الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ، المصبوب هو الحميم، لا عذابه، إلا أنه إذا صب عليه الحميم، فقد صب عليه عذابه وشدته: والأصل: ثم صبوا فوق رأسه عذاباً هو الحميم، ثم أضيف العذاب إلى الحميم للمبالغة، وزيد «من» للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع، ويقال له: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ على سبيل الهزؤ والتهكُّم، رُوي أنَّ أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين جبليها أعز ولا أكرم منى، فو الله لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً «1» ، فتقول له الزبانية هذا على طريق الاستهزاء والتوبيخ. وقرأ الكسائي:«أنك» بالفتح «2» ، أي: لأنك أنت العزيز في قومك، الكريم في زعمك. إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تشكُّون، وتُمارون فيه، والجمع باعتبار المعنى لأن المراد جنس الأثيم.
الإشارة: يوم الفصل هو اليوم الذي يقع فيه الانفصال بين درجة المقربين، ومقام عامة أهل اليمين، فيرتفع المقربون، ويسقط الغافلون، فلا يُغنى صاحبٌ عن صاحب شيئاً، ولا هم يُنصرون من السقوط عن مراتب الرجال، فلا ينفع حينئذ إلا ما سلف من صالح الأعمال، إلا مَن رحم اللهُ، ممن تعلّق بالمشايخ الكبار، من المريدين، فإنهم يرتفعون معهم بشفاعتهم. وشجرة الزقوم هي شجرة المعصية فإنها تغلي في البطون، وتعوق عن الوصول، فقد قالوا: مَن أكل الحرام عصى الله، أحبَّ أم كَرِهَ، ومَن أكَلَ الحلال أطاع الله، أحبَّ أم كَرِه، فيقال: خُذوه فادفعوه إلى سواء الجحيم، وهي نار القطيعة والبعد، ثم صبوا فوق رأسه من هموم الدنيا، وشغب الخوض والخواطر، ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم، ولو كنت ذليلاً خاملاً لنلت العز والكرامة. وبالله التوفيق.
ثم شفع بضدهم، فقال:
[سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَاّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
(1) أخرجه الطبري (25/ 134) وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 753) لعبد الرّزّاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة.
(2)
على العلة، وقرأ الباقون بكسرها.. انظر الاتحاف 2/ 464.
يقول الحق جل جلاله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ، بضم الميم «1» : مصدر، أي: في إقامة حسنة، وبالفتح:
اسم مكان، أي: في مكان كريم، وأصل المقام، بالفتح: موضع القيام، ثم عمّم واستعمل في جميع الأمكنة، حتى قيل لموضع القعود: مقام، وإن لم يقم فيه أصلاً، ويقال: كنا في مقام فلان، أي: مجلسه، فهو من الخاص الذي وقع مستعملاً في معنى العموم، وقوله: أَمِينٍ: وصف له، أي: يأمن صاحبُه الآفات والانتقال عنه، وهو من الأمن ضد الخيانة، وصف به المكان مجازاً، لأن المكان المخيف يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره.
وقوله: ي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
: بدل من «مقام» جيء به دلالة على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب، يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ، وهو ما رقَّ من الديباج، وَإِسْتَبْرَقٍ ما غلظ منه، وهو مُعرّب، والجملة إما حال، أو استئناف، حال كونهم مُتَقابِلِينَ في مجالسهم، يستأنس بعضهم ببعض، كَذلِكَ أي:
الأمر كذلك، قيل: المعنى فيه أنه لم يستوفِ الوصف، وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف، فكأنه قال: الأمر نحو ذلك وما أشبهه، وليس بعين الوصف وتحققه.
وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي: قرنّاهم وأصحبناهم، ولذلك عُدي بالباء. قال القشيري: وليس في الجنة عقد نكاح ولا طلاق، بل تمكن الوليّ من هذه الألطاف بهذه الأوصاف هـ. والحور: جمع حَوْراء، وهي الشديدة سواد العين، والشديدة بياضها، والعين: جمع عيناء، وهي الواسعة العَين، واختلف في أنها نساء الدنيا أو غيرها.
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ أي: يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهونه من الفواكه، لا يختص بزمان ولا مكان، آمِنِينَ من زواله وانقطاعه، ومن ضرره عند الإكثار منه، أو: من كل ما يسوءهم، لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أصلاً، بل يستمرون على الحياة الأبدية، إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى سوى الموتة الأولى، التي ذاقوها، أو:
لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا، فالاستثناء منقطع، أو متصل على أن المراد استحالة ذوق الموت إلا إذا كان يمكن ذوق الموتة الأولى حينئذ، وهو محال، على نمط قوله: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ «2» .
وَوَقاهُمْ ربهم عَذابَ الْجَحِيمِ، فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي: أعطوا ذلك كله عطاءً وتفضُّلا منه- تعالى إذ لا يجب عليه شيء، فهو مفعول له، أو مصدر مؤكد لِمَا قبله، لأن قوله: وَقاهُمْ في معنى تفضل عليهم، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه إذ هو خلاص من جميع المكاره، ونيل لكل المطالب.
(1) قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بضم الميم الأولى فى «مقام» بمعنى الإقامة، وقرأ الباقون بفتحها، موضع الإقامة.
(2)
من الآية 22 من سورة النّساء.
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي: الكتاب، وقد جرى ذكره في أول السورة، أي: سهَّلنا قراءته بِلِسانِكَ، بلغتك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: كي يفهموه ويتعظوا به، ويعملوا بموجبه، فلم يفعلوا، فَارْتَقِبْ فانظر ما يحلّ بهم، إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ما يحلُّ بك. قال القشيري: فارتقب العواقب ترى العجائب، إنهم مرتَقِبون، ولكن لا يرون إلا ما يكرهون. هـ.
الإشارة: إن المتقين شهود ما سوانا في مقام العرفان، وهو مقام المقربين، وهو محل الأمن والأمان، في جنات المعارف، وعيون العلوم والحِكَم، يلبسون من أسرار الحقيقة وأنوار الشريعة، ما تبتهج به بواطنهم وظواهرهم، متقابلين في المقامات، يجمعهم الفناء والبقاء، ويتفاوتون في اتساع المقامات والأسرار، تفاوت أهل غرف الجنان، كذلك، أي: الأمر فوق ما تصف، وزوجانهم بعرائس المعرفة، لا يذوقون في جنات المعارف- إذا دخلوها- الموت أبداً إلا الموتة الأولى، وهي موت نفوسهم، فَحييتْ أرواحهم حياة أبدية، وأما الموت الحسي فإنما هو انتقال من عالم إلى عالم، ومن مقام إلى مقام، ووقاهم ربهم عذاب الجحيم، فضلا منه وإحساناً، خلقَ فيهم المجاهدة، ومَنَّ عليهم بالمشاهدة.
وقال الورتجبي بعد كلام: إذا أحضرهم- تعالى- في ساحة كبريائه، ويتجلّى لهم بالبديهة من غير الجبّارية والقهّارية يكونون في محل الفناء، وفي فناء الفناء، وغلبات سطوات ألوهيته، فإذا صاروا فانين، ألبسهم الله لباس بقائه، فيبقون ببقائه أبد الآبدين، فإذاً الاستثناء وقع على التحقيق، لا على التأويل، فياربّ موتٍ هناك، ويا رُبّ حياة هناك لأن الحدَث لا يستقيم عند بروز حقائق بواطن القِدم، ألا ترى إلى إشارة النبي صلى الله عليه وسلم كيف قال:«حِجَابُهُ النُّورُ، لَو كشَفَهُ لأحرقت سُبُحَاتُ وَجْهِه ما أنتَهَى إلَيه بَصَرُهُ مِنْ خلقه» «1» أي: فيتلاشى الخلق ويبقى الحق.
قيل للجنيد: أهل الجنة باقون ببقاء الحق؟ فقال: لا، ولكنهم مُبْقَوْن ببقاء الحق، والباقي على الحقيقة من لم يزل، ولا يزال باقيا. هـ.
والحاصل: أنه لا عدم بعد وجودهم بالله، ولا يكون إلا بعد الفناء عن أوصاف الخليقة، ووجود البشرية، بالاندراج في وجود الحق، ثم الحياة بحياته، والبقاء ببقائه أبداً، قاله في الحاشية الفاسية. والفرق بين الباقي والمبقى في كلام الجنيد: أن الباقي يدلّ على ثبوت بقائه مستقلاً، بخلاف المبقَى، لا وجود لبقائه، بل مبقى ببقاء غيره.
(1) سبق تخريج الحديث الشريف، انظر (4/ 178) .
وقال في قطب العارفين، لمَّا تكلم على التقوى: التقوى مطرد في وجوه كثيرة، تقوى الشرك، ثم تقوى المعصية، ثم تقوى فضل المباح، ثم تقوي كل ما يسترق القلوب عن الله تعالى، وإلى هذا الصنف الإشارة بسر قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
…
الآية. هـ. وعنه صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأ سورة الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» «1» ذكره في الجامع، وفي فضلها أحاديث، تركتها.
(1) أخرجه الترمذي فى (فضائل القرآن، باب ما جاء فى فضل «حم الدخان» ح 2888) وقال: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعمر بن أبى خثعم يضعف» . وأخرجه ابن السنى فى عمل اليوم والليلة (باب ما يستحب أن يقرأ فى اليوم والليلة) والبيهقي فى الشعب (الباب التاسع عشر، فصل فى فضائل السور، ح 2475) والبغوي فى التفسير (7/ 238) وابن عدى فى الكامل (5/ 2720) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.