الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: فالدعاء كله إذاً مستجاب، بوعد القرآن، لكن منه ما يُعجّل، ومنه ما يُؤجّل، ومنه ما يصرف عنه به البلاء، كما في الأثر، وإذا فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار عنه منزلاً منزلة الاستكبار عن العبادة للمبالغة في الحث عليه. قال صلى الله عليه وسلم:«الدعاء هو العبادة» وقرأ الآية «1» ، وفي رواية:«مخ العبادة» «2» ، وعن ابن عباس:
«وحَدوني أغفر لكم» ، فسَّر الدعاء بالعبادة، والعبادة بالتوحيد.
الإشارة: اختلف الصوفية أيّ الحالين أفضل؟ هل الدعاء والابتهال، أو السكوت والرضا؟ والمختار أن ينظر العبد ما يتجلى فى قلبه، فإن انشرح للدعاء فهو في حقه أفضل، وإن انقبض عنه، فالسكوت أولى، والغالب على أهل التحقيق من العارفين، الغنى بالله، والاكتفاء بعلمه، كحال الخليل عليه السلام، فإنهم إبراهيميون.
قال الورتجبي: أي: ادعوني في زمن الدعاء الذي جعلته خاصّاً لإجابة الدعوة، فادعوني في تلك الأوقات، أستجب لكم فإنَّ وقوع الإجابة فيها حقيقة بلا شك، ومَن لم يعرف أوقات الدعاء، فدعاؤه ترك أدب فإن الدعاء في وقت الاستغفار من قلة معرفة المقامات، فإن السلطان إذا كان غضبان لا يُسأل منه، وإذا كان مستبشراً فيكون زمانه زمن العطاء والكرم. - قلت: هذا في حق الخصوص، الفاهمين عن الله، وأما العموم، فما يناسبهم إلا دوام الدعاء في الرخاء والشدة، قال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا «3» ثم قال عن الورّاق: ادعوني على حد الاضطرار والالتجاء، حيث لا يكون لكم مرجع إلى [سواي]«4» ، استجب لكم. هـ.
ثم برهن على توحيده، وأنه لا يصح الرّجوع إلا إليه، فقال:
[سورة غافر (40) : الآيات 61 الى 65]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
(1) أخرجه أبو داود فى (الصلاة، باب الدعاء 2/ 161، ح 1479) والترمذي فى (الدعوات، باب ما جا فى فضل الدعاء 5/ 426، ح 3372) وقال «حسن صحيح» وابن ماجه فى (الدعاء، باب فضل الدعاء 2/ 1258، ح 3828) والحاكم (1/ 490) وصححه، ووافقه الذهبي، من حديث النّعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2)
أخرج هذه الرّواية الترمذي فى (الموضع السابق حديث 3371) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
من الآية 43 من سورة الأنعام.
(4)
فى الأصول [سواه] والمثبت هو الذي فى عرائس البيان.
يقول الحق جل جلاله: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ بأن خلقه مظلماً بارداً، تقلّ فيه الحركات فتستريح فيه الجوارح، وَجعل النَّهارَ مُبْصِراً أي: مبصَراً فيه. فأسند الإبصار إلى النهار، مجازاً، والأصل في الحقيقة لأهل النهار. وقرن الليل بالمفعول له، والنهار بالحال، ولم يكونا حالين أو مفعولاً لهما رعايةً لحق المقابلة لأنهما متقابلان معنىً لأن الليل مقابل النهار، فلما تقابلا معنىً تقابلا لفظاً، مع أن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر، ولأنه لو قيل: لتُبصروا فيه فاتت الفصاحة التي في الإسناد مجازي، ولو قيل:«ساكناً» لم تتميز الحقيقة من المجاز، إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم: ليل ساج، أي: ساكن لا ريحَ فيه.
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عظيم عَلَى النَّاسِ، حيث تفضَّل عليهم بهذه النعم الجسيمة، وإنما لم يقل:
المتفضل لأن المراد تكثير الفضل، وأنه فضله لا يوازيه فضل، فالتنكير للتعظيم. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لجهلهم بالمنعم، وإغفالهم مواضع النعم. وتكرير الناس، ولم يقل: أكثرهم لتخصيص الكفران بهم، وأنهم هم الذين من شأنهم الكفران، كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ «1» .
ذلِكُمُ اللَّهُ أي: ذلكم المنفرد بالأفعال المقتضية للألوهية، من خلق الليل والنهار هو الله رَبُّكُمْ لا ربّاً غيره، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة، أي: الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية، وإيجاد الأشياء، والوحدانية، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي: فكيف، ومِن أيّ وجه تُصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان؟! كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي: مثل ذلك الإفك العجيب، الذي لا وجه له، ولا مصحح له أصلاً، يُؤفك كلُّ مَن جحد بآياته تعالى من غير تروٍّ ولا تأمُّل.
ثم ذكر فضله المتعلق بالمكان، بعد بيان فضله المتعلق بالزمان، فقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً مستقراً تستقرون عليها بأقدامكم ومساكنكم، وَالسَّماءَ بِناءً سقفاً فوقكم، كالدنيا بيت سقفه السماء،
(1) من الآية 66 من سورة الحج.
مزيّناً بالمصابيح، وبساطه الأرض، مشتملة على ما يحتاج إليه أهل البيت. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، هذا بيان لفضله المتعلق بالأجسام، أي: صوّركم أحسن تصوير، حيث جعلكم مُنتصِبَ القامة، باديَ البشرة، متناسب الأعضاء والتخطيطات، متهيئاً لمناولة الصنائع واكتساب الكمالات. قيل: لمْ يخلق الله حيواناً أحسن صورة من الإنسان. وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي: اللذائذ، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي: ذلكم المنعوت بتلك النعوت الجليلة.
هو المستحق للربوبية، فَتَبارَكَ اللَّهُ أي: تعالى بذاته وصفاته رَبُّ الْعالَمِينَ أي: مالكهم ومربيهم، والكل تحت قدرته مفتقر إليه في إيجاده وإمداده إذ لو انقطع إمداده لا نهدّ الوجود.
هُوَ الْحَيُّ المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية، لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذْ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله، فَادْعُوهُ فاعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: الطاعة من الشرك والرياء، وقولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. عن ابن عباس رضي الله عنه: مَن قال «لا إله إلا الله» ، فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين «1» .
الإشارة: الله هو الذي جعل ليل القبض لتسْكنوا فيه عند الله، ونهار البسط لتُبصروا نعم الله، فتشكروا لتبتغوا زيادة فضله، وجعل أرض النفوس قراراً لقيام وظائف العبودية، وسماء الأرواح مرقى لشهود عظمة الربوبية. قال القشيري: سكونُ الناس بالليل- أي: الحسي- على أقسام: فأهل الغفلة يسكنون مع غفلتهم، وأهل المحبة يسكنون بحكم وصلتهم، فشتّان بين سكون غفلةٍ، وسكونِ وصلة، وقومٌ يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم، وقومٌ إلى حلاوة أعمالهم، [وبسطهم، واستقبالهم]«2» ، وقومٌ يعدِمون القرار في ليلهم ونهارهم- أي: لا يسكنون إلى شيء- أولئك أصحابُ الاشتياق، أبداً في الإحراق هـ.
وقوله تعالى: وَصَوَّرَكُمْ أي: صَوَّر أشباحكم، فأحسن صورتها، حيث بهَّجها بأنوار معرفته. قال الورتجبي:
فأحْسن صُوَرَكم بأن ألبستكم أنوار جلالي وجمالي، واتخاذِكم بنفسي، ونفخت من روحي فيكم، الذي أحسن الهياكل مِن حسنه، ومِن عكْس جماله، فإنه مرآة نوري الجلي للأشباح. هـ. قال القشيري: خَلَقَ العرشَ والكرسي والسمواتِ والأرض، وجميع المخلوقات، ولم يقل في شيء منها: فأحسن صورها، بل قاله لمّا خلق هذا الإنسان، وليس الحَسَنَ ما يستحسنه الناسُ، ولكن الحسنُ ما يستحسنه الحبيبُ، وأنشدوا:
مَا حَطَّكَ الْوَاشُونَ عَن رُتبةٍ
…
عنْدِي، ولَا ضَرَّكَ مُغْتَابُ
كأَنَّهم أَثْنَوْا ولَمْ يَعْلَمُوا
…
عَلَيْكَ عندى بالّذى عابوا «3»
(1) أخرجه الطبري (24/ 81) والحاكم وصححه (2/ 438) ، والبيهقي فى الأسماء والصفات (1/ 179) عن ابن عباس رضي الله عنه موقوفا.
(2)
فى القشيري: [لبسطهم واستقلالهم] .
(3)
البيتان لأبى نواس. انظر ديوانه (1/ 109) ونهاية الأرب (2/ 241) وينسبان أيضا إلى العباس بن الأحنف، كما جاء فى ديوانه (ص 61) .