الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألا رُبَّ وجهٍ في التراب عتيقِ
…
ألا ربَّ رامٍ في التراب رفيقِ
أرى كلَّ حيٍّ هالكًا وابنَ هالك
…
وذو حسب في الهالكين عريقِ
فقل لمقيم الدار: إنك ظاعِنٌ
…
إلى سفرٍ نائي المحلِّ سحيقِ
إذا امتحنَ الدنيا لبيبٌ، تَكَشَّفَتْ
…
له عن عدوٍّ في ثيابِ صديقِ
217 - عبد الغني بن عبد الواحد بنِ عليِّ بنِ سرورٍ، الجماعيليُّ، المقدسيُّ، الحافظُ، الزاهدُ، أبو محمدٍ، ويلقب: تقي الدين، حافظُ الوقت، ومحدِّثُه
.
ولد سنة 541، وقيل: سنة 543، وقيل: سنة 544، قدم دمشق، وسمع من حفاظها، ورحل إلى بغداد، وقرأ على الشيخ عبد القادر شيئًا من الحديث، ورجع إلى الإسكندرية، وسمع بها من الحافظ السلفي، وأكثر عنه - حتى قيل: لعله كتب عنه ألف جزء -، وسافر إلى أصبهان وهمدان وموصل، وسمع من حفاظها، وعاد إلى دمشق، ولم يزل ينسخ ويصنف ويفيد المسلمين، ويعبد الله.
قال الحافظ الضياء: كان عبد الغني أميرَ المؤمنين في الحديث. قال: ورأيت فيما يرى النائم وأنا بمدينة مرو - كأن الحافظَ عبدَ الغني جالس، والإمام محمد بن إسمعيل البخاري بين يديه، يقرأ عليه جزءًا أو كتابًا، وكان الحافظ يرد عليه شيئًا، أو ما هذا معناه. قال: وجاء رجل إليه، فقال: رجل حلف بالطلاق إنك تحفظ مئة ألف حديث، فقال: لو قال أكثرَ لصدق. قال التاج الكندي: لم ير الحافظ مثلَ نفسه، وما رأيت أحفظَ منه. وأنشد ربيعة بن الحسن فيه شعر:
يا أصدقَ الناسِ في بَدْوٍ وفي حَضَرٍ
…
وأَحفظَ الناس فيما قالت الرسلُ
إنْ يحسدوك فلا تَعْبَأْ بقائِلِهم
…
هُمُ الغثاءُ وأنتَ السيدُ البَطَلُ
وأنشدت فيه:
إن قِيسَ علمُك في الورى بعلومِهم
…
وجدوكَ سَحْبانا وغيرك باقِلُ
ذكره ابن النجار في "تاريخه"، وقال: حدَّث بالكثير، وصنف التصانيف الحسنة في الحديث، وكان كثيرَ العبادة، ورعًا، متمسكًا بالسنة على قانون السلف، ولم يزل يحدث إلى أن تكلم في الصفات والقرآن بشيء أنكره عليه أهل
التأويل من الفقهاء، وسَعَوا به عليه، وعُقد له مجلس بدار السلطان حضرة القضاة، فأصر على قوله، وأباحوا إراقة دمه، فشفع فيه جماعة إلى السلطان من الأمراء والأكراد، وتوسطوا في أمره على أن يخرج من دمشق إلى مصر - فأُخرج إلى مصر، وأقام بها خاملاً إلى حين وفاته.
قال يوسف بن خليل: دُعي إلى أن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فأبى، فمُنع من التحديث بدمشق، وسافر إلى مصر، فأقام بها إلى أن مات. وكان السلفيُّ لا يقول لأحد: الحافظ، إلا لعبد الغني، وكان مجتهدًا على طلب الحديث وسماعه للناس من قريب وغريب، فكان كل غريب يأتي يسمع عليه، أو يعرف أنه يطلب الحديث، يكرمه، ويبره، ويحسن إليه إحسانًا كثيرًا، وأحيا به الله حديث رسوله عليه السلام.
قال الحافظ إبراهيم العراقي: ما رأيت الحديث كله في الشام إلا ببركته، وذكر أنه كان يفضل الرحلة للسماع على غزو، وعلى سائر النوافل، وكان يقرأ الحديث ويبكي ويُبكي الناس. قال بعض المصريين: ما كنا إلا مثل الأموات حتى جاء الحافظ، فأخرجنا من القبور. قال موفق الدين: كمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة، وعداوتِهم إياه، وقيامهم عليه، إلا أنه لم يُعَمَّر حتى يبلغ غرضه في رواية الأحاديث ونشرها رحمه الله. وكان لا يكاد يضيع شيئًا من زمانه بلا فائدة، وكان يقول: تعال! حتى نحافظ على الوضوء لكل صلاة، قال أيضًا: وكان يستعمل السواك كثيرًا حتى كأن أسنانه البَرَد، وكان لا يرى منكرًا إلا غيره بيده أو لسانه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، ولقد رأيته مرة يهريق خمرًا، فجبذ صاحبُه السيفَ، فلم يخف من ذلك، وأخذه من يده، وكان - رح - قويًا في بدنه، قويًا في أمر الله، وكثيرًا ما كان يكسر الطنابير والشبابات بدمشق، وكان قد وضع الله له الهيبة في قلوب الخلق، وأنه دخل يومًا على الملك العادل، فلما رآه، قام له، فقال الناس: آمنا بكرامتك يا حافظ. وذكروا أن العادل قال: ما خفتُ من أحد ما خفتُ من هذا، فقلنا: أيها الملك! هذا رجل فقيه، أيش خفت من هذا؟ قال: لما دخل، ما خُيل إليَّ إلا أنه سَبعُ: يريد أن يأكلني، فقلنا: هذه كرامة الحافظ.
قال: وما أعرف أحدًا من أهل السنة رأى الحافظَ إلا أحبه حبًا شديدًا، ومدحه مدحًا كثيرًا، وكان ليس بالأبيض الأمهق، بل يميل إلى السمرة، حسنَ الشعر، كثَّ اللحية، واسع الجبين، عظيم الخلق، تام القامة، كأَن النورَ يخرج من وجهه.
وكان قد ضعف بصره من كثرة البكاء والنسخ والمطالعة، ويقول: إنه أبلغ ما يسأل العبد ربه عز وجل ثلاثة أشياء: 1 - رضوان الله عز وجل، 2 - والنظر إلى وجهه الكريم، 3 - والفردوس الأعلى. وقال: يقال: إن من العصمة ألا تجد. ثم قال: هي أعظم العصمة؛ فإنها عصمة النبي صلى الله عليه وسلم. وسئل: هؤلاء المشايخ يُحكى عنهم من الكرامات ما لا يحكى عن العلماء، أيش السبب في هذا؟ فقال: اشتغال العلماء بالعلم كرامة، أو قال: أتريد للعلماء كرامة أفضل من اشتغالهم بالعلم؟ وقد كان للحافظ كرامات كثيرة، ذكر بعضها ابن رجب في "الطبقات"، وذكر الضياء أشياء كثيرة منها.
وقال الحافظ: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يمشي وأنا أمشي خلفه، إلا أن بيني وبينه رجلاً. وعن رجل فقيه - وكان ضريرًا يبغض الحافظ -، فرأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه الحافظ، ويده في يده في جامع عمرو بن العاص، وهما يمشيان، وهو يقول له: يا رسول الله! حدثت عنك بالحديث الفلاني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: صحيح، حتى عدد مئة حديث، فأصبح، فتاب من بغضه.
وقال آخر: رأيت الحافظ في النوم يمشي مستعجلاً، فقلت: إلى أين؟ قال: أزور النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: وأين هو؟ قال: في المسجد الأقصى، فإذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعنده أصحابه، فلما رأى الحافظ، قام له النبي صلى الله عليه وسلم، وأجلسه إلى جانبه، قال: فبقي الحافظ يشكو إليه ما لقي، ويبكي، ويقول: يا رسول الله! كذبت في الحديث الفلاني، والحديث الفلاني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: صدقتَ يا عبد الغني.
ومن مصنفاته كتاب "المصباح في عيون الأحاديث الصحاح" أربعون جزءًا، يشتمل على أحاديث "الصحيحين"، وكتاب "الصفات"، وكتاب "محنة الإمام أحمد"، وكتاب "العمدة في الأحكام" مما اتفق عليه البخاري ومسلم، وكتاب
"النصيحة في الأدعية الصحيحة"، وكتاب "الاقتصاد في الاعتقاد"، وكتاب "الكمال في معرفة الرجال" يشتمل على رجال "الصحيحين"، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في عشر مجلدات، وفيه إسناده وذكر الضياء محنَ الحافظ، منها: أن الحافظ قال: كنا بالموصل نسمع "الجرح والتعديل" للعقيلي، فأخذني أهل الموصل، وحبسوني في دار، وأرادوا قتلي من أجل ذكر أبي حنيفة فيه، وجاءني رجل طويل، ومعه سيف، فقلت: لعل هذا يقتلني وأستريح، فلم يصنع شيئًا، ثم إنهم أطلقوني. ثم ذكر الضياء طرفًا من فراسته وهي ملحقة بنوع من كراماته، توفي رحمه الله في سنة 600. ووقع لابن الحنبلي في وفاته وهم، فقال: سنة 595. ورثاه غير واحد، منهم: الإمام العلامة محمد بن سعيد المقدسي بقصيدة، أولها:
هذا الذي كنتُ يومَ البينِ احتسبُ
…
فليقْضِ دمعُك عني بعضَ ما يجبُ
يا خيرَ من قالَ بعدَ الصحبِ حَدَّثنا
…
ومن إليه التُّقى والدينُ ينتسبُ
أحييتَ سُنَّتَه من بعدِ ما دُفنت
…
وشِدْتَها وقد انهدَّتْ لها رُتَبُ
وصُنْتَها عن أباطيلِ الرُّواةِ لها
…
حتى استنارتْ فلا شَكٌّ ولا رِيَبُ
ما زلتَ تمنحُها أهلاً وتمنَعُها
…
من كانَ يُلهيه عنها الثغرُ والشَّنَبُ
روى: أن النور يُرى على قبر الحافظ كل ليلة جمعة. ورأى رجل في النوم: أنه في أرض واسعة، وفيها قوم عليهم ثياب، وهم كثيرون، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل له: هؤلاء ملائكة السماء نزلوا لموت الحافظ عبد الغني. وقال الإمام أحمد بن محمد بن عبد الغني: رأيت البارحة الكمال - يعني: عبد الرحيم - في النوم، وعليه ثوب أبيض، فقلت له: يا فلان! أين أنت؟ قال: في جنة عدن، فقلت: أيما أفضل الحافظُ عبدُ الغني أو الشيخ أبو عمرو؟ فقال: ما أدري، وأما الحافظ، فكلَّ ليلة جمعة يُنصب له كرسي تحت العرش، ويُقرأ عليه الحديث، ويُنثر عليه الدر والجوهر، وهذا نصيبي منه، وكان في كمه شيء. وقد ذكروا له غير ذلك من المنامات المرئية له في حياته وبعد مماته، رح.