الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الناطقة بالحق، الذي من جملته البعث، بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على ما نطقت به، أو مبينات له، ما كانَ حُجَّتَهُمْ ما كان متمسكاً لهم شيء من الأشياء، إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنَّا نُبعث بعد الموت، أي: لا شبهة لهم إلا هذا القول الباطل، الذي يستحيل أن يكون من قبيل الحُجة، أي: ليس لهم حُجة إلا العناد والاستبعاد. وتسميته حُجة إما لسوقهم إياه مساق الحُجة في زعمهم، أو تهكماً بهم، كقول القائل:«تحَيَّةُ بَينِهِم ضَربٌ وَجِيعٌ» . قال ابن عرفة: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ
…
الآية، أي: إنهم مع كونهم ظانين فَهُم بحيث لو استدل لهم لما ازدادوا إلا ضلالاً، وقد تقرّر في علم الجدل أن المصمم على الشيء يصعب نقله عنه، بخلاف الظان والشاك، فأتت هذه الآية نفياً لما يتوهم في هؤلاء أنهم حيث لا يقين عندهم يسهل رجوعهم، حين تظهر الحجة. هـ. ومَن نَصَبَ «حجتهم» فخبر كان، ومَن رفعه فاسمها «1» .
الإشارة: قال القشيري: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا
…
الآية، اغترُّوا بما وجدوا عليه خَلَفَهم، وأَرْخوا في البهيمية عَنَانهم وعُمْرَهم، وأغفوا عن ذكر الفكرة قلوبَهم، فلا بالعلم استبصروا، ولا من الحقائق استمدوا، رأسُ ما لهم الظن، وهم غافلون، وإذا تتلى عليهم الآيات طلبوا إحياء موتاهم، وسوف يرون ما استبعدوا. هـ.
ثم قرر البعث الذي أنكروه، فقال:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 26 الى 32]
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَاّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
(1) قرأ الجمهور «حجتهم» بالنصب، وعن الحسن وغيره «حجتهم» بالرفع، اسم كان، و «إلَاّ أن قالوا» الخبر، وهى قراءة شاذة. انظر:
الإتحاف (2/ 467) وإعراب القراءات الشاذة للعكبرى (2/ 471) .
قلت: (ويوم) : منصوب بيَخْسَر، و «يومئذٍ» بدل منه، و «كل أُمةٍ تُدْعَى» : مبتدأ وخبر، ومن نصب «1» فبدل من «كل أمة» ، (والساعة لا ريب فيها) مَن رفعها فمبتدأ «2» ، ومَن نصبها فعطف على (وعد الله) .
يقول الحق جل جلاله: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ في الدنيا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء أعماركم، لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ بعد الموت إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ للجزاء، لا رَيْبَ فِيهِ أي: في جمعكم فإنّ مَن قدر على البدء قدر على الإعادة، والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة، وتأخيره ليوم معلوم، والردّ لآبائهم كما اقترحوا، حيث كان مزاحماً للحكمة التشريعية، امتنع إيقاعه لرفع الإيمان بالغيب حينئذ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قدرة الله على البعث، وحكمة إمهاله، لإعراضهم عن التفكُّر بالانهماك في الغفلة، وهو استدراك من قوله:(لا ريب) ، إما من تمام الكلام المأمور به، أو مستأنف من جهته تعالى، تحقيقاً للحق، وتنبيهاً على أن ارتيابهم إنما هو لجهلهم وتقصيرهم في التفكُّر والنظر، لا لأن فيه شائبة ريبٍ ما.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: له التصرف فيهما وفيما بينهما، وهو بيان لاختصاص الملك المطلق بالله، إثر بيان تصرفه تعالى في الناس بالإحياء والإماتة، والبعث والجمع والجزاء، وكأنه دليل لِما قبله، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ الداخلون في الباطل، وهو الكفر، وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ من الأمم المجموعة جاثِيَةً باركة على الركب، مستوفزة من هول ذلك اليوم، يقال: جثا فلان يجثو: إذا جلس على ركبتيه، قال سلمان رضي الله عنه: في القيامة ساعة هي عشر سنين، يخرّ الناسُ فيها جثاةً على ركبهم، حتى إن إبراهيم ينادي: نفسي نفسي «3» . هـ. ورُوي: أن جهنم حين يؤمر بها أن تُساق إلى الموقف، تنفلت من أيدي الزبانية، حتى تهم أن تأتي على أهل الموقف جميعاً، وتزفر زفرة تذهب بحاسة الآذان، فيجثوا الكل على الركب، حتى المرسلين، وكل واحد يقول: نفسي نفسي، لا أسألك اليوم غيرها، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول:«أمتي أمتي» . نقله الغزالي، وعن ابن عباس: جاثية: مجتمعة، وقيل: جماعات، من: الجثوة، وهي الجماعة.
كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا صحيفة أعمالها، والمراد الجنس، أي: صحائف أعمالها، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا، ثم يُقال لهم: هذا كِتابُنا، أضيف الكتاب إليهم أولاً لملابسته إياهم، لأن أعمالهم مثبتة فيه، وإلى الله ثانياً لأنه مالكه، والآمِرُ للملائكة بكَتْبِه، وأضيف لنون العظمة تفخيماً لشأنه، وتهويلاً
(1) قرأ يعقوب بنصب «كل» وقرأ الباقون برفعها.
(2)
قرأ حمزة «والساعة» بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع.
(3)
ذكره البغوي فى تفسيره (7/ 246) والقرطبي (7/ 6180) .
لأمره، يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ يشهد عليكم ملتبساً بالحق، من غير زيادة ولا نقصان، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ أي: نستكتب ونطلب نسخ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا، من الأعمال، حسنة أو سيئة، وقال ابن عزيز: نستنسخ:
نثبت، ويقال: نستنسخ: نأخذ نسخته، وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان، صغيره وكبيره، فيثبت الله منه ما كان له ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو، ورُوي عن ابن عباس وغيره حديثاً: «أن الله يأمر بعرض أعمال العباد كل يوم خميس، فينقل من الصحف التي ترفع الحفظة، كل ما هو مُعَدّ أن يكون له ثواب وعقاب، ويلقى الباقي، فهذا هو النسخ من أصل.
وقيل: المراد بكتابنا: اللوح المحفوظ. قال صلى الله عليه وسلم: «أول ما خلق اللهُ القلم من نور مسيرة خمسمائة عام، واللوح من نور مسيرة خمسمائة عام، فقال للقلم: اجر، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة مَن عمل، برها وفاجرها، ورطبها ويابسها، ثم قرأ: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ.. الآية» ، فيُروى «أن الملائكة تصعد كل يوم إلى الملك الموكل باللوح، فيقولون: أعطنا ما يعمل صاحبنا اليوم، فينسخُ من اللوح عمله ذلك اليوم، ويعطيه إياهم، فإذا انقضى أجله، قال لهم: لا نجد لصاحبكم عملاً بقي له، فيعلمون أنه انقضى أجله» .
ثم فصّل أحوال أهل الموقف، فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، أي: جنته ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الظاهر، الذي لا فوز وراءه، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيُقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أي: ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم، فحذف المعطوف عليه، ثقةً، بقرينة الكلام، فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان بها، وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أي: قوماً عادتكم الإجرام.
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي: وكنتم إذا قيل لكم: إن وعد الله بالجزاء حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها أي:
في وقوعها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أيّ شيء هي الساعة، استهزاء بها، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، أصله:
نظن ظناً، ومعناه: إثبات الظن، فحسب، فأدخل حرف النفي والاستثناء ليفيد إثبات الظن مع نفى ما سواه. وقال المبرد: أصله: إن نحن إلا نَظُن ظناً، وإنما أوَّله لأنه لا يصح التفريع في المصدر المؤكد، لعدم حصول الفائدة، إذ لا معنى لقولك: لا نضرب إلا ضرباً، وجوابه: إن المصدر نوعي لا مؤكد، أي: ظناً حقيراً ضعيفاً. وفي الآية اللف والنشر المعكوس «1» . فقوله: قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ راجع لقوله: وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها، وقوله: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا
(1) اللف والنّشر: هو أن يذكر متعدد ثم يذكر ما لكلّ من أفراده، شائعا من غير تعيين، اعتمادا على تصرف السامع فى رده إليه، وهو إما أن يكون النّشر فيه على ترتيب اللف، نحو: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وإما أن يكون على خلاف ترتيبه، نحو فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.
انظر التعريفات (244) ومحيط المحيط (ص 561) .