الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
45 - أَبو محمد، عبد الله بنُ أبي الوحش بري بن عبد الجبار المقدسيُّ
.
الإمام المشهورُ في علم النحو واللغة، والرواية والدراية.
كان علامة عصره، وحافظَ وقته، ونادرة دهره، اطلَّع على أكثر كلام العرب، وله كتاب على "كتاب الصحاح" للجوهري، وحواش فائقة، أتى فيها بالغرائب، واستدرك عليه فيها مواضع كثيرة، وهي دالة على سَعَة علمه، وغزارةِ مادته، وعظم اطلاعه، وصحبه خلقٌ كثير اشتغلوا عليه، وانتفعوا به.
قال ابن خِلَّكان: ولقيتُ بمصرَ جماعةَ من أصحابه، وأخذت عنهم روايةً وإجازةً، ويحكى أنه كانت فيه غَفلة، ولا يتكلَّف في كلامه، ولا يتقيد بالإعراب، بل يسترسل في حديثه كيف ما اتفق، حتى قال يومًا لبعض تلامذته ممن يشتغل عليه بالنحو: اشترِ لي قليل هندبا بعروقو، فقال له التلميذ: هندبا بعروقه؟ فعزَّ عليه كلامُه، وقال: لا تأخذه إلا بعروقو، وإن لم يكن بعروقو، فما أُريده، وكانت له ألفاظ من هذا الجنس لا يكترث بما يقوله، ولا يتوقف على إعرابها، وله جزء لطيف في أغاليط الفقهاء.
كانت ولادته بمصر سنة تسع وتسعين وأربع مئة، وتوفي سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة. وبَرّي - بالفتح وتشديد الراء -: اسم علم يشبه النسبة.
46 - أَبو عمرو، عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعيُّ، إمام أهل الشام
.
لم يكن بالشام أعلمُ منه، قيل: إنه أجاب في سبعين ألف مسألة.
وكان يسكن بيروت، سمع من الزهري، وعطاء، وروى عنه الثوري، وأخذ عنه عبد الله بن المبارك وجماعة كثيرة.
كانت ولادته ببعلبك سنة 88 للهجرة، وقيل: سنة 93، وكان فوقَ الربعة، خفيفَ اللحية، به سمرة، وكان يخضب بالحناء.
توفي سنة 157 بمدينة بيروت، وأهل القرية لا يعرفونه، ويقولون: ها هنا
رجل صالح ينزل عليه النور، ولا يعرفه إلا الخواص من الناس، ورثاه بعضهم بقوله:
جادَ الحَيا بالشام كُلَّ عشيةٍ
…
قبرًا تضمَّن لحدُه الأوزاعي
قبرٌ تضمَّن فيه طودُ شريعةٍ
…
سَقيًا له من عالم نَفَّاعِ
عُرضت له الدنيا فأَعرض مُقْلِعًا
…
عنها بزُهدٍ أَيَّما إقلاعِ
ذكر الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق": أن الأوزاعي دخل الحمام ببيروت، وكان لصاحب الحمام شغل، فاغلق الحمام عليه، وذهب، ثم جاء ففتح الباب، فوجده ميتًا، قد وضع يده اليمنى تحت خده، وهو مستقبل القبلة. وقيل: إن امرأته فعلت ذلك، ولم تكن عامدة لذلك، فأمرها سعيدُ بن عبد العزيز بعتق رقبة.
والأوزاع: بطنٌ من ذي الكلاع من اليمن، وقيل: بطن من همدان، وقيل: قرية بدمشق. وبيروت: بليدة بساحل الشام، أخذها الفرنج من المسلمين في سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة.
47 -
أبو الفرج، عبدُ الرحمن بنُ أبي الحسن، عليِّ (1) بنِ محمد بن علي بن عبد الله، من بني محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه القرشيُّ التيميُّ البكريُّ البغداديُّ، الفقيه الحنبليُّ الواعظ، الملقبُّ: جمال الدين الحافظ.
كان علامة عصره، وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ، صنف في فنون عديدة، وله في الحديث تصانيفٌ كثيرة.
وله "الموضوعات" في أربعة أجزاء، ذكر فيها كل حديث موضوع.
وبالجملة: كتبُه أكثرُ من أن تعد، وكتب بخطه شيئًا كثيرًا، والناس يغالون في ذلك حتى يقولون: إنه جمعت الكراريس التي كتبها، وحسبت مدة عمره، وقسمت الكراريس على المدة، فكان ما خص كل يوم تسع كراريس، وهذا شيء لا يكاد يقبله العقل، ويقال: إنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث
(1) ابن الجوزي: عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (508 - 597 هـ - 1114 - 1201 م).
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحصل منها شيء كثير، وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته، ففعل ذلك، فكفت، وفضل منها، وله أشعار كثيرة.
وكانت له في مجلس الوعظ أجوبة نادرة، فمن أحسن ما يحكى عنه: أنه وقع النزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، فرضي الكل بما يجيب به الشيخ أبو الفرج، فأقاموا شخصًا سأله عن ذلك، وهو على الكرسي في مجلس وعظه، فقال: أفضلُهما من كانت ابنتُه تحتَه، ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك.
فقال السنية: هو أبو بكر؛ لأن ابنته عائشة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت الشيعة: هو علي بن أبي طالب؛ لأن فاطمة بنتَ رسول الله تحته.
وهذه من لطائف الأجوبة، ولو حصل بعد الفكر التام وإمعان النظر، كان في غاية الحسن، فضلًا عن البديهة، وله محاسن كثيرة يطول شرحها.
كانت ولادته بطريق التقريب سنة 508، أو سنة 510.
وتوفي ليلة الجمعة ثاني عشر رمضان سنة 597 ببغداد، ودفن بباب حرب.
والجوزي: نسبة إلى فرضة الجوز، وهو موضع مشهور.
وفي "طبقات ابن رجب": الحافظُ المفسرُ الفقيهُ الواعظ الأديب، شيخُ وقته وإمام عصره، ابن الجوزي، اختُلف في هذه النسبة، وفي سنة مولده وذكرها، وقال: لما ترعرع حملته أمه إلى مسجد الحافظ ابن ناصر، فاعتنى به، وأُسمع الحديث، وحفظ القرآن، وقرأه على جماعة من أئمة القراء، وسمع بنفسه الكثير، وعني بالطلب.
قال ابن الجوزي: كنت ألازم من الشيوخ أعلمَهم، وأوثر من أرباب النقل أفهمَهم، فكانت همتي تجويد العدد، لا تكثير العدد، انتهى.
قال ابن رجب: ووعظ وهو صغير جدًا، وأخذ في التصنيف والجمع، ونظر في جميع الفنون، وألف فيها، وكان أكثر علومه يستفيدها من الكتب، وعظم شأنه في ولاية الوزير ابن هبيرة، وكان يتكلم عنده في داره كل جمعة، قال:
فتكلمت، وكان يحزر جمع مجلسي على الدوام بعشرة آلاف، أو خمسة عشر ألفًا، قال: وظهر أقوام يتكلمون بالبدع ويتعصبون، فأعانني الله سبحانه عليهم، وكانت كلمتنا هي العليا.
قال ابن رجب: وكان الشيخ يُظهر في مجالسه مدحَ السنة، والإمام أحمد وأصحابه، ويذمُّ من خالفهم، قال يومًا على المنبر: أهلُ البدع تقول: ما في السماء أحد، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، ثلاث عورات لكم.
وقيل له مرة: قَلِّلْ من ذكر أهل البدع مخافة الفتن، فأنشد، شعر:
أَتوبُ إليك يا رحمنُ مِمَّا
…
جنيتُ فقد تعاظَمَتِ الذنوبُ
وأما مِنْ هَوى ليلى وتركي
…
زيارَتَها فإني لا أتوبُ
وقال له قائل: ما فيك عيب إلا أنك حنبلي، فأنشد:
وعَيَّرَني الواشونَ أني أُحبُّها
…
وتلكَ شكاةٌ ظاهر عنك عارُها
ثم قال: هذا عيبي، ولا عيبَ في وجه نقط صفحته بالخال، وأنشد:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم
…
بِهِنَّ فُلولٌ من قِراعِ الكتائبِ
وكتب إليه رجل في رقعة: والله ما أستطيع أراك، فقال: أعمش وشمس! كيف يراها؟! ثم قال: إذا خلوتُ في البيت، غرستُ الدر في أرض القراطيس، وإذا جلست للناس، دفعت بدرياق العلم سموم الهوى، أحميكم عن طعام البدع، وتأبون إلا التخليط، والطبيب مبغوض.
قال: وانتهى تفسيري للقرآن في المجلس على المنبر إلى أن تم، فسجدت على المنبر سجدة الشكر، وقلت: ما عرفت أن واعظًا فسر القرآن كله في مجلس الوعظ منذ نزل القرآن، ثم ابتدأت يومئذ في ختمة، أفسرها على الترتيب، واللَّه قادر على الإنعام والإتمام، والزيادة من فضله.
وكانت الخلفاء والسلاطين يحضرون مجالس وعظي، وأما سائر الناس، فلا تسأل عنهم؛ فقد حُزر الجمع بمئة ألف وزيادة، وتاب خلق كثير، قال: وتقدم الخليفة بعمل لوح ينصب على قبر الإمام أحمد، وفي رأسه مكتوب: هذا قبر تاج
السنة، وحيد الأمة، العالي الهمة، العالم العابد، الفقيه الزاهد، الورع المجاهد، العاملِ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال: وبنى للشيخ أبي الفتح بن المنِّي دكة في موضع جلوسه في الجامع، فتأثر أهل المذاهب من ذلك، وجعل الناس يقولون لي: هذا بسببك - فإنه ما ارتفع هذا المذهب عند السلطان - حتى مال إلى الحنابلة - إلا بسماع كلامك، فشكرت الله على ذلك.
قال: وقد تاب على يدي أكثر من مئة ألف، وصار لي اليوم مئة وخمسون مصنفًا، ولم ير واعظ مثل جمعي، فقد حضر مجلسي: الخليفة، والوزير، وصاحب المخزن، وكبار العلماء، والحمد لله على نعمه. وسمع المستضيء بالله ابنَ الجوزي ينشد تحت داره شعر:
ستنقلُك المنايا عن ديارِكْ
…
ويُبدِلُك الردى دارًا بدارِكْ
وتتركُ ما عُنيت به زمانًا
…
وتُنقل من غناك إلى افتقارِكْ
فدودُ القبرِ في عينيك يرعى
…
وترعى عينُ غيرِك في ديارِك
فجعل أمير المؤمنين يمضي في قصره، ويقول: أي والله! "وترعى عين غيرك في ديارك"، ويكررها، ويبكي حتى الليل. وحاصل الأمر: أن مجالسه الوعظية لم يكن لها نظير، ولم يسمع بمثلها، وكانت عظيمة النفع، يتذكر بها الغافلون، ويتعلم منها الجاهلون، ويتوب فيها المذنبون، ويسلم فيها المشركون، ويتسنن فيها المبتدعون.
قال ابن الجوزي: ولا يكاد يُذكر لي حديث إلا ويمكنني أن أقول: صحيح، أو حسن، أو محال.
قال سبطُه أبو المظفر: أقلُّ ما كان يحضر مجلسه عشرُة آلاف، وربما حضر عنده مئة ألف، وسمعته يقول على المنبر في آخر عمره: كتبت بإصبعيَّ هاتين ألفي مجلدة، وتاب على يدي مئة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني.
قال: وكان يختم القرآن في كل سبعة أيام، وما مازح أحدًا قط، ولا لعب مع
صبي، ولا أكل من جهة لا يتبين حلها، وما زال على ذلك الأسلوب حتى توفاه الله تعالى.
وقال الإمام ناصح الدين بن الحنبلي: اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع في غيره، وكانت مجالسه الوعظية جامعة للحسن والإحسان باجتماع طراق بغداد وانضياف الناس، وحسن الكلمات المسجعة، والمعاني المودعة، والألفاظ الرابحة، وقراءة القرآن بالأصوات المرجعة، والنغمات المطربة، وصيحات الواجدين، ودمعات الخاشعين، وإنابة النادمين، وذل التائبين، والإحسان بما يفاض على المستمعين من رحمة أرحم الراحمين.
ولا سافر إلا إلى مكة، ولقد كان جمالًا لأهل بغداد خاصة، وللمسلمين عامة، ولمذهب أحمد منه ما لحضرة القدس من القدس.
قال ابن الدبيثي في "ذيله على تاريخ ابن السمعاني": إليه انتهت معرفة الحديث وعلومه، والوقوف على صحيحه من سقيمه، وله من المسانيد والأبواب والرجال ومعرفة ما يحتج به في أبواب الأحكام والفقه، وما لا يحتج به من الأحاديث الواهية والموضوعة والانقطاع والاتصال، وله في الوعظ العبارة الرائقة، والإشارة الفائقة، والمعاني الدقيقة، والاستعارة الرشيقة، وكان من أحسن الناس كلامًا، وأتمهم نظامًا، وأعذبهم لسانًا، وأجودهم بيانًا، وبورك له في عمره وعلمه، فروى الكثير، وسمع منه الناس أكثر من أربعين سنة، وحدث بمصنفاته مرارًا.
وقال الموفق عبد اللطيف: كان ابن الجوزي لطيفَ الصوت، حلوَ الشمائل، رخيمَ النغمة، موزون الحركات والنغمات، لذيذ المفاكهة، يحضر مجلسه مئة ألف أو يزيدون، لا يضيع من زمانه شيئًا، يكتب في اليوم أربعة كراريس، ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلدًا إلى ستين، وله في كل علم مشاركة، لكنه كان في التفسير من الأعيان، وفي الحديث من الحفاظ، وفي التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كافٍ، وأما السجع الوعظي، فله فيه ملكة قوية، إن ارتجل أجاد، وإن روى أبدع.
وله في الطب كتاب "اللقط"، وكان يراعي حفظ صحته، وتلطيف مزاجه، وما يفيد عقله قوة، وذهنه حدة، جل غذاءه الفراريخ والمزاوير، ويعتاض عن الفاكهة بالأشربة والمعجونات، ولباسه أفضل لباس: الأبيض الناعم المطيب.
ونشأ يتيمًا على العفاف والصلاح، وله ذهن وَقَّاد، وجوابٌ حاضر، ومجون لطيف، ومداعبات حلوة لا ينفك من جارية حسناء.
وذكر غير واحد أنه شرب حب البلادر، فسقطت لحيته، فكانت قصيرة جدًا، وكان يخضبها بالسواد، وصنف في جواز الخضاب بالسواد مجلدًا.
وذكره ابن البزوري في "تاريخه"، وأطنب في وصفه، فقال: أصبح في مذهبه إمامًا يشار إليه، ويعقد الخنصر في وقته عليه، بنى لنفسه مدرسة، ووقف عليها كتبه، برع في العلوم، وتفرد بالمنثور والمنظوم، وفاق على أدباء عصره، وعلا على فضلاء دهره.
له التصانيف العديدة، سئل عن عددها، فقال: زيادة على ثلاث مئة وأربعين مصنفًا، منها ما هو عشرون مجلدًا، ومنها ما هو كراس واحد، ولم يترك فنًا من الفنون إلا وله فيه مصنف، كان واحدَ زمانه، وما أظنُّ الزمان يسمح بمثله، وكان إذا وعظ، اختلس القلوب، وشقق النفوس دونَ الجيوب.
وذكره العماد الكاتب في "الخريدة"، وابن خلكان، والحموي، وابن النجار، وأبو شامة، وغيرهم، وأثنوا عليه، مع أن اشتهاره بالعلوم والفضائل يغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره، فقد بلغ ذكرُه مبلغَ الليل والنهار، وسارت بتصانيفه الركبانُ إلى أقطار الأرض.
وقال ابن النجار: له حظ من الأذواق الصحيحة، ونصيب من شرب حلاوة المناجاة.
وقد ذكر ابن القادسي: أنه كان يقوم الليل، ولا يكاد يفتر عن ذكر الله، ورأى ربَّ العزة في منامه ثلاث مرات، ومع هذا، فللناس فيه رحمه الله كلام من وجوه: منها: كثرة أغلاطه في تصانيفه، وعذرُه في هذا واضح، وهو أنه مكثر من التصانيف؛ فيصنف الكتاب ولا يعتبره، بل يشتغل بغيره، ولولا ذلك، لم
تجتمع له هذه المصنفات الكثيرة، ومع هذا، فكان تصنيفه في فنون من العلوم بمنزلة الاختصار من كتب في تلك العلوم.
ولهذا نقل عنه أنه قال: أنا مرتِّب، ولست بمصنِّف، ومنها: ما يوجد في كلامه من التأوه والترفع والتعاظم وكثرة الدعاوى، ولا ريب أنه كان عنده من ذلك طرف، والله يسامحه، ومنها: ميله إلى التأويل في بعض كلامه، واشتد نكيرهم عليه في ذلك.
وأثنى عليه الشيخ موفق الدين المقدسي، وقال: كان حافظًا للسنة، إلا أننا لم نرض تصانيفه ولا طريقته.
وكان شيخه ابن ناصر يثني عليه كثيرًا، وقال: نفعه الله بعلمه ونفع به، وبلغه لغاية العمر لينفعَ المسلمين، وينصر السنَّة وأهلَها، ويدحض البدع وحزبَها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كان الشيخ أبو الفرج متفننًا كثيرَ التصانيف، له مصنفات في أمور كثيرة، حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف. ورأيت له بعد ذلك ما لم أره، وله من التصانيف في الحديث وفنونه، ما قد انتفع به الناس وهو كائن من أجود فنونه، انتهى.
له جزء في "مناقب أصحاب الحديث" مجلد، وفي "موت الخضر" مجلد.
ومن لفظ كلامه الحسن في المجالس، قال يومًا - وقد طرب أهل مجلسه -: فَهِمتُهم فَهُمتُم.
وقال يومًا: شهوات الدنيا أنموذج، والأنموذج يعرض ولا يقبض. وسأله رجل: أيُّما أفضل! أُسبح أو أستغفر؟ فقال: الثوبُ الوسخ أحوجُ إلى الصابون من البخور.
ومن كلامه: من قنع، طاب عيشه، ومن طمع، طال طيشه. وسئل كيف ضرب عمر رضي الله عنه بالدرة الأرض؟ قال: الخائن خائف، والبَري جَري.
وقال: الدنيا دار الإله، والمتصرف في الدار بغير أمر صاحبِها لِصّ.
وسأله سائل: هل يجوز أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي؟ فقال: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها، فلا تشغلها بالملاهي بلاهي.
وقال في قول فرعون: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51]، قال: افتخر بنهر ما أجراه، ما أجراه! وسئل يومًا: ما تقول في الغناء؟ فقال: أقسم بالله لهوَ لهوٌ.
وقال يومًا: ما عز يوسف إلا بترك ما ذلَّ به ما عِز. وقرىء بين يديه يومًا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] فقال: هذا والله! توقيع بخراب البيوت.
وقال يومًا في مناجاته: إلهي! لا تعذب لسانًا يُخبر عنك، ولا عينًا تنظر في علوم تدل على مناجاتك، ولا قدمًا تمشي إلى خدمتك، ولا يدًا تكتب حديث رسولك، فبعزتك لا تدخلْني النار، فقد علم أهلُها أني كنت أذبُّ عن دينك، وارحمْ عبرةً تترقرق على ما فاتها منك، وكبدًا تحترق على بعدِها منك، إلهي! علمي بفضلك يطمعني فيك، ويقيني بسطوتك لا يؤيسني منك، كلما رفعت ستر الشوق إليك، مسكه الحياء منك، إلهي! لك أَذِلُّ، وبك أُذِل، وعليك أدل، وأنشد:
أَحْيا بذكرك ساعةً وأموتُ
…
لولا التعلُّلُ بالمُنى لَفَنيتُ
وله أشعار حسنة كثيرة. قال أبو شامة: قيل: إنها عشر مجلدات، قال: وأنشدنا لنفسه:
سلامٌ على الدار التي لا تزورُها
…
على أن هذا القلبَ فيها أسيرُها
إذا ما ذكرنا طِيبَ أيامِنا بها
…
تَوقَّدُ في نفس الذكور سعيرُها
رحلْنا وفي سرِّ الفؤاد ضمائرٌ
…
إذا هبَّ نجديُّ الصَّبا يستثيرُها
محتْ بعدكم تلك العيونُ دموعَها
…
فهل من عيون بعدَها نستعيرُها
أتنسى رياض الروض بعدَ فراقها
…
وقد أخذ الميثاقَ منك غديرُها
يجعّده مرُّ الشّمال وتارةً
…
يُغازله كرُّ الصَّبا ومرورُها
ألا هل إلى شَمِّ الخُزامى وعَرْعَرٍ
…
وشيح بوادي الأثلِ أرضٌ نزورُها
ألا أيّها الركبُ العراقيُّ بَلِّغوا
…
رسالةَ محزون حَوَتْه سطورُها
إذا كتبتْ أنفاسُه بعضَ وجدِها
…
على صفحةِ الذكرى محاه زفيرُها
ترفَّقْ رفيقي هل بدتْ نارُ أرضِهم
…
أم الوجدُ يُذْكى نارَه ويثيرُها
أَعِدْ ذكرَهم فهو الشفاءُ، وربما
…
شفى النفسَ أمرٌ ثم عادَ يضيرُها
ألا أين أزمانُ الوصال التي خلتْ
…
وحَلّت خَلَت خَلَّت وحالَ مريرُها
سقى الله أيامًا مضتْ ولياليًا
…
تَضَوَّع رَيَّاها وفاحَ عبيرُها
وقرأ عليه جماعة، منهم: طلحة العلثي، وأبو عبد الله بن تيمية خطيبُ حران، وذكر في أول تفسيره أنه قرأ عليه كتابه "زاد المسير في التفسير" قراءة بحث ومراجعة، وسمع الحديث وغيره من تصانيف خلق لا يحصون كثرة من الأئمة والحفاظ والفقهاء.
وروى عنه خلق، منهم: ابنه محيي الدين، وسبطه أبو المظفر الواعظ، والشيخ موفق الدين، والحافظ عبد الغني، وابن القطيعي، وابن النجار، وابن عبد الدائم، وعبد اللطيف الحراني، وهو خاتمة أصحابه بالسماع، وروى عنه آخرون بالإجازة، وقد نالته المحنة في آخر عمره، وحديثُها يطول، وأنشد في مجلس:
اللَّهَ أسألُ أن يطوِّلَ مدَّتي
…
وأنالَ بالإنعام ما في نِيَّتي
لي هِمَّةٌ في العلم، ما من مثلِها
…
وهي التي جَنَتِ النُّحولَ هي التي
خلقت من الفلق العظيم إلى المنى
…
دُعيت إلى نَيْل المكارم لبَّتِ
كم كان لي من مجلسٍ، لو شبهت
…
حالاتُه لتشبهَتْ بالجنةِ
أشتاقه لما مضت أيامُه
…
عللًا وتعذر ناقةٌ إن جنتِ
فهل لِليلات بجَمْعٍ عودةٌ
…
أم هل إلى وادي مِنًى من نظرةِ
قد كان أحلى من تصاريف الصّبا
…
ومن الحَمام مغنِّيًا في الأيكةِ
فيها البديهاتُ التي ما نالَها
…
خلقٌ بغير مخمر ومبيتِ
برجاحةٍ وفصاحةٍ وملاحةٍ
…
يقضي لها عدنانُ بالعربيَّةِ
وبلاغةٍ وبراعةٍ ويراعةٍ
…
ظنَّ النُّباتيْ أَنَّها لم تنبُتِ
وإشارةٌ تُبكي الجُنَيْدَ وصحبَه
…
في رِقَّةٍ، ما قالَها ذو الرُّمَّةِ
قال أبو شامة: هذه الأبيات أظنها كانَ نظمها في أيام محنته إذ كان محبوسًا بواسِط، فمعانيها دالة على ذلك، واللَّه أعلم.
قال أبو المظفر: نزل من المنبر، فمرض خمسة أيام، وتوفي في داره سنة 597 ليلة الجمعة، واجتمع أهل بغداد، وغلقت الأسواق، وجاء أهل المحالّ، وشددنا التابوت بالحبال، وسلمناه إليهم، فذهبوا به إلى البرية مكان جلوسه، فصلى عليه ابنه أبو القاسم، علي اتفاقًا؛ لأن الأعيان لم يقدروا على الوصول إليه، ثم ذهبوا به إلى جامع المنصور، فصلوا عليه، وضاق بالناس، وكان يومًا مشهودًا، لم يصلْ إلى حفرته عندَ قبر أحمد بن حنبل إلا وقت صلاة الجمعة، وما وصل إلى حفرته من الكفن إلا قليل.
ونزل في الحفرة والمؤذن يقول: اللَّه أكبر! وحزن الناس عليه حزنًا شديدًا، وبكوا عليه بكاءً كثيرًا، وباتوا عند قبره طول شهر رمضان يختمون الختمات، ورآه تلك الليلة المحدث أحمدُ بنُ سليمان الحربي على منبرٍ من ياقوت مرصَّع بالجوهر، والملائكة حِلَقٌ بين يديه، والحقُّ تعالى حاضر يسمع كلامه.
ورثاه القادري العلوي بأبيات، منها:
الدهرُ عن طمع يَغُرُّ ويخدَعُ
…
وزخارفُ الدنيا الدنيَّةِ تُطْمِعُ
وأَعِنَّةُ الآمال يُطلِقها الرَّجا
…
طَمَعًا، وأسيافُ المنيَّةِ تقطعُ
والموتُ آتٍ والحياةُ مريرةٌ
…
والناسُ بعضُهُمُ لبعضٍ يَتبعُ
واعلمْ بأنَّكَ عن قليلٍ صائرٌ
…
خَبَرًا، فكن خبرًا بخيرٍ يسمعُ
إلى تمام القصيدة. قال: وأوصى أن يكتب على قبره:
يا كثيرَ العفو عمن
…
كثُر الذنب لديه!
جاءك المذنبُ يرجو
…
الصفحَ عن جرمِ يديهِ
أنا ضيفٌ وجزاءُ الضيفِ
…
الإحسان إليه
فرحمه اللَّه، وغفر له، ورحم سائر علماء المسلمين.
وحدث سعد الله البصري - وكان رجلا صالحًا، وكان مرجان حينئذ في
عافية -: قال رأيت مرجان في المنام، ومعه اثنان، كل واحد قد أخذ بيده، فقلت: إلى أين؟ قالا: إلى النار، قلت: لماذا؟ قالا: كان يبغض ابنَ الجوزي هذا.
وقد أطنب ابن رجب في ترجمته إلى كراسة وزيادة، وذكر من أسامي كتبه المؤلفة ما يطول ذكرُها، وكتب من أحوال مجالسه الوعظية، ورفعة شأنه وعلو مكانه في العلوم وعند الناس ما لا يأتي عليه الحصر، ولا ريب أنه كان عمودًا من عمد الإسلام، وفخرًا من مفاخر الأنام، وحسنة من حسنات الليالي والأيام، وناصرًا من أنصار السنة المطهرة، ومفسرًا من مفسري الكتاب، ومحدِّثًا جليلًا من محدثي الآثار رادًا على المبتدعين، باغضًا لأصحاب المذاهب من المقلدين، عارفًا بصحيح الحديث من سقيمه، وضعيف الآثار من موضوعها، إمامًا في الجرح والتعديل، أستاذًا للأئمة الكبار بلا مدافعة، واعظًا نبيلًا لم تر عينٌ مثلَه في الوعاظ، بليغًا أديبًا شاعرًا كاملًا لم يخلف مثله في الديار، وفضائله أجل من أن تذكر، ومناقبه أكثر من أن تحصر، جزاه اللَّه عن المسلمين، خيرًا، ورحمه ورحم سائر المتبعين المقتفين لآثار النبي صلى الله عليه وسلم، والناصرين لسنته المطهرة الذابِّين عنها بالألسنة والأسنة.
فالناس كثير، والدنيا ملاء منهم، ومدَّعو العلم غزير، والعالم مشحون بهم، ولكن أين مثل هذا الشيخ ونظرائه في العلم والعمل، ومعرفة الحق من الباطل، كَثَّر اللَّه من أمثاله، وحققنا بفعاله وأحواله وأقواله، وما ذلك على اللَّه بعزيز.
اللهم! إنك تعلم كوننا في هذه المئة الثالثة عشر التي ذهبت بكل خير، وجاءت إلينا بكل شر، ومذ فتحنا عينًا لم نر إلا شينًا ورينًا، وقعنا في ناس جاهلين، وقوم عن الدين ناكبين، وخُلقنا في زمان ليس علينا فيه سلطان أحد من المسلمين، وإنما نحن كالأسراء في أيدي الفجرة الكفرة الجبابرة الظالمين، لا نقدر على شيء، ولا نعرف سبيلًا إلى خروج، ولا نجد مَنْ نجالسه ونصاحبه، ونستعين به على دفع مكائد الشياطين من الإنس والجن أجمعين، ولا نقف على من يهدينا سبيل الرشاد، ويوصلنا إلى طريق الصدق والسداد، {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] رب تب عليَّ إنك أنت