الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كونهم ليسوا بمقلدين، فلأنه لم يُسمع عن أحد من مقصري الصحابة: أنه قلد عالمًا من علماء الصحابة المشاهير، بل كان جميع المقصرين منهم يستروون علماؤهم نصوصَ الأدلة، ويعملون بها، وكذلك مَنْ بعدهم من التابعين وتابعيهم، من قال: إن جميع الصحابة مجتهدون، وجميعَ التابعين وتابعيهم كذلك، فقد أعظم الفرية، وجاء بما لا يقبله عارف.
وهذه المذاهب والتقليدات التي معناها قبولُ قول الغير دون حجته لم تحدثْ إلا بعد انقراض "خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
وخيرُ الأمورِ السالفاتُ على الهُدَى
…
وشَرُّ الأمورِ المُحْدَثاتُ البدائِعُ
وإذا لم يسع غيرَ العالم في عصور الخَلَف ما وسعه في عصور السلف، فلا وَسَّعَ الله عليه.
قال: وهذا عارضٌ من القول اقتضاه ما قدمناه، فلنرجع إلى ما نحن بصدده من ترجمة هذا السيد الإمام، انتهى.
اقبلْ نصيحةَ واعظٍ
…
وَلَو أنَّه فِيها مُراءِ
فلرُبَّما نفعَ الطبيبُ
…
وكانَ أحوجَ للدواءِ
370 - محمد بن يوسف، الغرناطيُّ، المعروفُ بأثير الدين، أبي حيانَ الأندلسيُّ
.
إمامُ العربية والتفسير، ذكر له المُقَّرِيُّ ترجمة حسنة طويلة، وقال ابن مرزوق في حقه: شيخ النحاة بالديار المصرية، وشيخ المحدثين بالمدرسة المنصورية، سمعت عليه، وقرأت، وحدثني بسنن أبي داود، والنسائي، والموطأ عن جماعة من الحفاظ، قال: شكوت إليه يومًا ما يلقاه الغريبُ من اذاية العداة، فأنشدني لنفسه:
عُداتي لهم فضلٌ عَلَيَّ ومِنَّةٌ .... فلا أذهبَ الرَّحمنُ عَنِّي الأعاديا
هُمُ بحثوا عن زَلَّتي فاجْتَنَبْتُها
…
وهُمْ نافَسوني فاكتسبتُ المَعاليا
ذكر الصفدي ترجمته، وأثنى عليه، وبالغ فيه، وقال، خدم هذا العلم مدةً
تقارب الثمانين، وسلك من غرائبه وغوامضه طرقًا متشعبةَ الأَفانين، ولم يزل على حاله إلى أن دخل في خبر كان، وتبدلت حركاته بالإسكان، توفي سنة 745، وصُلِّي عليه بدمشق صلاة الغائب، وكان مولده سنة 654، وله اليدُ الطولى في التفسير والحديث، وتراجم الناس وطبقاتهم، وله التصانيف التي سارت وطارت، وانتشرت وما انتثرت، وقرئت ودريت، ونسخت وما فسخت، أخملت كتب المتقدمين، وقرأ الناس عليه، وصاروا أئمة وأشياخًا في حياته. وكان حسنَ العِمَّة، مليحَ الوجه، ظاهرَ اللون، مُشرب الحمرة، مُنَوَّرَ الشيبة، كبيرَ اللحية، مسترسلَ الشعر، وكان فيه خشوع، يبكي إذا سمع القرآن، ويجري دمعُه عند سماع الأشعار الغزلية. قال الأدفوي، قال لي: إذا قرأتُ أشعارَ العتق، أميل إليها، وكان أولاً يرى رأيَ الظاهرية، ثم إنه تمذهب للشافعي، وكان أولاً يعتقد في الشيخ ابن تيمية، وامتدحه بقصيدة، ثم إنه انحرف عنه لما وقف على كتاب "العرش" له.
قلت: وليس الأمر كذلك، قال في "البدر الطالع": وكان ظاهريًا، وبعد ذلك انتمى إلى الشافعي، وكان أبو البقا يقول: إنه لم يزل ظاهريًا، قال ابن حجر: كان أبو حيان يقول: محال أن يرجع عن مذهب الظاهر مَنْ علقَ بذهنه، انتهى. ولقد صدق في مقاله، فمذهب الظاهر هو أول الفكر، وآخر العمل عندَ مَنْ منُح الإنصاف، ولم يَرِدْ على فطرته ما يغيرها عند أهلها، وليس هو مذهب داود الظاهري وأتباعه فقط، بل هو مذهب أكابر العلماء المقيدين بنصوص الشرع من عصر الصحابة إلى الآن - وداود واحد منهم -، وإنما اشتهر عنه الجمود في مسائل وقفَ فيها على الظاهر حيث لا ينبغي الوقوف، وأهمل أنواع القياس ما لا ينبغي لمنصف إهماله.
وبالجملة: فمذهب الظاهر: هو العمل بظاهر الكتاب والسنة بجميع الدلالات، وطرح التعويل على محض الرأي الذي لا يرجع إليهما بوجه من وجوه الدلالة، وأنت إذا أمعنت النظر في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة، وجدتَها مذهبَ الظاهر بعينه، بل إذا رُزقت الانصافَ، وعرفت العلومَ
الاجتهادية كما ينبغي، ونظرت في علوم الكتاب والسنة حقَّ النظر، كنت ظاهريًا؛ أي: عاملاً بظاهر الشرع، منسوبًا إليه، لا إلى داود الظاهري، فإن نسبتك ونسبته إلى الظاهر متفقة، وهذه النسبة هي مساوية النسبة إلى الإيمان والإسلام، وإلى خاتم الرسل - عليه أفضل الصلاة والتسليم -، وإلى مذهب الظاهر بالمعنى الذي أشار إليه ابنُ حزم، بقوله:
وما أَنا إلا ظاهِرِيٌّ وإِنَّني
…
على ما بَدا حتى يقومَ دليلُ
انتهى.
قال الصلاح الكتبي: الشيخ الإمام الحافظ العلامة، فريد العصر، وشيخ الزمان، وإمام النحاة، أثيرُ الدين أبو حيان، قرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث ببلاد الأندلس، وجزيرة إفريقية، وثغر الإسكندرية وبلاد مصر والحجاز، وحصل الإجازات من الشام، وغير ذلك، وطلب وحصل، وكتب واجتهد، وله أشعار رائقة، وأبيات فائقة، أورد جملة منها في "الفوات". وكذا ذكر المَقَّري في "نفح الطيب" نبذة من أشعاره الرائقة، وقد مدحه كثير من الشعراء والكبار الفضلاء، وذكر أشعارهم في مدائحه.
وقال: الإمامُ العلامة، لسانُ العرب، وترجمان الأدب، وجامعُ الفضائل، عمدة وسائل السائل، حجة المقلدين، زين المجتهدين، أفضل الآخرين، وارث علوم الأولين، وكان سبب انحرافه عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه قال يومًا عنده: كذا قال سيبويه، فقال شيخ الإسلام: يكذب سيبويه، واعترض عليه في غير موضع.
وإلا، فأبو حيان هو الذي أنشأ في المجلس ارتجالاً في مدح شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى رحمة واسعة -:
لما أتينا تقيَّ الدين لاح لنا
…
داعٍ إلى الله فردٌ ما له وَزَرُ
على مُحَيَّاه من سيما الألى صحبوا
…
خيرَ البريةِ نورٌ دونه القمرُ
حِبْرٌ تسربلَ منه دهرُه حِبَرًا
…
بحرٌ تقاذفُ من أمواجه الدُّرَرُ
قامَ ابن تَيْمِيَّةٍ في نَصرِ شِرْعَتنا
…
مَقامَ سيدِ تَيْمٍ إذ عَصَتْ مُضَرُ