الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: تفكُّر الاعتبار يكون في أربعة، الأول: في سرعة ذهاب الدنيا وانقراضها، كأضغاث أحلام، وكيف غرَّت مَن انتشب بها، وأخذته في شبكتها، حتى قدِم على الله بلا زاد، وكيف دَمّر اللهُ على أهل الطغيان، واستأصل شأفتهم، فيُنتج ذلك التشمير والتأهُّب ليوم الجزاء. الثاني: في دوام دار البقاء، ودوام نعيمها، فينتهز الفرصة في العمل الصالح. الثالث: في النِعَم التي أنعم الله بها على عباده، الدنيوية والأخروية، الحسية والمعنوية، قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «1» فينْتِج ذلك الشكر، لتدوم عليه. الرابع: في نصب هذه العوالم، على ما هي عليه من الإبداع والإتقان، فيُثمر ذلك معرفةَ الصانع، وباهرِ قدرته وحكمته.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا
…
الخ، قال القشيري: المَوْلَى: المحِبُّ، فهو محب الذين آمنوا، والكافرين لا يُحبهم، ويصح أن يُقال: أرجى آيةٍ في القرآن هذه الآية، لم يقل مولى الزُهّاد والعُبّاد وأصحاب الأورادِ والاجتهاد بل قال: مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، والمؤمن وإن كان عاصياً فهو من جملتهم. هـ- والمحبة تتفاوت بقدر زيادة الإيمان والإيقان حتى يصير محبوباً مقرباً.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ، وكذلك الغافل، فالأنعام تأكل بلا تمييز، من أي موضع وجدت، كذلك الجاهل، لا تمييز له من الحلال أو من الحرام، والأنعام ليس لها وقت لأكلها، بل تأكل في كل وقت، وكذلك الغافل والكافر. فقد ورد «أن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يجتزئ بما تيسّر» «2» ، كما في الخبر:«ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرّاً من بطنٍ» «3» . والأنعام تأكل على الغفلة، فمَن كان في أكله ناسياً لربه، فأكلُه كأكل الأنعام. انظر القشيري.
ولما أمرهم بالنظر فلم يفعلوا، هددهم بالهلاك، فقال:
[سورة محمد (47) : الآيات 13 الى 14]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
(1) من الآية 34 من سورة إبراهيم.
(2)
ورد بلفظ «إن المؤمن يأكل فى معىّ واحد، وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاء» ، الحديث أخرجه البخاري فى (الأطعمة، باب المؤمن يأكل فى معى واحد، ح 5393) ومسلم فى (الأشربة باب المؤمن يأكل فى معى واحد رقم 2061، ح 184) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(3)
بعض حديث أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء فى كراهية كثرة الأكل، ح 2380) وقال: «حديث صحيح» وابن ماجه فى (الأطعمة، باب الاقتصاد فى الأكل وكراهة الشبع، ح 3349) والنّسائى فى الكبرى (آداب الأكل، باب ذكر القدر الذي يستحب للإنسان من الأكل ح 6768) والحاكم (4/ 121)«وصحّحه الذهبي» من حديث مقدام بن معدى كرب.
قلت: (كأيّن) : كلمة مركبة من الكاف و «أيّ» ، بمعنى كم الخبرية، ومحلها: الرفع بالابتداء، وقوله:(هي أشد) : نعت لقرية، و (أهلكناهم) : خبر، وحذف المضاف، أي: أهل قرية، بدليل «أهلكناهم» .
يقول الحق جل جلاله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي: كثير من أهل قرية هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ مكة، الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أي: تسببوا في خروجك، أي: وكم من قوم هم أشدُّ قوةً من قومك الذين أخرجوك، أَهْلَكْناهُمْ بأنواع العذاب، فَلا ناصِرَ لَهُمْ فلم يكن لهم مَن ينصرهم ويدفعُ العذابَ عنهم، فأنتم يا معشر قريش أهونُ منهم، وأولى بنزول ما حجل بهم.
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي: حُجةٍ واضحةٍ، وبرهانٍ قاطع، وهو القرآن المعجزُ، وسائر المعجزات، يعنى: رسول الله صلى الله عليه وسلم، كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، وهم أهل مكة، زين الشيطان شركهم وعداوتهم لله ولرسول صلى الله عليه وسلم، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ الزائغة، وانهمكوا في فنون الضلالات، من غير أن يكون لهم شُبهة توهم صحة ما هم عليه، فضلاً عن حُجةٍ تدل عليها. وقيل: المراد بمَن كان على بينة: المؤمنون فقط، المتمسكون بأدلة الدين.
قال أبو السعود: وجعلُها عبارة عن النّبى عليه السلام وعن المؤمنين، لا يساعده النّظم الكريم، على أن الموازاة بينه صلى الله عليه وسلم، وبين مَن زُين له سُوء عمله مما يأباه مَنصِبُه الجليل. والتقدير: أليس الأمر كما ذُكِر؟ فمَن كان مستقرّاً على حُجةٍ ظاهرة، وبرهانٍ نيّر من مالكٍ أمره ومُربّيه، وهو القرآن، وسائر الحجج العقلية، كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ من الشرك وسائر المعاصي، مع كونه في نفسه أقبح القبائح. هـ.
الإشارة: في الآية تهديدٌ لمَن يُؤذي أولياءَ الله، ويُخرجهم من مواطنهم بالهلاك العاجل أو الآجل. وقوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تقدّم في سورة هود الكلام عليها «1» . وقال القشيري هنا، في تفسير البينة:
هي الضياء والحُجة والاستبصار بواضح المحجة، فالعلماء في ضياء برهانهم، والعارفون في ضياء بيانهم، فهؤلاء بأحكام أدلة الأصول يُبصرون، وهؤلاء بحُكم الإلهام والوصول يستبصرون. هـ.
ثم عرّف بالجنة، التي تقدمت فى قوله: عَرَّفَها لَهُمْ، فقال:
(1) راجع إشارة الآية 17 من سورة هود.