وخبر، ونَتْلُوها عَلَيْكَ حال، والعامل: معنى الإشارة، أي: تلك الآيات المتقدمة هي آيات الله الدالة على وجوب وجوده واتصافه بأوصاف الكمال، حال كونها متلوةً عليك، ملتبسة بِالْحَقِّ أو: نتلوها محقين في ذلك، فالجار والمجرور: حال من المفعول أو الفاعل. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ من الأحاديث بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ أي: بعد آيات الله، كقولك: أعجبني زيد وكرمه، أي: أعجبني كرم زيد، أو: بعد حديث الله، الذي هو القرآن، وآياته العامة في كل شيء، فيكون على حذف مضاف، أو: يُراد بها القرآن أيضاً، والعطف للتغاير العنواني، فالأول من جهة كونه حديثاً حسناً، والثاني باعتبار كونه معجزاً، أي: فبأي حديثٍ بعد أحسن الحديث وأبهر الآيات يُؤْمِنُونَ يُصدِّقون؟! ومَن قرأ بالخطاب «1» يُقدر: قل يا محمد.
(1) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب «يؤمنون» بالتاء، وقرأ الباقون بالغيب. انظر الإتحاف (2/ 466) . [.....]
الإشارة: قال القشيري: الحاء تدل على حياته، والميم تدل على مودته، كأنه قال: بحق حياتي ومودتي لأوليائي، لا شيء أعز على أحبائي من لقائي، العزيزُ في جلاله، الحكيم في فعاله، العزيز في أزله، الحكيم في لُطفه بالعبد بوصف إقباله.
قوله تعالى: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. الآية شواهد الربوبية لائحةٌ، وأدلة الإلهية واضحةٌ، فَمَنْ صحا فكره عن سُكر الغفلة، ووضعَ سِرَّه في محل العِبْرة، حَظِيَ- لا محالة- بحقائق الوصلة. هـ. قلت: إنما يحظى بالوصلة إذا نفذت بصيرته إلى شهود المكوِّن، ولم يقف مع شيء من حس الكائنات، بل نفذ إلى ما فيها من أسرار المعاني، فعرف فيها مولاها، وشاهد فيها المتجلي بها، وإلا بَقِيَ مسجوناً محصوراً في ذاته.
قوله تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ
…
الآية، قال القشيري: إذا أنعم العبدُ النظرَ في استواء قدِّه وقامته، واستكمال خلقه «1» ، وتمام تمييزه، وما هو مخصوص به من جوارحه وحوائجه، ثم فكّر فيما عداه من الدواب، وأجزائها وأعضائها، ووقف على اختصاصه، وامتياز بني آدم من بين البريَّة من الحيوانات، في الفهم والعقل والتمييز والعلم، ثم في الإيمان والعرفان، ووجوه خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة من فنون الإحسان عَرَف تخصيصهم بمناقبهم، وانفرادهم بفضلهم، فاستيقن أن الله أكرمهم، وعلى كثيرٍ من المخلوقات قَدَّمهم.
ثم قال في قوله: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
…
الآية. جعل الله العلومَ الدينية كسبيةً مُصحَّحةً بالدلائل، مُحتَفةً بالشواهد، فمَن لم يستبصرْ لها زلَّتْ قَدَمُه عن الصراط المستقيم، ووقع في عذاب الجحيم، فاليومَ في ظلمة الحيرة والتقليد، وفي الآخرة في التخليد في الوعيد. هـ. قلت: النظر في دلائل الكائنات من غير تنوير، ولا صحبة أهل التنوير، لا تزيد إلا حيرة، ولذلك قال بعضهم: إيمان أهل علم الكلام كالخيط في الهواء، يميل مع كل ريح، فالتقليد حينئذ أسلم، والتمسك بظاهر الكتاب والسنة أتم، ومَن سقط على العارفين بالله، لم يحتج إلى دليل ولا شاهد، وأغناه شهود الشهيد عن كل شاهد.
عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْغِي عَلَيكَ شَهَادَةً
…
وَأَنتَ الَّذي أَشْهَدْتَهُ كلَّ شاهد.
كيف يُعرف بالمعارف مَن به عُرفت المعارف؟! تنزّه الحق تعالى أن يفتقر إلى دليل يدلّ عليه، بل به يستدل على غيره، فلا يجد غيره. تلك آيات شواهد نتلوها عليك لترانا فيها، لا لتراها مفروقةً عنا، ولذلك قال تعالى:(بالحق)، أي: ملتبسة بنور الحق، الله نُورُ السماوات والأرض.
(1) فى القشيري: عقله.