الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم هددهم بقوله:
[سورة الدخان (44) : الآيات 10 الى 16]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
يقول الحق جل جلاله: فَارْتَقِبْ فانتظر يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، قال عليّ وابن عباس وابن عمر والحسن- رضي الله عنهم: هو دخان يجيء قبل يوم القيامة، يُصيب المؤمن منه مثل الزكام، ويُنضج رؤوسَ المنافقين والكافرين، حتى تكون كأنها مصليَّة حنيذة «1» ، وتكون الأرض كلها كبيت أُوقد فيه نار، ليس فيه خِصاص «2» ، ويؤيد هذا حديث حذيفة: «أول الآيات الدخان، ونزول عيسى، ونار تخرج من عدن، تسوق النّاس إلى المحشر، تقيل معهم إذا قالوا
…
» الحديث «3» ، انظر الثعلبي.
وأنكر هذا ابن مسعود، وقال: هذا الدخان قد رأته قريش حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف، فكان الرجل يرى من الجوع دخاناً بينه وبين السماء «4» . ويؤيده ما يأتي بعده. وقوله مُبِينٍ أي: ظاهر لا يشك أحد أنه دخان، يَغْشَى النَّاسَ أي: يحيط بهم، حتى كان الرجلُ يُحدّث الرجلَ، ويسمع كلامه، ولا يراه من الدخان، أي: انتظر يوم شدة ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، إما لضعف بصره، أو لأن عام القحط يُظلِم الهواء لقلة الأمطار، أو كثرة الغبار، هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي: قائلين هذا عذاب أليم.
ولما اشتد بهم القحط، مشى أبو سفيان، ونفر معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الله- تعالى- والرحم، وواعدوه إن دعا لهم، وكشف عنهم، أن يؤمنوا، وذلك قوله تعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي: سنؤمن إن
(1) المصليّة والحنيذة: المشوية.
(2)
الخصاص: الفرج والخرق فى البناء أو الباب ونحوه، راجع اللسان (خصص 2/ 1173) والخبر أخرجه الطبري (25/ 113) .
(3)
أخرجه البغوي فى تفسيره (7/ 230) من حديث حذيفة بن اليمان، وأخرجه الطبري (25/ 114) بذكر كلمة (الدجال) بدل (الدخان) .
(4)
معنى ما أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة حم الدخان، باب أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ح 4823) ومسلم (فى صفات المنافقين، باب الدخان ح 2798)(39) . ولفظه كما عند البخاري: قال عبد الله: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قريشا كذبوه واستعصوا عليه، فقال: اللهم أعنى عليه بسبع كسبع يوسف. فأصابهم سنة حصت كلّ شىء، حتى كانوا يأكلون الميتة وكان يقوم أحدهم، فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان، من الجهد والجوع. ثم قرأ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ حتى بلغ: إِنَّكُمْ عائِدُونَ قال عبد الله: أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ قال: والبطشة الكبرى يوم بدر» .
كُشف عنا العذاب، قال تعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي: كيف يذَّكرون ويتَّعظون ويَفُون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب، وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي: والحال أنهم يُشاهدون من دواعي التذكير وموجبات الاتعاظ، ما هو أعظم منه، حيث جاءهم رسول عظيم الشأن، بيِّن البرهان، يُبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة، ومعجزات قاهرة، تخرّ لها صُمّ الجبال.
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: عن ذلك الرّسول، بعد ما شاهدوا من العظائم ما يوجب الإقبال عليه، ولم يقنعوا بالتولِّي، بل اقترفوا ما هو أشنع، وَقالُوا في حقه عليه السلام: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي: قالوا تارة مُعَلَّم يُعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف، وتارة مجنون، أو: يقول بعضهم كذا، وبعضهم كذا، وكيف يتوقع من قوم هذه صفتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟! قال تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا أي: زمنا قليلاً، أو كشفاً قليلاً، إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى الكفر، الذي أنتم فيه، أو: إلى العذاب بعد صرف الدخان، على القول الأول، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يوم بدر، أو يوم القيامة، إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي: ننتقم منهم في ذلك اليوم. وانتصاب يَوْمَ نَبْطِشُ باذكر أو بما دلّ عليه (إنا منتقمون) ، وهو ننتقم، لا بمنتقمون، لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيما قبله.
الإشارة: فارتقب أيها العارف يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مبين، أي: يوم يبرز من سماء الغيوب بدخان الحس، وظلمة الأسباب تغشى قلوب الناس، فتحجبهم عن شمس العرفان، هذا عذاب أليم موجع للقلوب، حيث حجبها عن حضرة علاّم الغيوب. وأما العارف فشمسه ضاحية، ونهاره مشرق على الدوام، كما قال شاعرهم:
لَيلِي بوجهكَ مشْرقٌ
…
وظلامُهُ في الناس سَارِ
الناسُ في سَدَفِ الظَّلامِ
…
ونحنُ في ضوءِ النَّهارِ
وقال آخر:
طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بِليلٍ
…
فَاسْتَنارَتْ فَمَا تَلَاهَا غُرُوبُ
إنَّ شمس النهار تَغْربُ بِليلٍ
…
وشَمْسَ القُلوب لَيْسَتْ تَغيبُ «1»
قال القشيري: قيامة هؤلاء- أي الصوفية- مُعَجَّلة لهم، يوم تأتي السماء فيه بدخان مبين، وهو باب غيبة الأخبار، وانسداد باب ما كان مفتوحاً من الأنس بالأحباب. قلت: وأحسن من عبارته أن تقول: وهو باب غيبة الأنوار، وانسداد منبع الأسرار. ثم قال: وفي معناه قالوا:
(1) البيتان من الخفيف، وهما للحلاج، كما فى ديوانه/ 23 تحقيق د/ كامل الشيبى. وصلة تاريخ الطبري 11/ 87.
فلَا الشمس شَمْسٌ تستنيرُ ولا الضحى
…
يطلق ولا ماءُ الحياة بباردِ. هـ. «1»
وقوله تعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ قال القشيري: وقد يستزيد هؤلاء العذاب على العكس من أحوال الخلق، وفي ذلك أنشدوا:
وكلُّ مآربي قدْ نِلْتُ مِنها
…
سِوى مُلكِ وَدِّ قَلْبي بالعذاب «2»
فهم يسألون البلاء بدل ما يستكشفه الخلق، وأنشدوا:
أَنْتَ البلاء فكيف أرجو كَشْفه
…
إنَّ البلاء إذا فقدتُ بلائي. هـ.
قلت: وأصرح منه: قال الشاعر:
يا مَن عذابِيَ عَذْبٌ في مَحَبَّته
…
لَا أشْتكِي منك لا صَدّا ولا مَلَلا
وقول الجيلاني «3» رضي الله عنه:
تَلَذُّ لِيَ الآلامُ إذْ كُنْتَ مُسقِمي
…
وَإن تَخْتَبِرني فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ
تَحَكَّم بِمَا تَهْواهُ فِيّّ فإنَّني
…
فَقيرٌ لسُلطان المَحَبَّةِ طَائِعُ
قوله تعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي: كيف يتّعظ مَن تنكَّب عن صحبة الرجال، وملأ قلبه بالخواطر والأشغال؟ وقد جاءهم مَن يدعوهم إلى الكبير المتعال، فأنكروه، وقالوا: مُعَلَّمٌ مجنون، إنا كاشفوا العذاب عن قلوبهم من الشكوك والخواطر قليلاً، حين يتوجهون إلينا، ويفزعون إلى بابنا، أو يسمعون مِن بعض أوليائنا، ثم تكثر عليهم الخواطر، حين تنقشع عنهم سحابة أمطار الواردات من قلوب أوليائنا، إنكم عائدون إلى ما كنتم عليه، يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى، هي خطفة الموت، فلا ينفع فيها ندم ولا رجوع، بل يورثهم حزناً طويلاً، فلا يجدون في ظلال انتقامنا مقيلاً، فننتقم ممن أعرض بسريرته عن دوام رؤيتنا.
(1) هكذا فى الأصول، أما فى لطائف الإشارات، فالشطر الأول فيه:[فما جانب الدنيا بسهل ولا الضحى] .
والبيت لأبى تمام، فى رثاء خالد بن يزيد. انظر ديوان أبى تمام (4/ 72) .
(2)
هكذا فى الأصول، والشطر الثاني فى القشيري وغيره من المصادر والمذكورة بعد:[سوى ملذوذ وجدى بالعذاب] .
هذا، والبيت جاء منسوبا للحلاج فى ديوانه (قسم أعشار نسبت للحلاج ص 68) وتاريخ بغداد (8/ 116) ، كما نسب البيت فى الكواكب الدرية (44) والفتوحات المكية (3/ 185) لأبى يزيد البسطامي.
(3)
الشيخ عبد الكريم الجيلي فى عينيته (ص 50- 51) .