الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من جملتها سارية شمخت ارتفاعاً، نحو من خمسة عشر ذراعا، وغلظ جسمها وبدنها، فلا يقدر الرجل " على أن " يحتضنها، وباقي السواري بها قد حطن، قيل إنها شجرة قطن، ولها خاصية عجيبة ظريفة غريبة من كان به وجع الضرس يضع عليه مقدار حبة من خشب ذلك البرس، فإنه ينفعه، ويسكن في الحال وجعه، جربته فصح، ويسأل من يدعي رؤية سمرقند عما رأى فيها من العجائب، وشاهده من علامات الطرائف والغرائب، فإن أخبر برؤية هذه السارية الفائقة، كانت رؤياه صادقة، واعتد له بصدق الكلام، وإلا كانت رؤيته أضغاث أحلام
فصل
سمرقند ليس فيها كيل ولا صاع يصان، ولا يجري على جنس المكيلات فيها بالكيل حسبان، وإنما معرفة حساب ذلك عندهم بالميزان، ورطل سمرقند أربعون أوقية، كل أوقية بالمثاقيل مائة، فيكون رطلهم أربعة آلاف مثقال، كل مثقال درهم ونصف من غير زيادة ولا إخلال، فعلى هذا رطلهم بالدمشقي عشرة أرطال حكى لي مولانا
محمود الحافظ المحرق الخوارزمي، ولقب بالمحرق لأن سهام ترجيعاته كانت تصيب حبات الحشاشات إذ ترمى، ويفوق رنات أوتارها نحو آذان القلوب فتصمى ولا تنمى، فإن صدعت من القلوب حجراً، تطاير من اقتداحها في الأرواح شررا، فيحرق برناته الأرواح، ويشعل بنغماته الأشباح قال استصحبني تيمور في بعض أسفاره، فكنت ملازم خدمته في ليله ونهاره، فنزلت عساكره على حصن تحاصره، وضرب خيمته على مكان عال، ليشرف منه على القتال، ويتفرج في صنع الرجال، ففي بعض الزمان، حضرت عنده أنا ورجلان، وكان قد حصل له حمى، أورثته كرباً وغما، وكانت سماء النزال ذات حبك واحتباك، ورماح القتال في التواء واشتباك فأراد أن يطالع أحوالهم، ويشاهد أفعالهم، وأفرطت شهوته في ذلك إلى العيمة فقال احملوني إلى باب الخيمة، فدخل ذلك الرجلان تحت إبطيه، وأوقفاه بباب الخيمة وأنا بين يديه، فجعل يشاهد حربهم، ويتميز طعنهم وضربهم، ثم أراد أن يأمرهم بشيء، فقال لي يا محمود إلي فأسرعت إلى يده، ودخلت تحت عضده، فأرسل أحد
الرجلين إلى عسكره يأمرهم بما عن " له " من عجره وبجره فكأنه لم يبر عليلا، ولم يرو غليلا، فقال لنا دعاني، وعلى الأرض ضعاني، فوضعاه فسقط كأنه رمة بالية، أو لحمة على بارية، ثم أرسل ذلك الرجل الآخر إليهم، وأمرهم بما اقتضته آراؤه، وأكد عليهم، فبقيت أنا وهو وحدنا، ولم يبق أحد عندنا، فقال لي يا مولانا محمود، انظر إلى ضعف بنيتي، وقلة حيلتي، لا يد لي تقبض، ولا رجل تركض، لو رماني الناس هلكت، ولو تركوني وحالي ارتبكت، لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، ولا أجلب خيراً ولا أدفع شراً ثم تأمل كيف سخر الله تعالى لي العباد، ويسر لي فتح مغلقات البلاد، وملأ برعبي الخافقين، وأطار هيبتي في المغربين والمشرقين، وأذل لي الملوك والجبابرة، وأهان بين يدي كل الأكاسرة والقياصرة، وهل هذه الأفعال إلا أفعاله، وهذه الأعمال إلا أعماله؟ ومن هو أنا غير سطيح ذي فاقة، لا باب لي في الدخول إلى هذه الأفعال ولا طاقة، ثم بكى وأبكاني، حتى ملأت بالدموع أرداني، فانظر إلى هذا الوبر كيف سلك بهذا القول مسلك القائلين بالجبر، وأنشدوا فيه " بالفارسي بيتين وهما "
ينم تنى ملك جهانرا كرفت
…
حشم كشا قدرت يزدان ببين
باي نه وتخت بزير قدم
…
دست نه وملك بزير نكين
ترجمته فقلت دوبيت
قد أظهر قدرة بخافي حكمه
…
من ملك شقى الدنا في قسمه
لا كف له والملك في خاتمه
…
لا رجل له والتخت موطئ قدمه
فصل
وأما عساكره وطرائق سلوكهم، فإنهم على دين ملوكهم، كانوا استدرجوا من حيث لا يعلمون، ورزقوا من حيث لا يحتسبون، مسخراً لهم خفيات الدفائن، مفتوحاً عليهم خبيات الخزائن، ميسراً لهم مكامن المطالب والمعادن، كل طرف منهم قد جال وسطا، وصار بطرق اللوم أهدى من القطا، قد دربوا الأمور، وجربوا أحوال الدهور، وقاسوا معاصر العصور، وكابدوا المكايد، وعالجوا الشدائد، ومارسوا الأشياء، وذاقوا الناس والدنيا، وعرفوا مداخل كل مأزق ومخارجه، وأدركوا مداركه ومعارجه، لا يدهيهم داهية،
ولا يطغيهم طاغية، ربما يمرون بقفراء ويجيزون بمهمه صحراء
لا يفزع الأرنب أهوالها
…
ولا ترى الضب بها ينجحر
فيقف بعضهم ثم تراه، ينظر إلى أرض ذلك المكان وثراه، ثم يقول ليس هذا الثرى من هذا البرى، ثم ينزل عن دابته، ويأخذ من ذلك التراب ويشمه، ثم يلتفت إلى جهاته الأربع فيقصد منها جانباً ويؤمه، ثم لا يزال يسير بمن معه من الأعوان، حتى يصلوا إلى مكان، فيحفروه ويخرجوا كمين الدفائن، وما في ذلك " المكان " من المغلات والخزائن وكذلك إذا وصلوا إلى عمائر، أو مروا على مقابر، يتوجهون إلى الخبء كأنهم وضعوه بأيديهم، أو أوحت شياطينهم ذلك إليهم، وربما يجيئون إلى مقام، مر على ساكنه فيه أيام، ومضى عليه فيه شهور وأعوام " وفيه شيء مطمور، لم يكن لصاحبه وساكنه به شعور " فبمجرد دخولهم إليه، يفتح ذلك إليهم ويطلعون عليه، وحين يطلع ساكنه على ذلك يأكل ندامة وحسرة يديه وكان لهم درايات في دهرهم عجيبة، وسهام آراء في عمرهم مصيبة،
وكانوا يحملون البقر ويركبونها، ويسرجون الحمر ويلجمونها، ويسابقون على ذلك أصحاب الخيل العراب إلى " إحراز " قصبات المغانم فيسبقونها ويطعمون الجمل، لحم الكلب والحمل، ويعتاضون عن شعير الفرس، بالقمح والأرز والدخن والزبيب والعدس، وربما أعوزهم ذلك في السفر، فأطعموا دوابهم لحاء الشجر حكى " لي " القاضي برهان الدين إبراهيم بن القوشة الحنفي المذكور رحمه الله تعالى، أن قازان والتتار، لما قدموا هذه الديار، خرج من له قوة الفرار فاراً من الشرور، كما فعلوا في قضية تيمور، ومن جملتها تاجر بالصالحية، كان في عيشة رخية، وله أموال وافرة وفية، جمع ماله من صامت المال، ووضعه في قدرة فوال، ثم عمد إلى بركة ماء فحفرها، ووضع تلك القدرة تحتها وطمرها، ثم ردها إلى مبانيها وأعاد مياهها إلى مجاريها، وحين استتب الوثوب، وقدمت الدواب للركوب، قالت له امرأته نسينا قرطي، وأخاف أن يحدث عليهما في الطريق شيء، فانظر لهما مكانا، وحصل لنا بذلك أمانا، فقال أما الآن فلا مكان، ثم أخذهما ووضعهما في سقف سقيفة، على خشبة لطيفة ثم ركبا،