الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
63 - أبو الحسن، علي بن محمد بن خلف، المعافريُّ، القرويُّ، المعروف بابن القابسي
.
كان إمامًا في علم الحديث ومتونه وأسانيده، وجميعِ ما يتعلق به.
وكان للناس فيه اعتقاد كثير، وصنف في الحديث كتاب "المخلص" جمعَ فيه ما اتصل إسناده من حديث مالكِ بن أنس رضي الله عنه في كتاب "المؤطأ" رواية أبي عبد اللَّه، عبدِ الرحمن بن القاسم المصري، وهو - على صغر حجمه - جيدٌ في بابه.
كانت ولادته سنة 324، وحج سنة 353، وسمع كتاب البخاري بمكة من أبي زيد، ذكر الحافظ السلفي في "معجم السفر": أن شخصًا قال في مجلس القابسي وهو بالقيروان، ما أقصر المتنبي في معنى قوله:
يُراد من القلبِ نسيانُكم
…
وتأَبى الطَّباعُ على الناقِلِ
فقال له: يا مسكين! أين أنت من قوله تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
توفي في سنة 403، وبات عند قبره من الناس خلق كثير، وضُربت الأخبية، وأقبل الشعراء بالمراثي رحمه الله. وقابس: مدينة بأفريقية بالقرب من المَهْدِيَّة.
64 - أبو محمد، عليُّ بنُ أحمدَ بنِ سعيدِ بنِ حزمِ بنِ غالبِ بنِ صالحِ بنِ خلفٍ
(1).
وأولُ من أسلم من أجداده يزيدُ مولى يزيدَ بن أبي سفيان، وأصلُه من فارس، وجده خلفٌ أولُ من دخل الأندلس من آبائه.
ومولدُه بقرطبةَ من بلاد الأندلس يوم الأربعاء قبل طلوع الشمس، سلخَ
(1) ابن حزم الظاهري، ومن أشهر مصنفاته "المحلى"، طبع في 11 جزءًا، و"الفصل في الملل والأهواء والنحل"، 5 أجزاء.
رمضان سنة أربع وثمانين وثلاث مئة، في الجانب الشرقي منها.
وكان حافظًا عالمًا بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، بعد أن كان شافعيَّ المذهب، فانتقل إلى مذهب أهل الظاهر.
وكان متفننًا في علوم جمَّة، عاملًا بعلمه، زاهدًا في الدنيا بعد الرئاسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الملك، متواضعًا، ذا فضائل جمة، وتواليف كثيرة، وجمع من الكتب في علوم الحديث والمصنفات والمسندات شيئًا كثيرًا، وسمع سماعًا جمًّا.
وألف في فقه الحديث كتابًا سماه: "الإيصال إلى فهم الخصال" الجامعة لجمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع.
أورد فيه أقوالَ الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم من أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين - في مسائل الفقه والحجة لكل طائفة وعليها، وهو كتاب كبير.
وله كتاب "الإحكام لأصول الأحكام" في غاية التقصِّي وإيراد الحجج، وكتاب "في الإجماع ومسائله" على أبواب الفقه.
قال ابن بشكوال في حقه: كان أبو محمد أجمعَ أهل الأندلس قاطبةً لعلوم الإسلام، وأوسعَهم معرفةً، مع توسُّعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة والسير والأخبار، أخبرَ ولدُه أبو رافع الفضلُ: أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تأليفه نحو أربع مئة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة.
وقال الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن فتوح الحميدي: ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء، وسرعة الحفظ، وكرم النفس، والتدين، وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه، ثم قال: ومن شعره:
وَذي عَذَلٍ فيمن سَباني حسنُه
…
يُطيلُ مَلامي في الهوى ويقولُ
أفي حسنِ وَجْهٍ لاحَ لم ترَ غيرَه
…
ولم تدرِ كيفَ الجسمُ أنتَ قتيلُ
فقلتُ له أسرفتَ في اللوم ظالمًا
…
وعندي ردٌّ لو أردت طويلُ
ألم ترَ أنِّي ظاهريٌّ وأنني
…
على ما بدا حتى يقومَ دليلُ
وكان كثيرَ الوقوع في العلماء المتقدِّمين، لا يكاد يسلَم أحد من لسانه، فنفرت عنه القلوب، واستهدف لفقهاءِ وقته، فتمالؤوا على بغضه، وردُّوا قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنَّعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوَا عوامَّهم عن الدنوِّ منه، والأخذ عنه، فأقْصَتْه الملوك، وشردته عن بلاده، حتى انتهى إلى بادية لِبلى، فتوفي بها آخر نهار الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة 456، وقيل: إنه توفي في "منت ليشم"، وهي قرية ابن حزم المذكورة رحمه الله.
وكانت ولادته بعد طلوع الفجر، وقبل طلوع الشمس يوم الأربعاء سلخَ رمضان سنة أربع وثمانين وثلاث مئة، قاله ابن صاعد.
وفيه قال أبو العباس بن العريف: كان لسانُ ابن حزم وسيفُ الحجاج بنِ يوسف الثقفي شقيقينِ، وإنما قال ذلك؛ لكثرة وقوعه في الأئمة.
وكانت وفاة والده أبي عمر أحمد في سنة 402، وكان وزيرَ الدولة العامرية، وهو من أهل العلم والأدب والبلاغة والخير. وقال ولده أبو محمد المذكورُ: أنشدني والدي الوزيرُ في بعض وصاياه لي - رحمه اللَّه تعالى -:
إذا شئتَ أن تَحْيا غنيًا فلا تكنْ
…
على حالةٍ، إلا رضيتَ بِدونِها
وكان لأبي محمد المذكور ولدٌ نبيهٌ سريٌّ فاضلٌ يقال له: أبو رافع، الفضلُ بنُ أبي محمد، وكان في خدمة المعتمد بن عباد، صاحبِ إِشبيلية وغيرِها من بلاد الأندلس، وقُتل أبو رافع المذكورُ في وقعة الزَّلَّاقة مع مخدومه المعتمِد في سنة 479 الهجرية.
ولبله: بلدة بالأندلس، ومنت ليشم - بالشين -: قرية من أعمال لبله، كانت ملكَ ابن حزم، وكان يتردد إليها، واللَّه أعلم.
قال المقري في "نفح الطيب" في ترجمته الشريفة: قال ابن حيان وغيرُه: كان ابن حزم صاحبَ حديثٍ وفقهٍ وجَدَل، وله كتب كثيرة في المنطق والفلسفة، وكان شافعيَّ المذهب، يناضل الفقهاء عن مذهبه، ثم صار ظاهريًا، فوضع
الكتب في هذا المذهب، وثبت عليه إلى أن مات، وكان له تعلُّق بالأدب، وشنَّع عليه الفقهاء، وطعنوا فيه، وأقصاه الملوك، وأبعدوه عن وطنه.
قال صاعد في "تاريخه": كان ابن حزم أجمعَ أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعَهم معرفةً، مع توسُّعه في علم اللسان، والبلاغة، والشعر، والسير، والأخبار.
قال الذهبي: وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن، وسَعَة العلم بالكتاب والسنة، والمذاهب والمِلل والنِّحَل، والعربية والآداب، والمنطق والشعر، مع الصدق والديانة، والحشمة والسؤدد والرئاسة والثروة، وكثرة الكتب.
قال الغزالي: وجدت في أسماء اللَّه تعالى كتابًا لابن حزم يدل على عِظَم حفظه، وسيلانِ ذهنه، انتهى.
وعلى الجملة: فهو نسيجُ وحدِه لولا ما وُصف به من سوء الاعتقاد، والوقوع في السَّلف الذي اثار عليه الانتقاد، سامحه اللَّه تعالى.
قال محرر هذه السطور - عفا اللَّه عنه -: لم يكن موصوفًا بسوء الاعتقاد كما زعم المَقَّري، بل كانت عقيدته الكتابَ والسنة والمحصنة، وهذه فضيلةٌ لا يساويها فضيلة، وأما وقوعُه في السلف، فكان ذبًّا عن الإسلام، وهو لا ينافي العلم، وعمره اثنتان وسبعون سنة، وكان كثير المواظبة على التأليف، ذكر جملة منها المقري.
وقال ابن سعيد فيه: الوزير العالم الحافظ، وشهرته تغني عن وصفه، وذكر له المَقَّري أشعارًا كثيرة بديعةَ المبنى والمعنى.
وأثنى عليه الشيخ العارف محيي الدين بن عربي، صاحب "الفتوحات المكية" كثيرًا، وقال في الباب الثالث والعشرين ومئتين، في معرفة حال التفرقة في (صفحة 684 من النسخة المطبوعة بمصر) ما نصه: وهذه غايةُ الوصلة أن يكون الشيء عينَ ما ظهرَ، ولا يُعرف أنه هو كما رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقد عانق أبا محمدٍ بنَ حزم المحدِّثَ، فغاب الواحدُ في الآخرَ، فلم يُر إلا واحد، وهو
رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فهذه غايةُ الوصلة، وهو المعبر عنه بالاتحاد؛ أي: كون الاثنين عينا للواحد، وما في الوجود أمر زائد، انتهى. وللَّه در القائل:
تَوَهَّمَ واشِينا بِلَيْلِ مَزارِنا
…
فَهَمَّ ليسعى بينَنا بالتباعُدِ
فعانَقْتُهُ حتى اتَّحَدْنا تعانُقًا
…
فلمَّا أتانا ما رأى غيرَ واحدِ
وفي معناه ما قال الشاعر بالفارسية:
جذبه وصل بحديست من وتو
…
كه رقيب آمد وبرسيد نشان من وتو
ولا غرو في ذلك، فقد قلنا في كتابنا "الحِطَّة بذكر الصِّحاح الستة" ما نصه: إن أهل الحديث - كَثَّرَ اللَّه تعالى سوادَهم، ورفع في العالمين عمادَهم - لهم نسبةٌ خاصة، ومعرفة مخصوصة بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، لا يشاركهم فيها أحد من العالمين، فضلًا عن سائر الناس أجمعين، فإنهم لا يزال يجري صفاته العليا وأحواله الكريمة وشمائله الشريفة على لسانهم، ولم يبرح تمثالُ جماله الكريم وخيالُ وجهه الوسيم ونورُ حديثه المستبين وبركةُ العمل بسنته المطهرة يتردَّدُ في حاق وسطِ جَنانهم، فعلاقة باطنهم بباطنه العلي متصلة، ونسبةُ ظاهرهم بظاهره النقي مسلسلة، فهم أهلُ الودِّ والاتحاد حقًا، وأصحاب الوحدة المطلقة عدلًا وصدقًا، فأكرمْ بهم من كرام يشاهِدون عظمةَ المسمَّى حين يذكر الاسم، ويصلُّون عليه كلَّما مر ذكره الشريف بأحسنِ الحدِّ والرسم، وخاضوا في بحار العلوم المحمدية خوضًا، وصاروا به نحو المعلوم، خدموا الأحاديث الأحمدية خدمة، وعادوا معها عينَ المخدوم، انتهى.
وذكر له سليم الخوري في كتاب "آثار الأدهار" ترجمة حسنة، وقال: كان ابن حزم خبيرًا بالأحكام، بصيرًا بأمور السياسة، وقد أُحرقت داره في قرطبةَ لما استولى عليها البربرُ، وسُبيت نساؤه، ونُهبت أمواله، ونُفي منها، ثم عاد، وكان عبدُ الرحمن الرابعُ المرتضى قد ولي أمرَها، وحضر فيها الوقعة التي جرت بين عبد الرحمن وزاوي صاحب غرناطة، فأسر وبقي في أسر البربر مدة، ثم أطلقوه، وكان متشيِّعًا للأموية، لا يفتُر عن الدعوة إليهم، فانكشف أمرُه لخيران رئيسِ الصقالبة، فقبض عليه، ونفاه.
ولما ولي عبد الرحمن الخامس الملقبُ بالمستظهر أمرَ قرطبة، استوزر ابنَ حزم لنفسه، وقربه، ورفع منزلته، ثم قُتل عبد الرحمن المذكور، فقُبض على ابن حزم، واعتقل هو وابن عمه عبدُ الوهاب بن حزم، ثم أُطلق، فاعتزل السياسة والأَشغال المعايشة، وأكبَّ على الدرس والمراجعة، وأصاب من العلم نصيبًا جزيلًا، انتهى.
وذكرَ له مؤلفاتٍ كثيرةً سماها بأسمائها، قال: وقد أَحرق المعتضدُ بنُ عباد كتبه بإشبيلية. ومن شعره:
دَعُوني من إحراقِ رَقٍّ وكاغدٍ
…
وقولوا بعلمٍ كي يرى الناس مَنْ يدري
فإنْ تُحْرِقوا القِرْطاسَ لَمْ تحرقوا الذي
…
تَضَمَّنَهُ القِرطاسُ، بل هو في صَدْري
وفي كتاب "دائرة المعارف" للمعلم بطرس البستاني في ترجمته: ومن شعره:
لَئِنْ أَصبحتُ مرتحلًا بجسمي
…
فَرُوحي عندَكُم أبدًا مقيمُ
ولكنْ للعيانِ لطيفُ معنًى
…
لهُ سألَ المُعاينةَ الكَليمُ
وله أيضًا في المعنى:
يقول أخي شَجاكَ رحيلُ جسمٍ
…
ورُوحُك ما لَها عَنَّا رَحيلُ
فقلتُ لهُ المعاينُ مطمئنٌّ
…
لذا طلبَ المُعاينَةَ الخَليلُ
قال: وكانت بينه وبين أبي الوليد الباجي مناظراتٌ وماجرياتٌ يطولُ شرحها.
* ولا يخفى عليك أن كتاب "آثار الأدهار"، و"دائرة المعارف"، و"الروضة الغناء في دمشق الفيحاء"، كل ذلك من مؤلفات العلماء المسيحية، ولا مضايقة في نقلنا عنها؛ لأنها تشتمل على معارف صحيحة، ونقُول ثابتة من كتب الإسلام في تراجم الأعلام والآثار، و"الدائرة" قد احتوت على غالب طبقات العلماء، قلَّ من فات عنهم ترجمته.
وإنما أخذنا منهما في هذا الكتاب نبذة يسيرة، ولو ذهبنا نأخذ منهما الكثير،