الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الدّخان
مكية. وهى سبع وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ على الاحتمال الثاني «1» ، أي:
سوف تعلمون حقيقة ما أنزلنا على محمد، ثم أقسم أنه أنزل فى ليلة مباركة، أو لقوله: إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ «2» أي: بما أنزلت إلىّ، فأقسم الله تعالى أنه أنزله من عنده، أو يرجع لقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «3» والحديث شجون، يجر بعضه بعضا.
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 9]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
يقول الحق جل جلاله: حم يا محمد وَحق الْكِتابِ الْمُبِينِ، الواضح البيِّن، وجواب القسم: إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي: الكتاب الذي هو القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، ليلة القدر، أو ليلة النصف من شعبان، والجمهور على الأول، لقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «4» وقوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «5» ، وليلة القدر على المشهور في شهر رمضان، وسيأتي الجمع بينهما. ثم قيل: أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل نجوماً، على حسب الوقائع، في ثلاثٍ وعشرين سنة، وقيل: معنى نزوله فيها: ابتداء نزوله.
(1) راجع تفسير الآية الأخيرة من سورة الزخرف.
(2)
الآية 88 من سورة الزخرف.
(3)
الآية 44 من سورة الزخرف.
(4)
الآية الأولى من سورة القدر.
(5)
من الآية 185 من سورة البقرة.
والمباركة: الكثيرة الخير لما ينزل فيها من الخير والبركة، والمنافع الدينية والدنيوية، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة.
إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ استئناف مبين لما يقتضي الإنزال، كأنه قيل: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ استئناف أيضاً مبين لسر تخصيص هذه الليلة بالإنزال، أي: إنما أنزلناه في هذه الليلة المباركة، لأنها فِيهَا يُفرق كُلُّ أَمْرٍ حكيم، أي: ذي حكمة بالغة، ومعنى «يُفرق» : يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم، من هذه الليلة إلى ليلة القدر المستقبلة، وقيل: الضمير في «فيها» يرجع لليلة النصف، على الخلاف المتقدم.
وروى أبو الشيخ، بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنه فى قوله: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال: «ليلة النصف من شعبان، يُدبر أمر السنة، فيمحو ما يشاء ويُثبت غيره الشقاوة والسعادة، والموت والحياة» . قال السيوطي: سنده صحيح لا غُبار عليه ولا مطعن فيه. هـ. ورُوي عن ابن عباس: قال: إن الله يقضي الأقضية كلها ليلة النصف من شعبان، ويسلمها إلى أربابها ليلة القدر. وفي رواية: ليلة السابع والعشرين من رمضان، قيل:
وبذلك يرتفع الخلاف أن الأمر يبتدأ في ليلة النصف من شعبان، ويكمل في ليلة السابع والعشرين من رمضان «1» .
والله أعلم.
وقوله تعالى: حَكِيمٍ الحكيم: ذو الحكمة، وذلك أن تخصيص الله كل أحد بحالة معينة من الرزق والأجل، والسعادة والشقاوة، في هذه الليلة، يدلّ على حكمة بالغة فأسند إلى الليلة لكونها ظرفاً، إسناداً مجازياً.
وقوله: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا: منصوب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، على مقتضى حكمتنا، وهو بيان لفخامته الإضافية، بعد بيان فخامته الذاتية، ويجوز أن يكون حالاً من كل أمر لتخصيصه بالوصف، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بدل من «إنا كنا منذرين» .
ورَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ: مفعول له، أي: أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب لأجل إفاضة رحمتنا. ووضع الرب موضع الضمير، والأصل: رحمة منا للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها، وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه وفخامته.
(1) على هامش النّسخة الأم مايلى: كيف يرتفع، والله تعالى يقول فيها- أي: الليلة المباركة «يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» وهى ليلة القدر؟
على أنه: أي إشكال لكلام الله تعالى مع كلام غيره، والمرفوع بذلك ضعيف أيضا، فلا إشكال من كلّ جهة، والله الحمد. هـ.
وقال الطيبي: هذه الجمل كلها واردة على التعليل المتداخل فكأنه لما قيل: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قيل:
فلِمَ أُنزل؟ فأجيب: لأن من شأننا التحذير والعقاب، فقيل: لِمَ خص الإنزال في هذه الليلة؟ فقيل: لأنه من الأمور المُحكَمة، ومن شأن هذه الليلة أن يُفرق فيها كل أمر حكيم، فقيل: لِمَ كان من الأمور المُحكَمة؟ فأجيب: لأن ذا الجلال والإكرام أراد إرسال الرحمة للعالمين، ومن حق المنزَل عليه أن يكون حكيماً، لكونه للعالمين نذيراً، أو داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ.... الآية، فقيل: لماذا رحمهم الرب بذلك؟ فأجيب: لأنه وحده سميع عليم، يعلم جريان أحوال عباده، ويعلم ما يحتاجون إليه دنيا وأخرى. هـ. وهذا معنى قوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم وحده، الْعَلِيمُ بأحوالهم.
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما، من جرّه «1» بدل من «ربك» ، ومَن رفعه خبر عن مضمر، أي: هو رب العوالم العلوية والسفلية، وما بينها، إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي: من أهل الإيقان، ومعنى الشرط: أنهم كانوا يُقرون بأن للسموات والأرض ربّاً وخالقاً، فإن كان إقرارهم عن علم وإيقان فهو الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسل رحمة منه، وإن كانوا مذبذبين فليعلموا ذلك.
لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، مِن قصر إفرادٍ لا قصر قلبٍ «2» لأن المشركين كانوا يُثبتون الألوهية لله- تعالى- ويشركون معه غيره، فردّ الله عليهم بكونه لا يستحق العبادة غيره، يُحْيِي وَيُمِيتُ، ثم يبعث للجزاء، رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي: هو رب الجميع، ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ، وإقرارهم غير صادر عن علم وإيقان، بل قول مخلوط بهزؤ ولعب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: (حم)، قال الورتجبي: الحاء: الوحي الخاص إلى محمد، والميم: محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك الوحي الخاص بلا واسطة خبرٌ عن سر في سر، لا يطلع على ذلك- الذي بين المحب والمحبوب- أحد من خلق الله، ألا ترى كيف قال سبحانه: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَآ أَوْحى
«3» ؟ وذلك إشارة إلى وحي السر في السر، وجملتها قسم، أي: بمعنى الوحي السري والمحبوب، والقرآن الظاهر الذي ينبئ عن الأسرار، إنا أنزلناه. هـ. قال القشيري: الحاء تشير إلى حقِّه، والميم إلى محبته، ومعناه: بحقي ومحبتي لعبادي، وكتابي العزيز إليهم، ألا أُعَذِّب أهلَ محبتي بفرقتي. هـ.
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف «رب» بخفض الباء، بدل من (ربك) أو صفة، وقرأ الباقون بالرفع، على إضمار مبتدأ، أو مبتدأ، خبره:(لَا إله إِلَاّ هُوَ) . انظر: الإتحاف (1/ 462) .
(2)
القصر عند أهل البيان: تخصيص شىء بآخر، ويسمّى الأول مقصورا والثاني مقصورا عليه، كقولك: ما زيد إلا شاعر، فإن كان المخاطب يعتقد أنه شاعر وعالم معا، قيل له: قصر إفراد، وإن كان يعتقد أنه عالم لا شاعر، قيل له: قصر قلب، وإن كان يتردد بين كونه عالما أو شاعرا قيل له: قصر تعيين. انظر محيط المحيط (ص 738) .
(3)
الآية 10 من سورة النّجم
والليلة المباركة عند القوم، هي ليلة الوصال والاتصال، حين يُمْتَحى وجودُهم، ويتحقق فناؤهم، وكل وقت يجدون فيه قلوبهم، ويفقدون وجودهم فهو مبارك، وهو ليلة القدر عندهم، فإذا دام اتصالهم، كانت أوقاتهم كلها ليلة القدر، وكلها مباركة. قال الورتجبي: قوله تعالى: فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ كانت مباركة لتجلِّي الحق فيها بالأقضية، والرحمة غالبة فيها، ومن جملتها: إنزال القرآن فيها فإنه افتتاح وصلة لأهل القربة. هـ.
قال القشيري: وسمّاها ليلة مباركة لأنها ليلة افتتاح الوصلة، وأشدُّ الليالي بركةً، ليلةٌ يكون العبد فيها حاضراً بقلبه، مشاهداً لربه، يتنسّم «1» بأنوار الوصلة، ويجد فيها نسيم القربة، وأحوال هذه الطائفة في لياليهم مختلفة، كما قالوا، وأنشدوا:
لا أَظْلِمْ الليلَ ولا أَدَّعي
…
أنّ نُجومَ الليلِ ليست تَغُورُ
لَيْلِي كما شَاء فإن لم يَزرْ
…
طالَ، وإن زار فلَيْلي قَصيرُ. هـ. «2»
أي: لَيْلِي كما شاء المحبوب، فإن لم يزرني طال ليلِي، وإن زارني قَصُر. والحاصل: أن أوقات الجمال والبسط كلها قصيرة، وأوقات الجلال كلها طويلة، وقوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي: في ليلة الوصال تفرق وتبرز الحِكَم والمواهب القدسية، بلا واسطة، بل أمراً من عندنا، والغالب أن هذه الحالة لا تكون إلا عند الحيرة والشدة من الفاقة أو غيرها، وكان بعض العارفين من أشياخنا يستعدُّون فيها لكتب المواهب، ويسمونها ليلة القدر.
وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ هو الرّسول صلى الله عليه وسلم قال:«أنا الرحمة المهداة» «3» ، فرحمة مفعول به، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. قال القشيري: السميع لأنين المشتاقين، العليم بحنين المحبين. هـ. لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: لا يستحق أن يَتَأله ويُعشق إلا هو، يُحْيِي وَيُمِيتُ يُحيي قلوب قوم بمعرفته ومحبته، ويُميت قلوباً بالجهل والبُعد، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. ثم وصف أهل الجهل والبُعد بقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ، وأما أهل المعرفة والقُرب فهم في حضرة محبوبهم يتنعّمون، ومن روح وصاله يتنسّمون. قال القشيري: واللعب يجري على غير ترتيب، تشبيهاً باللعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص، ووصف الكافر باللعب لتردُّده وشكِّه وتحيُّره في عقيدته. هـ.
(1) فى القشيري: يتنعم.
(2)
فى القشيري:
لا أَظْلِمْ الليلَ ولا أَدَّعي
…
أنّ نُجومَ الليلِ ليست تزول
ليلى كما شاءت قصير إنا
…
جاءت، وإن ضنت فليلى طويل
ونسب البيتان فى زهرة الآداب (3/ 84) إلى علىّ بن خليل.
(3)
أخرجه البراز (2/ 217) والطبراني فى الصغير (1/ 95) والحاكم (1/ 35)«وصححه» والقضاعي (1/ 189- 190) عن أبى صالح عن أبى هريرة. وأخرجه عن أبى صالح مرسلا، الدارمي فى (المقدمة، باب كيف كان أول شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ح 15) والبيهقي فى الشعب (ح 1446) والحديث صحّحه الألبانى فى تخريج المشكاة (3/ 1615) . [.....]