الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من العلم، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وَهُمْ عَنِ الأخرة هم غافلون. وقال اللجائي، في قطبه: وإياك أن تكون دنياك إرادة قلبك تبعاً لشهوات نفسك، أو تكون دنياك أحب إليك من آخرتك، وقلبك من ذكر مولاك خالياً معرضاَ، فإنها صفة الهالكين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا
…
الآية. وقيل لأبي الحسن الشاذلي: يا سيدي، بمَ فُقْتَ أهلَ عصرك، ولم نرَ لك كبير عمل؟ فقال: بخصلة، أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وتمسكتُ بها أنا، وهي الإعراض عنكم وعن دنياكم. هـ. إِنَّ ربك هو أعلم بمن ضل عن طريق الوصول إليه، وهو أعلم بمن اهتدى إليها، فيُعينه، ويجذبه إلى حضرته، فإن الأمر كله بيده، كما قال:
[سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 32]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَاّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
يقول الحق جل جلاله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملِكاً، لا لغيره، لا استقلالا ولا اشتراكاً، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا بعقاب ما عملوا من السوء، أو: بسبب ما عملوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، والمعنى: أن الله تعالى إنما خلق هذا العالم العلوي والسفلي، وتصرّف فيه بقدرته بين جلاله وجماله، ليجزي المحسن من المكلّفين، والمسيء منهم إذ من شأن الملك أن ينصر أولياءه ويكرمهم، ويقهر أعداءه ويُهينهم.
وقال الطيبي: «ليجزي» راجع لقوله: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ.. الآية، والمعنى: إِنَّ ربك هو أعلم بمَن ضلّ وبمَن اهتدى ليجزي كل واحد بما يستحقه، يعني: أنه عالم، كامل العلم، قادر، تام القدرة، يعلم أحوال المُكلَّفين فيُجازيهم، لا يمنعه أحدٌ مما يريده لأنَّ كل شيء من السموات والأرض ملكه، وتحت قهره وسلطانه، فقوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ: جملة معترضة، توكيد للاقتدار وعدم المعارض. هـ.
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ: بدل من الموصول الثاني، أو: رفع على المدح، أي: هم الذين يجتنبون.
والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدُّد الاجتناب واستمراره. وكبائر الإثم: ما يكبر عقابه من الذنوب، وهو ما رتّب
عليه الوعيد بخصوصه. قال ابن عطية: وتحرير القول في الكبائر: إنها كل معصية يُوجد فيها حَدّ في الدنيا، أو توعّد عليها بنار في الآخرة، أو بلَعنةٍ ونحوها. وقرأ الأخوان:(كبير الإثم) على إرادة الجنس، أو الشرك، وَيجتنبون الْفَواحِشَ وهو ما فَحُشَ من الكبائر، كأنه قيل: يجتنبون الكبائر وما فحش منها خصوصاً، فيحتمل أن يريد بالكبائر: ما فيه حق الله وحده، والفواحش منها: ما فيه حق الله وحق عباده، إِلَّا اللَّمَمَ أي: إلا ما قَلَّ وصَغُر، فإنه مغفور لمَن يجتنب الكبائر، وقيل: هي النظرة والغمزة والقُبلة، وقيل: الخطرة من الذنب، وقيل: كل ذنب لم يجعل الله فيه حَدّاً ولا عذاباً. والاستثناء منقطع لأنه ليس من الكبائر ولا من الفواحش.
إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، أو: حيث يغفر ما يشاء من الذنوب من غير توبة، وهذا أحسن، هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام مِنَ الْأَرْضِ إنشاءً إجمالياً، حسبما مرّ تحقيقه مراراً، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ أي: يعلم وقت كونكم أجنّة فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ على أطوار مختلفة، لا يخفى عليه حالٌ مِن أحوالكم، ولا عمل من أعمالكم.
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ فلا تنسبوها إلى زكاء الأعمال، وزيادة الخير والطاعات، أو: إلى الزكاة والطهارة من المساوئ، ولا تُثنوا عليها، واهضموها، فقد علم اللهُ الزكيَّ منكم والتقِيّ، قبل أن يُخرجكم من صُلب آدم، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم. وقيل: كان ناس يعملون أعمالاً حسنة، ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجّنا، فنزلت.
وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء، لا على سبيل الاعتراف بالنعمة، والتحدُّث بها، فإنه جائز لأن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكرها. والأحسن في إيراد الاعتراف والشكر أن يُقدم ذكر نقصه، فيقول مثلاً: كنا جُهالاً فعلَّمنا الله، وكنا ضُلَاّلاً فهدانا الله، وكنا غافلين فأيقظنا الله، وهكذا فنحن اليوم كذا وكذا.
قال ابن عطية: ويُحتمل أن يكون نهياً عن أن يُزَكِّي بعضُ الناس بعضاً، وإذا كان هذا، فإنما ينهى عن تزكية السَّمع «1» ، أو القطع بالتزكية، ومن ذلك الحديث في «عثمان بن مظعون» عند موته «2» ، وأما تزكية القدوة أو الإمام، أو أحداً، ليؤتم به أو لِيَتَهَمَّمَ الناس بالخير، فجائز، وقد زكَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وغيره، وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة للضرورة إليها، وأصل التزكية: التقوى، والله تعالى أعلم بتقوى الناس منكم. هـ «3» .
(1) فى ابن عطية: السمعة والمدح للدنيا.
(2)
حديث عثمان بن مطعون رضي الله عنه سبق ذكره وتخريجه عند التعليق على إشارة الآية 9 من سورة الأحقاف، فراجعه إن شئت.
(3)
ببعض المعنى
وقال في القوت: هذه الذنوب تدخل على النفوس من معاني صفاتها، وغرائز جبلاتها، وأول إنشائها من نبات الأرض، وتركيب الأطوار في الأرحام، خَلْقٍ مِن بعد خلقٍ، ومن اختلاط الامشاج بعضها مع بعض، ولذلك عقبه بقوله: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ
…
الآية. هـ.
ثم قال تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى، فاكتفوا بعلمه عن علم الناس، وبجزائه عن ثناء الناس. وبالله التوفيق.
الإشارة: ولله ما في سموات الأرواح من أنوار الشهود، وما في أرض النفوس من آداب العبودية، رتَّب ذلك ليجزي الذين أساءوا بوقوفهم مع أرض النفوس في العالم المحسوس، ويجزي الذين آمنوا بترقيهم إلى مقام الإحسان، بالحسنى، وهي المعرفة، حيث ترقّوا من أرض الأشباح إلى عالم سماء الأرواح، وهم الذين يجتنبون كبائر الإثم، وهو شهود وجودهم مع وجود الحق محبوبهم، ووقوفهم مع عالم الحس، والفواحش، وهو اعتراضهم على الله فيما يبرز من عُنصر قدرته، وتصغيرهم شيئاً مما عظَّم الله، إلا اللمم خواطر تخطر ولا تثبت.
قال القشيري: كبائر الإثم ثلاث محبة النفس الأمّارة، ومحبة الهوى النافخ في نيران النفس، ومحبة الدنيا، التي هي رأس كل خطيئة، ولكل واحدة من هذه الثلاث فاحشة لازمة لها، أما فاحشة محبة النفس: فموافقة الطبيعة ومخالفة الشريعة، وأما فاحشة محبة الهوى: فحُب الدنيا وشهواتها، وأما فاحشة محبة الدنيا فالإعراض عن الله، والإقبال على ما سواه. وقوله إِلَّا اللَّمَمَ أي: الميل اليسير إلى الهوى والنفس والدنيا، بحسب ضرورته البشرية مِن استراحة البدن، ونيل قليل من حظوظ الدنيا، بحسب الحقوق، لا بحسب الحظوظ، فإنَّ مباشر الحقوق مغفور، ومباشر الحظوظ مغرور. هـ.
إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ يستر العيوب، ويُوصل إلى حضرة الغيوب. هو أعلم بكم إذ أنشأكم من أرض البشرية، ورقّاكم إلى عالم الروحانية، وإذ أنتم أَجنة في أول بدايتكم في بطون أمهاتكم، في بطون الهوى والغفلة، ودائرة الكون، فأخرجكم منها بمحض فضله، فلا تُزكُّوا أنفسكم، فتنظروا إليها بعين الرضا، أو تنسبوا إليها شيئاً من الكمالات قبل صفائها. قال القشيري: تزكية المرء نفسه علامة كونه محجوباً لأنَّ المجذوب عن بقائه، المستغرق في شهود ربِّه، لا يُزكِّي نفسه. هـ. قلت: هذا مادام في السير، وأما إن حصل له الوصول فلا نفس له، وإنما يُزكّي ربه إذا زكّاها، هو أعلم بمَن اتقى ما سواه.