الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحديث؛ ذا عبادة وتهجد، وصنف كثيرًا في الحديث، وحج، وتوفي سنة 749 - رحمه الله تعالى -.
307 - أحمد بن علي بن محمد البابصري، البغداديُّ، الفقيهُ، الفرضيُّ، الأديبُ
.
ولد سنة 707 تقريبًا، سمع الحديث متاخرًا على الشيخ صفي الدين، ونظم الشعر الحسن، وكتب بخطه الحسن كثيرًا. قال ابن رجب: سمعت بقراءته الحديث، وحضرت درسه وأشغاله غير مرة، توفي في طاعون سنة 750 ببغداد - بعد رجوعه من الحج -، وصُلِّي عليه صلاة الغائب بدمشق - رحمه الله تعالى رحمة واسعة -.
قف: هذا وفي طبقات الحفاظ كتب كثيرة مختصة بهم، منها: كتاب الحافظ الذهبي، وكتاب ابن الدباغ، وكتاب ابن المفضل، وكتاب الحافظ ابن حجر، وكتاب ابن فهد المكي، وكتاب الشيخ جلال الدين السيوطي، وغيرهم. وقد وقفت على ملخص طبقات الذهبي في "تذكرة الحفاظ"، قال فيه: هذه تذكرة بأسماء معدلي حملة العلم النبوي، ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف والتصحيح والتعريف، وشرع فيه بذكر حفاظ الصحابة، وهم أهل الطبقة الأولى، وهلمَّ جرًّا، وبدأ بذكر أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وقال تحت الطبقة الثانية: قال الذهبي: وقد كان في هذا القرن الفاضل خلق عظيم من أهل العلم وأئمة الاجتهاد، وأبطال الجهاد في أقطار البلاد، وسادة العباد والأبدال والأوتاد، ولعل فيمن تركناهم من هو أجل وأعلم، وكان الإسلام ظاهرًا غالبًا قد طبق الأرض، وافتتحت بلاد الترك وإقليم الأندلس بعد التسعين في دولة الوليد، وجميع الأمة تحت أوامره، بل بعض نوابه - وهو الحجاج الظالم - الذي كان في رتبة أعظم السلطان، وعمر إذ ذاك مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بأكمل زخرفة، وأنشىء جامع دمشق. وكان خراج الدنيا لا يكاد ينحصر كثرة، فقد كان رتب بجزية على القبط في العام اثني عشر ألف ألف دينار، فما ظنك بجزية الروم؟! فما ظنك بجزية الفرس؟! ولقد كان الخليفة - من بني أمية - ولو شاء أن
يبعث بعوثه إلى أقصى الصين لفعل؛ لكثرة الجيوش والأموال، انتهى.
وذكر في الطبقة الثالثة - وهي الوسطى - من التابعين: الحسن البصري، وقال: قال ابن سعد: وما أرسلَه ليس بحجة، وقال: هو مدلِّس، فلا يحتج بقوله فيمن لم يدركه، وقد دلس عمن لقيه، وقال تحت ترجمة أبي الشعثاء جابر بن زيد الأزدي: روي أنه لقي ابنُ عمر جابرًا المذكورَ في الطواف، فقال: يا جابر! إنك من فقهاء البصرة، وإنك تستفتى، فلا تفتين إلا بقرآن ناطق، أو سنة ماضية، فإن لم تفعل، هلكت وأهلكت، قال: وكان في هذا الوقت من علماء التابعين عدد كثير في مملكة الإسلام، وسَمَّاهم.
ثم ذكر بعد تمام الطبقة الرابعة ما نصه: في هذه الطبقة تحولت دولة الإسلام من بني أمية إلى بني العباس في عام 132، فجرى بسبب ذلك التحول سيول من الدماء، وذهب تحت السيوف عالَم لا يحصيهم إلا الله عز وجل بخراسان وعراق والجزيرة والشام، ومات فلان وفلان، سمَّاهم، وهم علماء الوقت وحفاظه، قال: وفي هذا الزمان ظهر بالبصرة الاعتزالُ والقولُ بالقدر، وظهر بخراسان مُقاتل بنُ سليمان، وبالغ في إثبات الصفات حتى جَسَّم، وقام على هؤلاء علماء التابعين، وأئمة السلف، وحذروا من بدعهم، وشرع الكبار في تدوين السنن، وتأليف الفروع، وتصنيف العربية، ثم أكثر ذلك في أيام الرشيد، وكثرت التصانيف، وألفوا في اللغات، وأخذ حفظ العلماء ينقص.
فلما دونت الكتب، اتكلوا عليها، وإنما كان قبل ذلك علم الصحابة والتابعين في الصدور، فهي كانت خزانة العلم لهم.
ثم لوَّحَ بذكر الطبقة الخامسة، وذكر منها الإمام أبا حنيفة النعمان، وحكى عن ابن معين: أنه لا بأس به، وذكر آخرين، منهم: ابن جريج، قال: وكان يرى المتعة، فتزوج ستين امرأة، ومنهم: مقاتل بن حيان، قال: مات قبيل الخمسين بأرض الهند، ومنهم: سفيان الثوري، ومن قوله: والله إنَّ طلبَ الحديث شيءٌ غيرُ الحديث، فطلبُ الحديث اسمٌ عرفي لأمور زائدة على تحصيل ماهية الحديث؛ من تحصيل النسخ، وتكثير الشيوخ، والفرح بالألقاب، وتمني العمر
الطويل ليروي، وحب التفرد إلى أمور لازمة للأغراض النفسانية لا للأعمال الربانية، فإذا كان طلبك للحديث محفوفًا بهذه الآفات، فمتى خلاصك منها إلى الإخلاص؟
قال الذهبي: وإذا كان علم الآثار مدخولاً، فما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان، وتورث الشكوك والحيرة التي لم تكن والله! من علم الصحابة، ولا من علم الأوزاعي والثوري، والأئمة الأربعة، ولا عرفها أصحاب الأمهات الستة وأمثالُهم، بل كانت علومهم القرآن والحديث والفقه والنحو وشبيه ذلك، قال الثوري: ما من علم أفضل من طلب الحديث إذا صحت النية؛ يعني: طلبه للعمل مع الإخلاص، لا لغيره. قال: وفي زمان هذه الطبقة كان الإسلام وأهله في عز تام، وعلم غزير، وأعلام الجهاد منشورة، والسنن مشهورة، والبدع مكبوبة، والقوالون بالحق كثير، والعباد متوافرون، والناس في بُلَهْنِيَة - أي: سعة من العيش - بالأمن، وكثرة الجيوش المحمدية من أقصى المغرب وجزيرة الأندلس إلى قرب مملكة الخطا، وبعض الهند، وإلى الحبشة، وخلفاء هذا الزمان: أبو جعفر المنصور، ثم ابنه المهدي، ثم هارون الرشيد، وكان محبًا للسنن، قال: وكان في هذا الوقت من الصالحين مثل إبراهيم بن أدهم، وفلان وفلان، ومن النحاة: الخليل، ومن القراء كحمزة، ومن الشعراء عدد كثير، قال: وإنما اقتصرت على هؤلاء - الذين هم نيف وسبعون إمامًا - طلبًا للتخفيف.
ثم ذكر الطبقة السادسة، وهم تسعة وتسعون إمامًا، منهم: أبو يوسف القاضي - صاحب أبي حنيفة -، وحكى عنه: أنه قال: كل ما أفتيتُ به فقد رجعتُ عنه إلا ما وافق الكتاب والسنة، وفي لفظ: إلا ما وافق القرآن، واجتمع عليه المسلمون، ومنهم: يحيى بن القطان. قال: وكان له مسبحة يسبح بها، توفي سنة 198. ومنهم: عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري أحد الأعلام، قال: وكان ثقة حجة حافظًا مجتهدًا لا يقلد أحدًا، مات سنة 199. ومنهم: النضر بن شميل، قال أبو حاتم: هو صاحب سنة، وقال ابن المصعب: هو أول من أظهر
السنة بمرو وخراسان، ومن لطائفه: أنه قال: لا يجد الرجل لذة العلم حتى يجوع وينسى جوعه. ثم قال: وكان في زمان هؤلاء خلائق من أصحاب الحديث؛ كالترمذي، وأمثاله، ومن مشائخ القوم؛ كشقيق البلخي، ونظرائه، والدولة لهارون الرشيد والبرامكة، ثم بعدهم اضطربت الأمور، وضعف أمر الدولة بخلافة الأمين، فلما قتل، واستخلف المأمون على رأس مئتين، نجم التشيُّع، وأبدى صفحته، وبزغ فجر الكلام، وعُرِّبت حكمةُ الأوائل، ومنطقُ اليونان، وعمل رصد الكواكب، ونشأ للناس علم جديد لا يطابق أحكام النبوة، ولا يوافق توحيد المؤمنين، وكانت الأمة في عافية قبل ذلك، وقويت شوكة الرافضة والمعتزلة، وحمل المأمون المسلمين على القول بخلق القرآن، ودعاهم إليه، وامتحن العلماء.
قال الذهبي: وإن من البلاء أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وتقدم عقول الفلاسفة، وتعتزل منقول اتباع الرسل، وتماري في القرآن، وتنبرم بالسنن والآثار، وتقع في الحيرة، فالفرارَ الفرارَ قبل حلول الدمار، وإياك ومضلات الأهواء ومجاراة العقول {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101].
ثم ذكر الطبقة السابعة من حفاظ العلم النبوي، وقال: هم عدد كثير، واقتصرتُ منهم على الأعلام، وهم مئة نفس - رحمهم الله تعالى -، قال: ومنهم: الشعبي البصري، قيل له: رجع أبو حنيفة عن مسائل كثيرة، قال: إنما يرجع الفقيه إذا اتسع علمه، ومن كلامه: ليس الدين بالكلام، إنما الدين بالآثار، ومنهم: الإمام الشافعي، كان حافظًا للحديث، بصيرًا بعلله، ومنهم: حفصُ بن عبد الله، عالمُ نيسابور وقاضيها، وكان لا يقضي بالرأي ألبتة. روى الذهبي بسنده عنه إلى سالم: أنه سمع رجلًا من أهل الشام يسأل ابن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج؟ فقال: هي الحلال، قال السائل: إن أباك قد نهى عنها، قال: أرأيتَ إن كان أبي قد نهى عنها، وقد صنعها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أتتبع أمرَ أبي، أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر الطبقة الثامنة، وذكر منهم أحمدَ بن حبان الحافظَ الحجةَ صاحب "المسند"، وحكى عنه: أنه قال: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أصحاب الحديث، وإذا ابتدع الرجل بدعة، نزعت حلاوة الحديث من قلبه، مات سنة 256. قال الذهبي رح - بعد ترجمة أبي التقى -: فهؤلاء المسمَّوْن في هذه الطبقة هم نقاوة الحفاظ، ولعل قد أهملنا طائفة من نظرائهم، فإن المجلس الواحد - في هذا الوقت - كان يجتمع فيه أزيدُ من عشرة آلاف محبرة يكتبون الآثار النبوية، ويعتنون بهذا الشأن، وبينهم نحو من مئتي إمام قد برزوا وتأهلوا للفتيا، فلقد تقالَّ أصحاب الحديث وتلاشوا، وتبدل الناس بطلبة يهزأ بهم أعداء الحديث والسنة، ويسخرون منهم، وصار علماء العصر في الغالب عاكفين على التقليد في الفروع من غير تحرير لها، ومكبين على عقليات من حكمة الأوائل، وآراء المتكلمين، من غير أن يتعقلوا أكثرها، فعَمّ البلاء، واستحكمت الأهواء، ولاحت مبادي رفع العلم وقبضه من الناس، فرحم الله امرأً أقبل على شانه، وقصر من لسانه، وأقبل على تلاوة قرآنه، وبكى على زمانه، وأمعن النظر في "الصحيحين"، وعبدَ الله قبل أن يبعثه الأجل، اللهمَّ وفق وارحمْ واجعلنا منهم.
ثم ذكر الطبقة التاسعة - وعدتهم مئة وستة أنفس -، ومنهم: الذهلي حافظ نيسابور، قال أبو عمرو: رأيته في النوم، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: فما فعل بحديثك؟ قال كُتب بماء الذهب، ورُفع في أعلى عليين، توفي الذهلي سنة 258. ومنهم: الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن عتاب الأعين، قال الذهبي: لما مات، وبلغ خبره أحمد بن حنبل، قال: إني لأغبطه، مات ولم يعرف غير الحديث، ومنهم: داود الظاهري الحافظ الفقيه المجتهد، قال أبو إسحاق: كان في مجلسه أربع مئة طيلسان، وقال ثعلب: كان عقل داود أكثرَ من علمه، مات سنة 270. ومنهم: أبو داود - صاحب "السنن" -، قال: كتبت عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس مئة ألف حديث، انتخبت منها هذه السنن، فيه أربعة آلاف وثمان مئة حديث، مات سنة 275.
قال الذهبي في آخر هذه الطبقة: ولقد كان في هذا العصر وما قاربه من أئمة
الحديث النبوي صلى الله عليه وسلم في الدنيا خلق كثير، ما ذكرنا عشرهم ها هنا، وأكثرهم المذكورون في "تاريخي الكبير"، وكذلك كان في هذا الوقت خلق من أهل الرأي والفروع، وعدد من أساطين المعتزلة والشيعة، وأصحاب الكلام الذين مشوا وراء المعقول، وأعرضوا عما عليه السلف من التمسك بالآثار النبوية صلى الله عليه وسلم، وظهر في الفقهاء التقليد، وتناقص الاجتهاد، فسبحان من له الخلق والأمر! فبالله عليك يا شيخ! ارفق بنفسك، والزم الإنصاف، ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشزر، ولا ترمقنَّهم بعين النقص، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا هذا - حاشا وكلا -، فما فيمن سميت أحد - ولله الحمد - إلا وهو بصير بالدين، عالم بسبيل النجاة، وليس في كبار محدثي زماننا أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة، وإني أحسبك؛ لفرط هواك، وسعة جهلك، تقول بلسان الحال، إن أعذرك المقال: من أحمد؟ وما ابن المديني؟ وأي شيء أبو زرعة، وداود؟ وهؤلاء المحدثون، ولا يدرون الفقه ولا أصوله، ولا يفقهون الرأي، ولا علم لهم بالبيان والمعاني، ولا بالدقائق، ولا خبرة لهم بالبرهان والمنطق، ولا يعرفون الله تعالى بالدليل، ولا هم من فقهاء الملة، فاسكتْ بحلم، أو انطقْ بعلم، فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء، ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث، فلا نحن، ولا أنت، وإنما يَعرف الفضلَ لأهل الفضل ذو الفضل، فمن اتقى، راقب الله، واعترف بنقصه، ومن تكلم بالجاه وبالجهل، أو بالشر والهوى، فأعرضْ عنه، وذرْه وغيَّه، فعقباه إلى وبال، نسأل الله العفو والسلامة.
ثم عقد الطبقة العاشرة: وذكر فيها من أئمة أهل الحديث النبوي: تسعة وتسعين حافظًا، منهم: بقي بن مخلد القرطبي، قال: وكان إمامًا عَلَمًا قدوة مجتهدًا، لا يقلد أحدًا، محى (1) السنة، تعصبوا عليه؛ لإظهاره مذهب أهل الأثر، فدفعهم عنه أمير الأندلس محمد بن عبد الرحمن المرواني، واستنسخ كتبه، وقال لبقي: انشر علمك، وروي عن بقي، قال: لقد غرستُ للمسلمين
(1) كذا في المطبوع والصواب محيي والله أعلم.
غرسًا بالأندلس لا يُقلع إلا بخروج الدجال، توفي سنة 276. ومنهم: الحافظ الكبير أحمد بن أبي عاصم قاضي أصبهان، قال: كان مذهبه القول بالظاهر وترك القياس، قال أبو نعيم الحافظ: كان ظاهريَّ المذهب، مات سنة 287. ومنهم: قاسم بن محمد الحافظ الأندلسي، قال: صار إمامًا مجتهدًا لا يقلد أحدًا، وهو مصنف كتاب "الإيضاح في الرد على المقلدين"، وكان مذهبه الحجة والنظر، ولم يكن بالأندلس مثله في حسن النظر والبصر بالحجة، مات سنة 276. ومنهم: ابن خزيمة الحافظ المشهور، ومن كلامه: ليس لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قول إذا صح الخبر، ومن لم يقر بأن الله قد استوى على عرشه فوق سبع سماواته، فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئًا، مات سنة 311. ومنهم: الإمام محمد بن إسحاق شيخ الحديث بخراسان، يعرف بالسراج، كان يضحي كل أسبوع أو أسبوعين عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يجمع أصحاب الحديث ويطعمهم حتى قال: ختمت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف ختمة، وضحيت عنه اثني عشر ألف أضحية.
ومنهم: ابن المنذر الحافظ شيخ الحرم - صاحب الكتب التي لم يصنف مثلها -. قال الذهبي: وكان مجتهدًا لا يقلد أحدًا، وكان غاية في معرفة الاختلاف والدليل، توفي سنة 318.
ومنهم: الأرغياني الحافظ البارع محمد بن مسيب النيسابوري، قال الذهبي: كان من العباد المجتهدين، مات سنة 315.
ومنهم: الحافظ البارع حسين بن محمد - يعرف بالسنجي -. قال ابن ماكولا: ما بخراسان أكثر حديثًا منه، وكان لا يحدث أهل الرأي إلا بعد الجهد.
ومنهم: ابن شريح الإمام العلامة شيخ الإسلام أحمدُ بن عمر البغدادي، وكان صاحب سنة واتباع.
ومنهم: عبد المؤمن بن خلف الحافظ الإمام أبو يعلى، كان من علماء الظاهرية، وكان شديد البحث للآثار، محطًا على أهل القياس، ناسكًا متبعًا، قال الحافظ المستغفري: شهدنا جنازته، فغشينا أصوات مثل ما يكون من العساكر،
حتى ظننا جميعًا أن جيشًا قد قدم، فكنا نقول: ليتنا صلينا عليه قبل أن يغشانا، فلما اجتمع الناس، وقاموا للصلاة، كأن الصوت لم يكن، ثم إني رأيت في النوم كأن إنسانًا واقف على رأس درب أبي يعلى وهو يقول: أيها الناس! من أراد منكم الطريق المستقيم. فعليه بطريق أبي يعلى، أو نحو هذا، مات سنة 346.
قلت: وهذا من بركة اتباع السنة.
ومنهم: الحافظ الكبير حسن بن سعيد القرطبي، قال الذهبي: وكان علامة مجتهدًا لا يقلد.
ومنهم: ابن شاهين الحافظ الإمام المفيد - محدث العراق - عمر بن أحمد البغدادي، ذكر الذهبي عن الخطيب، عن الداودي: أنه كان لا يعرف الفقه، وكان إذا ذكر له مذهب أحد يقول: أنا محمدي المذهب. مات سنة 358.
ثم عقد الذهبي الطبقة الحادية عشرة: وسمى منهم بضعًا وسبعين إمامًا.
ثم ذكر في الطبقة الثانية عشرة: ثلاثين نفسًا من الأئمة، منهم: الحافظ الصوري محمد بن علي الساحلي، قال الخطيب: كان من أحرص الناس على الحديث، وأكثرَهم كتبًا، ومن كلامه:
قلْ لمن عاتدَ الحديثَ وأضحى
…
عائِبًا أهلَه ومَنْ يَدَّعيهِ
أبِعِلْمٍ تقولُ هذا أَبِنْ لي
…
أَمْ بجهلٍ فالجهلُ خُلْقُ السفيهِ
أَيُعاب الذين حفظوا الديـ
…
ـنَ من التُرَّهاتِ والتَّمويهِ
وإلى قولِهم وما قَدْ رَوَوْهُ
…
راجعٌ كلُّ عالِمٍ وفَقيهِ
توفي سنة 441.
ومنهم: شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي، قال الذهبي: كان مظهرًا للسنة، داعيًا إليها، رادًا على أهل الفلسفة والإلحاد، لا يخاف في الله لومة لائم، حافظًا للحديث، بارعًا في اللغة، قال أبو سعد السمعاني: كان مظهرًا للسنة، داعيًا إليها، محرضًا عليها، وكان سيفًا مسلولاً على المخالفين، وجذعًا في أعين المتكلمين، وطودًا في الحديث لا يتزلزل، وقد امتُحن، مات
سنة 481. ومنهم: الحافظ الحميدي - صاحب "الجمع بين الصحيحين" -، وكان إمامًا في الحديث وعلِله ورواتِه، محققًا على مذهب أصحاب الحديث بموافقة الكتاب والسنة، وكان ظاهريًا تلمذ لابن حزم، فدعاه، وكان يتعصب له، ويميل إلى قوله، وقد أصابته فيه فتنة، ولما سدوا على ابن حزم، خرج الحميدي إلى المشرق، مات سنة 488. ومنهم: ابن الخاضية حافظُ بغداد ومفيدُها، قال السمعاني: نسخ "صحيح مسلم" بالأجرة سبع مرات، مات سنة 489. ومنهم: الحافظ محمد بن طاهر المقدسي، قال ابن منده: كان لازمًا للأثر، داوديَّ المذهب، جمع أطراف الصحاح الستة، فأخطأ في مواضع. ومنهم: العبدريُّ الإمام الحافظ، كان من أعيان الحفاظ وفقهاء الظاهرية، وكان داودي المذهب، يحمل الآيات على ظواهرها، مات سنة 544.
ثم عقد الطبقة الثالثة عشرة، وسمى منهم خمسة عشر إمامًا، منهم: كوتاه الحافظُ الإمامُ المفيدُ عبدُ الجليل الأصفهاني، قال الذهبي: هو من أولاد المحدثين، قال: ما أعلم طريقًا إلى الجنة أهدى ممن يسلك طريق الحديث، مات سنة 553.
ثم ذكر في الطبقة الرابعة عشرة أربعة وعشرين حافظًا كانوا أثريين.
وذكر في الطبقة الخامسة عشرة ستًا وعشرين نفسًا من الحفاظ العاملين بالسنة، التاركين للمذهب، الطارحين للتقليد، وقال في ترجمة الحافظ الناقد ابن الرومية الأندلسي: كان ظاهريًا متعصبًا لابن حزم بعد أن كان مالكيًا، مات سنة 637. وقال في ترجمة ابن الصلاح صاحب كتاب "علوم الحديث" الإمامِ المشهورِ: كان سلفيًا حسنَ الاعتقاد، كافًّا عن تأَويل المتكلمين، مؤمنًا بما ثبت من النصوص، غيرَ خائض ولا معمق، انتقل إلى الله تعالى سنة 643.
ثم عقد الطبقة السادسة عشرة إلى الطبقة العشرين، وذكر في كل طبقة جمعًا جَمًّا من الحفاظ المحدثين الأثريين، ومنهم: ابن الظاهري، قال الذهبي: شيخنا الإمام المحدث الحافظ، قلّ من رأيت مثله، ما اشتغل بغير الحديث إلى أن توفي سنة 696. وذكر في ترجمة الحافظ ابن الزبير المتوفى سنة 708: قد قلّ من يقنع
بالآثار ومعرفتها في هذا الوقت في مشارق الأرض ومغاربها على رأس السبع مئة، أما المشرق وأقاليمه، فقد غلقت الأبواب، وانقطع الخطاب، والله المستعان، وأما المغرب، وما بقي من جزيرة الأندلس، فيندر من يعتني بالرواية، فضلاً عن الدراية.
ثم ذكر الطبقة الحادية والعشرين: وسمَّى من حفاظها: شيخ الإسلام بن تيمية، وقال: الشيخ الإمام العلامة، الحافظ الناقد المجتهد، المفسر البارع، شيخُ الإسلام، علم الزهاد، نادرة العصر،، أحد الأعلام، قال: وكان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، وأفراد الشجعان، أثنى عليه الموافق والمخالف، توفي سنة 728. ثم ذكر المزيَّ محدثَ الشام، وأثنى عليه كثيرًا، قال: يرافق هو وابن تيمية كثيرًا في سماع الحديث، وكان يقرر طريقة السلف من السنة، ويعضد ذلك بالمباحث النظرية، والقواعد الكلامية، وجرى بيننا مجادلات ومعارضات في ذلك، تركُها أسلمُ وأولى.
308 -
أبو بكر بن المعافري (1) الإمامُ، القاضي.
وهو فخر المغرب، إمام في الأصول والفروع، قال الشيخ العلامة أحمد بن محمد الشهير بالمَقَّري في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب": ومن شعره - وقد ركب مع أحد أمراء الملثمين - وكان ذلك الأمير صغيرًا، فهز عليه رمحًا - كان في يده - مداعبًا له، فقال:
يَهُزَّ عَلَيَّ الرمحَ ظبيٌ مُهَفْهَفٌ
…
لَعوبٌ بِأَلبابِ البريَّةِ عابثُ
فلو كانَ رمحًا واحدًا لاتَّقيته
…
ولكنَّه رمحٌ وثانٍ وثالِثُ
وقد اختلف حذاق الأدباء فى قوله: ثان وثالث، ما هما؟ فقيل: القَدَّ واللَّحظ، وقيل غير ذلك، انتهى. ذكره الحجازي في "المسهب"، وابن الإمام في "سمط الجمان"، والشقندي في "الطرف". سمع - يعني: الحديث -
(1) هو: أبو بكر بن العربي، محمد بن عبد الله بن محمد المعافري، (468 - 543 هـ)، مات بفاس.
بالأندلس ومصر والإسكندرية ودمشق من جماعة من الحفاظ، وكان ثاقب الذهن، ذكره ابن بشكوال في "الصلة"، وقال: الإمام الحافظُ، ختامُ علماء الأندلس، دخل الشام والعراق وبغداد، وسمع بها من كبار العلماء، ثم حج، ولما غرب، صنف "عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي"، وولي القضاء بإشبيلية، مولده سنة 468، وتوفي سنة 543، سمع ودرَّس الفقه والأصول، وجلس للوعظ والتفسير، وصنف في غير فن، والتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى أوذي في ذلك بذهاب كتبه وماله، فأحسن الصبر على ذلك كله، روى عنه خلق كثير، منهم: القاضي عياض، ترجم له المَقَّري ترجمةً حافلة حسنة، وقال: كنت نقلت من "المطمح" في حقه ما صورته: علمُ الأعلام، الطاهرُ الأثواب، الباهرُ الأبواب، الذي أنسى ذكاءَ إياس، وترك التقليد للقياس، وأنتج الفرع من الأصل، وغدا في الإسلام أمضى من النصل، ومن تصانيفه: كتاب "القبس في شرح موطأ ومالك بن أنس"، وكتاب "ترتيب المسالك في شرح موطأ مالك"، وكتاب "أحكام القرآن"، وكتاب "مشكل الكتاب والسنة"، وكتاب "النيرين في الصحيحين"، وكتاب "الرد على من خالف السنة من ذوي البدع والإلحاد". ومن فوائده: قوله: قال علماء الحديث: ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سمعَ مقالتي، فوعاها فأداها، كما سمعها" الحديث، قال: وهذا دعاء منه صلى الله عليه وسلم لحملة علمه، ولا بد - بفضل الله تعالى - من نيل بركته، انتهى. وإلى هذه النضرة أشار أبو العباس العزفي بقوله:
أهلُ الحديثِ عصابةُ الحق
…
فازوا بدعوةِ سَيَّدِ الخَلْقِ
فوجوهُهم زُهْرٌ مُنَضَّرَةٌ
…
لألاؤُها كتألُّقِ البرقِ
يا ليتني معهم! فيُدرِكَني
…
ما أَدركوهُ بها من السَّبْقِ
ومن فوائده: قوله: تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري حديثَ أبي ثعلبة (1) المرفوع: "إن من ورائكم أيامًا للعامل فيها أجرُ خمسين
(1) روى الترمذي وابن ماجه هذا الحديث بهذا اللفظ: عن أبي ثعلبة في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ =
منكم"، فقالوا: مِنْهم؟ فقال: "بل منكم؛ لأنكم تجدونَ على الخير أعوانًا، وهم لا يجدون عليه أعوانًا"، وتفاوضنا: كيف يكون أجرُ من يأتي من الأمة أضعافَ أجر الصحابة، مع أنهم قد أسسوا الإسلام، وعضدوا الدين، وأقاموا المنار، واقتحموا الأمصار، وحموا البيضة، ومهدوا المِلَّة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح (1): "لو أنفقَ أحدُكم كلَّ يومٍ مثلَ أُحدٍ ذهبًا، ما بلغَ مُدَّ أحدِهم، ولا نَصيفَهُ"، فتراجعنا القول، وتحصل ما أوضحناه في "شرح الصحيح"، وخلاصته: أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقُهم فيها أحد، ولا يدانيهم فيها بَشَر، وأعمالٌ سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلصها من شوائب البدع والرياء بعدهم، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر بابٌ عظيم هو ابتداء الدين، والإسلام هو أيضًا انتهاؤه، وقد كان قليلاً في ابتداء الإسلام، صعبَ المرام؛ لغلبة الكفار على الحق، وفي آخر الزمان أيضًا يعود كذلك، لوعد الصادق صلى الله عليه وسلم بفساد الزمان، وظهور الفتن، وغلبة الباطل، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق، وركوب من يأتي سَنَن من مضى من أهل الكتاب؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "لتركبنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ، لدخلتُموه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلامُ غريبًا، وسيعودُ غريبًا كما بدأ" [فطوبى للغرباء، رواه مسلم] فلا بد - والله تعالى أعلم بحكم هذا الوعد الصادق - أن يرجع الإسلام إلى واحد كما بدأ من واحد، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى إذا قام به قائم، مع
= أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، فقال: أما والله! لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرًا لا بدَّ لك منه، فعليك نفسك، ودع أمر العوام، فإن وراءكم أيام الصبر، فمن صبر فيهن، قبض على الجمرة، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، قالوا يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم".
(1)
رواه البخاري، عن أبي سعيد الخدري بهذا اللفظ: قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تسبوا أصحابي! فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مدَّ أحدهم، ولا نصيفه".
احتواشه بالمخاوف، وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه، كان له من الأجر أضعافُ ما كان لمن كان متمكنًا منه، معانًا عليه بكثرة الدعاة إلى الله تعالى، وذلك قولُه:"لأنكم تجدون على الخير أعوانًا، وهم لا يجدون عليه أعوانًا" حتى ينقطع ذلك انقطاعًا تامًا؛ لضعف الدين، وقلة اليقين، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا تقومُ الساعةُ حتى لا يُقال في الأرض: الله، الله"[رواه مسلم]- يروى برفعِ الهاءِ ونصبها -، فالرفعُ على معنى: لا يبقى موحَّدٌ يذكر الله عز وجل، والنصب على معنى: لا يبقى آمرٌ بالمعروف، وناهٍ عن منكر يقول: أخاف الله، وحينئذ يتمنى العاقل الموت، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا تقومُ الساعةُ حتى يمرَّ الرجلُ بقبرِ الرجل، فيقول: يا ليتني كنتُ مكانَه"، انتهى. وأنشد - رحمه الله تعالى - لبعض الصوفية:
امتحنَ اللهُ بذا خَلْقَهُ
…
فالنارُ والجنَّةُ في قَبْضَته
فهجرُهُ أعظمُ من نارِه
…
ووصلُه أَطْيَبُ من جَنَّتِه
ومن فوائده: أنه قال: كنت بمجلس الوزير العادل أبي منصور بن جهير، فقرأ القارىء {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44]، وكنت بظهر أبي الوفاء ابن عقيل إمام الحنبلية - بمدينة السلام -، وكان معتزلي الأصول، فلما سمعت الآية، قلت لصاحب لي كان يجلس على يساري: هذه الآية دليل على رؤية الله تعالى في الآخرة؛ فإن العرب لا تقول: لقيت فلانًا، إلا إذا رأته، فصرف أبو الوفاء وجهه مسرعًا إلينا، وقال: ينتصر لمذهب الاعتزال في أن الله لا يُرى في الآخرة، فقد قال الله تعالى {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]، وعندك أن المنافقين لا يرون الله تعالى في الآخرة، وقد شرحنا وجه الآية في "المشكلين"، وتقدير الآية: فأعقبهم هو نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه، فيحتمل ضمير - يلقونه - أن يعود إلى ضمير الفاعل في - أعقبهم - المقدر بقولنا: هو، ويحتمل أن يعود إلى النفاق مجازًا على تقدير الجزاء، انتهى. ومنها: قوله: إنه كان بمدينة السلام إمامٌ من الصوفية وأيُّ إمام، يعرف بابن عطاء، فتكلم يومًا على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه، فقام
رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة، فقال: يا شيخ يا سيدنا! فإذَنْ يوسفُ هَمَّ وما تَمّ، فقال: نعم؛ لأن العناية من ثَمّ، فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم، وفطنة العامي في سؤاله، والعالِم في اختصاره واستيفائه، ولذا قال علماؤنا الصوفية: إن فائدة قوله تعالى: {لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22] أن الله أعطاه العلم والحكمة أيام غلبة الشهوة؛ لتكون سببًا للعصمة، انتهى. ومنها: قوله: كنت بمكة مقيمًا في سنة 489، وكنت أشرب من ماء زمزم كثيرًا، وكلما شربته، نويت العلم والإيمان، ففتح الله تعالى لي ببركته في المقدار الذي يسره لي في العلم، ونسيت أن أشربه للعمل، ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله لي فيهما، ولم يقدر، فكان صفوي للعلم أكثر منه للعمل، وأسأل الله الحفظ والتوفيق برحمته، ومنها: قوله حكاية عن الجوهري: أنه كان يقول: إذا أمسكت علاقة الميزان بالإبهام والسبابة، وارتفعت سائر الأصابع، كان شكلها مقروءًا بقولك:"الله"، فكأنها إشارة منه سبحانه في تيسير الوزن إلى أن الله سبحانه مطلعٌ عليك، فاعدل في وزنك، انتهى. ومنها: قوله في تفسير قوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] قيل: إنها كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء، والناس يكرهون السفر يوم الأربعاء لأجل هذه الرواية، انتهى. قلت: وفي المغازي: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الأحزاب من يوم الاثنين إلى يوم الأربعاء - بين الظهر والعصر -، فاستجيب له، وهي ساعة فاضلة، فالآثار الصحاح تدل على فضل هذا اليوم، فكيف يدعى فيه التحذير والنحس بأحاديث لا أصل لها؟! وقد صور قوم أيامًا من الأشهر الشمسية ادّعوا فيها الكراهية، لا يحل لمسلم أن ينظر إليها، فحبسهم الله، انتهى. ومنها: وكان يقرأ معنا برباط أبي سعد على الإمام دانشمند من بلاد المغرب - خنثى ليس له لحية، وله ثديان (1) - وعنده جارية - فربُّك أعلمُ به، ومع طول الصحبة، عَقَلَني الحياء عن سؤاله، وبودي اليوم لو كاشفته حاله، انتهى. ومن شعره:
(1) ذكر الأستاذ المحقق محب الدين الخطيب في مقدمة الكتاب "العواصم من القواصم" الخنثى المذكور "الخنثى له لحية وله ثديان"، والله أعلم.