الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونصب سرادقة بحيث كأن منها بمرأى ومسمع وصار من عساكره الأسود الخوادر، يتناوبون حصارها ما بين وارد وصادر، وهم يرفعون الجسر بالنهار، فيأمنون مكايد القتال والحصار لأنه قد تقدم أنه لميكن حواليها مكان للقتال، ولا مفحص قطاة يتمكن فيه للنضال، فكانوا يرمونها بالنهار على بعد بسهام الأحداق، ويرضون منها بنظرة من بعيد كقانع العشاق، فإذا أجنهم الليل، شمروا إلى جهة مخيمهم الذيل، لأنه لم يمكنهم حواليها مبيت ولا مقيل، فتضع النصارى الجسر ويرومون إلى حاجاتهم السبيل، فلما لاح له منها أمارات الحرمان، وبان له أن أمل ظنه من فتحها قدمان، كما قلت
وأعظم شيء في الوجود تمنعاً
…
نتاج مرام من عقيم زمان
صمم العزيمة على الرحيل، ولكن خاف العار فطلب لهذه المسألة الدليل والتعليل
ذكر سبب أخذه لهذا الحصن المنيع
وبيان معاني ما جرى في ذلك من صنع بديع
وكان في عسكره شابان نديدان، أسدان حديدان، يتشابهان في الخلق والخلق، لم يكن بينهما في الرجولية والشجاعة كثير فرق، يتجاريان في كل وقت في ميدان المناقب لإحراز قصب السبق، فكانا كفتي ميزان، وفي مضمارها فرسي رهان فاتفق أن أحدهما صادف علجاً من الكرج، في الجرأة كالأسد وفي الجثة كالبرج، فنازله ثم قتله، وقطع رأسه وإلى تيمور حمله، ففخم شأنه، وأعلى على الأقران مكانه، فأثر ذلك في نديده، فكأنه قطع حبل وريده ثم افتكر في شيء يصنعه، يضع من نديدته ويرفعه، وكان اسمه بير محمد ولقبه قنبر، فلم ير أكبر من مراقبة ذلك الجسر ولا أشهر، فاعتمد على الله سبحانه وحده، واستكمل ماله من أهبة وعدة، ورصد نجمه في بعض الليالي، ولطأ في مكان خالي، ولا زال يترقب النجوم، ويترصد عليهم طوالع الانقضاض والهجوم، ويشير تلك القنن بيديه ويذرع، ويمشي تارة على بطنه وأخرى على أربع إلى أن طرح الضوء نقابه، وسلخ الجو إهابه، ورجع النصارى إلى كسرهم، وتعاونوا على رفع جسرهم، طفر بير محمد إلى الجسر فقطع حباله، وتابع عليهم
من حنيته نباله، ولم يمكنهم من رفعه، ولا غير موضوعه عن وضعه، فتراكموا عليه بالنبال والأحجار، وأرسلوا عليه من ذلك السماء المدرار، وهو لا يرد عما هو بصدده ولا يلتفت إلى حينه، ويتلقى ما يصدر من مراسيم نبالهم وأحجارهم بالقبول على رأسه وعينه
ولم يزل على المكافحة والمناضحة، والمكاشحة والمكالحة، حتى تعالى النهار، وعض الكون من فعاله أنملة العجب وأخذ عين المكان الانبهار وكان المحاصرون لها كفوا عن القتال، وتيمور قد عزم كما ذكر على الترحال، وكان سرادقه منصوباً بمكان عال، فناداه لسان الفتح، وخاطبه منادي النجح
لا تيأسن من مطلب
…
قطع الورى أسبابه
إن أغلقوا أبوابهم
…
فالله يفتح بابه
فتراءى على باب القلعة من بعد كأن ناس يتواثبون، وأشباح طائفة يتكالبون ويتضاربون، فقال لقبيله أي أولى النجدة والعون، إني أرى ما لا ترون، فامعنوا معي النظر، ثم أسرعوا نحو المعتكر،
وأتوني بحقيقة الخبر فاندفعوا يستشرفون لذلك خبرا، ويستكشفون لسرائره سترا، وهم ما بين عاد من النمر أعدى، وجار من الأسد أجرى، وكل منهم في عدوه وعدوانه تأبط شرا، وما زالوا يتجارون على ذلك أرسالاً وتترى، كأنهم الشياطين نهاض ووثاب وعداء وهلم جرا، حتى أدركت مقدمتهم بير محمد، وهو في غمرات الموت بناره يتوقد، وقد صار لسهامهم غرضا، وكاد جوهره أن يصير عرضا فلما رآهم من بعيد عاش، وحصل له الانتعاش، وزال عنه الارتعاش، وتلاحقت بهم الصناديد، فكعت عنهم تلك الأفسال الرعاديد، وحين عجزوا عن رفع الجسر وولوا الأعقاب، عزموا أن يدخلوا الحصن ويوصدوا الباب، فاختلط بير محمد معهم، ودخل الحصن ومن إيصاده منعهم، فدقوه بالسيوف، ورضوه بأحجار الحتوف، وهو يأبى إلا المدافعة ويجتهد في مراجعة الممانعة، لا يشعر بما يناله من رض الحجر وجراح الحديد، كأنه متأله عراه الفناء في الفناء في التوحيد، إلى أن غشيتهم تلك الليوث، واندفقت عليهم بصواعق الغضب من سماء النجدة سيول الغيوث، فتشبث أسود المنايا بتلابيبهم، وخلصوا بير محمد