الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما جرى، فساعة وصول خدايداد إليهم قبضوا عليه وأرسلوا إلى خليل سلطان ينهون صورة الحال إليه وقالوا تعلم ما بيننا وبينك من خالص الوداد، وإنا عالمون بما وقع بينك وبين خدايداد، وأنه كان السبب في تبددك، وخروج ملكك من يدك وقد جاء يستمدنا لك، فارسم لنا ما بدا لك، فإن رسمت قتلناه وإن أشرت أمددناه، وفي الجملة مهما أمرتنا به امتثلناه
فأرسل يقول قد علمتم كيف آذاني، ومزق عرضي وأخزاني، وأخرجني من ملكي وسلطاني، وغربني عن أهلي وإخواني، وأذلني إذ رأسني بمفارقة حبي وأوطاني، والآن فقد جعلني ترساً، يتقي بي الحوادث والبأسا، وقد عرفتم كيف يريد أن يتصرف، وعلى كل حال فالعارف لا يعرف، ومع هذا مهما رأيتم في ذلك من المصلحة فافعلوه، ففي الحال قطعوا رأسه وإليه أرسلوه
ذكر عود خليل سلطان من ممالك أندكان
وقصده عمه شاه رخ، ولعبه بالنفس مع ذلك البرخ
واستمر خليل سلطان، في ذلك المكان، وأطراف تركستان، يرسل بالفارسي الأشعار الفراقية، وينشئ في حبيبته ما ينسي القصائد
الزيدونية، ويذكر ما هو فيه من الغربة، وما جرى عليه من الفراق والكربة، فيصدع بذلك القلوب ويفتت الأكباد، إلى أن مل المقام في تلك البلاد، فنفض منها ذيله وضم رجله وخيله، وقصد عمه، وركب الطريق وأمه، فأكرم عمه مثواه، ولم يذكر له أخبار ما أنشاه، وضم إليه حبيبته، ولم إلى خليل خليلته، وقرر قاعدة ذلك الإقليم وشيده، وولى فيه أولوغ بك ولده وقفل إلى خراسان، مستصحباً معه خليل سلطان، ثم ولاه ممالك الري، فلم يقم بها إلا أدنى شيء، وانتقل إلى رحمة الله، وكأن عمه دس له شيئاً فسقاه، فدفن بمدينة الري، وطوى نشر ذلك الحاتم أي طي، وحين وقعت شاد ملك في هذا الخطب الجليل، واشتعلت أحشاؤها بنار الخليل، قالت لا ذقت فقدك ولا عشت بعدك، وأنت ورنت، وأنشدت وغنت
كنت السواد لمقلتي
…
فبكى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت
…
فعليك كنت أحاذر
ثم أخذت خنجراً فوضعته في لبتها، واتكأت عليه بقوتها، فنفذ من قفاها، وأحرقت بنارها كل من رآها، فدفنا في قبر واحد، وأمسى لسان حالهما ينشد
أجارتنا إنا غريبان هاهنا
…
وكل غريب للغريب نسيب
وصفا لشاه رخ ممالك ما وراء النهر وخراسان، وخوارزم وجرجان، وعراق العجم ومازندران، وقندهار والهند وكرمان، وجميع بلاد العجم إلى حدود أذربيجان، وإلى يومنا هذا أعني سنة أربعين وثمانمائة، ونسأل الله تعالى حسن العاقبة بمنه ولطفه والحمد لله رب العالمين، " وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم "" فصل " في صفات تيمور البديعة وما جبل عليه من سجية وطبيعة وكان تيمور طويل النجاد، رفيع العماد، ذا قامة شاهقة، كأنه من بقايا العمالقة، عظيم الجبهة والرأس، شديد القوة والبأس، عجيب الكون، أبيض اللون، مشروباً بحمرة، غير مشوب بسمرة، فخيم الأطراف، عريض الأكتاف، غليظ الأصابع،
سميك الأكارع، مستكمل البنية، مسترسل اللحية، أشل، أعرج اليمناوين، عيناه كشمعتين غير زهراوين، جهير الصوت، لا يهاب الموت، قد ناهز الثمانين، وهو مع ذلك بجأش مكين، وبدن مستمسك متين، صلباً شهما، كأنه صخرة صما لا يحب المزاح والكذب، ولا يستميله اللهو واللعب، يعجبه الصدق، ولو كان فيه ما يسوءه، ولا يأسى على ما فات ولا يفرح بما يجيئه، وكان نقش خاتمه " راستي رستي "، يعني صدقت نجوت، وميسم دوابه وسرة سكته على الدرهم والدينار ثلاث حلق هكذا لا يجري غالباً في مجلسه شيء من الكلام الفاحش ولا سفك دم، ولا من سبي ونهب وغارة وهتك حرم، مقداماً شجاعاً مهيباً مطاعا، يحب الشجعان والأبطال، ويستفتح بهم أقفال الأهوال، ويفترس بهم أسود الرجال، ويستهدم بهم وبصدماتهم قلل الجبال، ذا أفكار مصيبة، وفراسات عجيبة، وسعد فائق، وجد موافق، وعزم بالثبات ناطق، ولدى الخطوب صادق قلت
فكم قدحت آراؤه زند فتنة
…
حمته لدى البأسا وأورت قبائلا
محجاجاً دراكا للمحة " واللمزة "، مرتاضاً مستيقظاً للرمزة، لا يخفى عليه تلبيس ملبس، ولا يتمشى عليه تدليس مدلس، يفرق بين المحق والمبطل بفراسته، ويدرك الناصح والغاش بدربة درايته، يكاد يهدي بأفكاره النجم الثاقب، ويستتبع بآراء فراسته سهم كل كوكب صائب قلت
يشاهد أعقاب الأمور بعقله
…
كما شاهد المحسوس بالعين ناظر
إذا أمر بأمر أو أشار بشيء لا يرد عنه، ولا يثنى عنان عزيمته عن شيء منه، لئلا ينسب إلى قلة الثبات، وركاكة الرأي والحركات قلت
إذا قال قولاً أو أشار إشارة
…
ترى أمره في النص قاطعاً
وكان يقال له في ألقابه صاحب قران الأقاليم السبعة وقهرمان الماء والطين، وقاهر الملوك والسلاطين يحكى أن قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون المالكي قاضي القضاة بمصر كان صاحب التاريخ العجيب، والسالك فيه الأسلوب الغريب، على من ذكر لي
من رآه، واطلع على لفظه ومعناه، من الأذكياء المهرة، والأدباء البررة، مع أني لم أره، وكان قد قدم الشام، مع عساكر الإسلام، وحين ولت العساكر الأدبار، أنشبته في مخالب تيمور الأقدار، قال له في بعض مجالسه، وقد أنس بتوانسه بالله يا مولانا الأمير ناولني يدك وهي مفتاح فتوح الدنيا حتى أتشرف بتقبيلها وقال له أيضاً لما أراد أن يستصحبه معه، وقد سرد عليه شيئاً من تواريخ ملوك الغرب وكان تيمور مغرماً باقراء التواريخ واستماعها، فأعجبه ذلك غاية الإعجاب، " ورغب منه في الاستصحاب " يا مولانا الأمير مصر خرجت عن أن يتولى فيها نائب غيرك، أو أن يجري فيها غير أمرك، ولي فيك عوض عن طريفي وتلادي، وأهلي وأولادي ووطني وبلادي، وأصحابي وأخداني، وأقاربي وخلاني، وملوك الناس، وعن كل ظهر ورأس، بل وعن كل الورى، إذ كل الصيد في جوف الفرا، وما أتأسف ولا أتلهف، إلا على ما مضى من عمري، وانقضى من عصري، كيف تقضى ذلك في غير خدمتك، ولم تكتحل عيني بنور طلعتك؟ ولكن القضاء جاز، وسأستبدل الحقيقة
بالمجاز، وما أولاني أن أكرر على لساني، قوله
جزاك الله عن ذا السعي خيراً
…
ولكن جئت في الزمن الأخير
فلأستأنفن في ذراك عمراً ثانياً، ولأعدن الزمان بإبعادي عن عدوتك عادياً، ولأتداركن ما مضى من عمري، بصرف ما بقي في خدمتك، والتشبث بغرزك، ولأحسبن ذلك أعز أوقاتي، وأعلى مقاماتي، وأشرف حالاتي ولكن ما يقصم ظهري، إلا كتبي التي أفنيت فيها عمري، وصرفت جواهر علومي في تصنيفها، وأظمأت نهاري وأسهرت ليلي في ترصيفها، وذكرت فيها تاريخ الدنيا من بدئها، وسير الملوك شرقيها وغربيها، ولأن ظفرت بها لأجعلنك واسطة عقدهم، وخلاصة نقدهم، ولأطرزن بسيرك خلع دهرهم، ولأصيرن دولتك هلال جبين عصرهم " إذ أنت أبو المقاحم، والبازغ بدر نصره في شرق الغرب من دياجير الملاحم، والمكاشف به على لسان كل ولي، والمشار إليه في الزوايج والجفر المنسوب إلى أمير المؤمنين علي، وصاحب القرآن المنتظر في آخر الزمان " وهي في القاهرة فلو حصلت عليها
ما فارقت ركابك، ولا هجرت أتعابك، والحمد لله الذي رزقني من يعرف قيمتي، ويحرز خدمتي، ولا يضيع حرمتي مع كلام فصيح صادع، بديع بليغ خالب خادع " فاهتزت فرحاً أعطافه، وتراقصت مرحاً أطرافه " وأعجبه ذلك وأغراه ميله إلى كتب التواريخ والسير، واستهواه حبه معرفة أحوال الملوك الذي ذكر، حتى شده عما خلبه، بسحر هذا البيان البديع وسلبه ثم إنه استوصفه بلاد الغرب وممالكها، واستوضحه أوضاعها ومسالكها، وقراها ودروبها، وقبائلها وشعوبها، كما هو دأبه وشأنه، والقصد في ذلك امتحانه، لأنه لم يكن محتاجاً ذلك، إذ في خزائن تصوره " صور " جميع الممالك، وإنما أراد بذلك معرفة مقدار علمه، وكيفية إبداء نصحه له وكتمه، فأملى كل ذلك من طرف لسانه، كأنه يشاهده وهو جالس في مكانه، وشرح تلك الأمور، كما في خاطر تيمور ثم قال له كيف تذكرني وبختنصر مع الملوك الأكابر؟ ولم ننل في النسب تلك المفاخر، وما نحن من يعاسيب النحل فأنى تعبينا مع الفحل؟ فقال أفعالكما البديعة أوصلتكما إلى تلك المنزلة الرفيعة فأعجبه هذا الكلام، وقال لجماعته
اقتدوا به فإنه إمام ثم أخذ تيمور يخبر القاضي بما وقع في بلاده، وما جرى بين ملوك الغرب وأجناده، ولا زال يذكر له أخبار الناس حتى سرد عليه أخبار متعلقيه وأولاده، حتى تحير القاضي من إملائه، وقال إن الشيطان ليوحي إلى أوليائه ثم إن تيمور عاهد القاضي أن يتوجه إلى القاهرة، ويأخذ أهله وأولاده وكتبه الزاهرة، ولا يلبث أكثر من مسافة الطريق، ويرجع إليه بأمل فسيح وعهد نبيل الأماني وثيق، فتجهز إلى صفد، واستراح من ذلك النكد
" فصل " وكان تيمور محباً للعلماء، مقرباً للسادات والشرفاء، يعز العلماء والفضلاء إعزازاً تاماً، ويقدمهم على كل أحد تقديماً عاماً، وينزل كلاً منهم منزلته، ويعرف له إكرامه وحرمته، وينبسط إليهم انبساطاً ممزوجاً بهيبته، ويبحث معهم بحثاً مندرجاً فيه الإنصاف والحشمة، لطفه مندمج في قهره، وعنفه مندرج في بره
متفرق الطعمين مجتمع القوى
…
فكأنه السراء والضراء
وقيل
مر المذاق على أعدائه بشع
…
حلو الفكاهة للأصحاب كالعسل
وكان مغرماً بأرباب الصناعات والحرف، أي صناعة كانت إذا كان لها خطر وشرف، يبغض بطبعه المضحكين والشعراء، ويقرب المنجمين والأطباء، ويأخذ بقولهم، ويصغي إلى كلامهم، ملازماً للعب بالشطرنج لكونه منقحاً للفكر، وكانت علت همته عن الشطرنج الصغير، فكان يلاعب بالشطرنج الكبير، ورقعته عشرة في إحدى عشرة، وفيه من الزوائد جملان وزرافتان وطليعتان ودبابتان ووزير، وأشياء غير هذه وسيأتي وضعه والشطرنج الصغير بالنسبة إلى الكبير كلا شيء، مواظباً لإقراء التواريخ وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسير الملوك وأخبار من مضى من الأنام، سفراً وحضراً، كل ذلك بالفارسي، ومما تكررت قراءتها عليه، وطنت نغماتها على أذنيه، قبض ذمام ذلك وملكه، حتى صارت له ملكة، بحيث أن قارئ ذلك إذا خبط، رده إلى الصواب من الغلط، وذلك لأن التكرار، يفقه الحمار وكان أمياً لا يقرأ شيئاً ولا يكتب
ولا يعرف شيئاً من العربية، ويعرف من اللغات، الفارسية والتركية والمغولية، حسب لا غير وكان معتقداً للقواعد الجنكيزخانية، وهي كفروع الفقه من الملة الإسلامية، وممشياً لها على الطريقة المحمدية، وكذلك كل الجغتاي وأهل الدشت والخطا وتركستان وأولئك الطغام، كلهم يمشون قواعد الملعون جنكيزخان على قواعد الإسلام ومن هذه الجهة أفتى كل من مولانا وشيخنا حافظ الدين محمد البزازي رحمه الله، ومولانا وسيدنا وشيخنا علاء الدين محمد البخاري أبقاه الله، وغيرهما من العلماء الأعلام، وأئمة الإسلام، بكفر تيمور وبكفر من يقدم القواعد الجنكيزخانية على الشريعة الإسلامية، ومن جهات أخرى أيضاً وقيل أن شاه رخ أبطل التوراة والقواعد الجنكيزخانية، وأمر أن تجري سياستهم على جداول الشريعة الإسلامية، وما أظن لذلك صحة فإن ذلك عندهم قد صار كاطلة الصريحة، والاعتقادات الصحيحة، ولو اتفق أنه يجمع مرازبه وموابذه في دسكرة، ويغلق أبوابها ويطلع عليهم من منظرة، ويفتح عليهم شيئاً من هذا الباب لحاصوا حيصة الحمر إلى الأبواب
" فصل " وكان فريد الطور، بعيد الغور، لا يدرك لبحر تفكيره قعر، ولا يسلك في طود تدبيره سهل ولا وعر، وقد أقعد في ممالكه نواميسه، وأقام في سائر الممالك جواسيسه، وهم ما بين أمير كأطلاميش أحد أعوانه، وفقيه فقير كمسعود الكمججاني عين أصحاب ديوانه، وكان ذلك في القاهرة المعزية، وهذا بدمشق أحد الصوفية بالسميساطية، وما بين متسبب وتاجر، ومصارع شرير وبهلوان فاجر، ومكد وصنائعي، ومنجم وطبائعي، وقلندري قوال، وحيدري جوال، وبحري سباح، وبري سياح، وسقاء ظريف، وحذاء لطيف، وسعلاة دلالة، وشيخة محتالة، كدلة المحتالة، ومن مرت به التجارب، وضرب أكباد الإبل مشارق ومغارب، وبلغ فيما هو بصدده من المكر والاحتيال، منزلة الكمال، وألف بلطيف ختله ودهاءه بين الماء والنار والهدى والضلال، وجاوز في الحيل والكيد ساسان وأبازيد وألزم في حكمته وجدله ابن سينا وأسكت في منطقه اليونانيين إذ عكس عليهم القضايا، فجمع بين المتنافيين، وألف بين المتعاديين
قلت
فاق من قاد للعدا كل جيش
…
بكلام ثنى البعيد قريبا
مزج النقل في القياد بعقل
…
فهدى عاشقاً وأهدى حبيبا
فكانوا ينهون إليه حوادث الأطراف وأخبارهم، ويكتبون إليه ما قدموا وآثارهم، ويذكرون " لديه " أوزانهم وأسعارهم، ويصفون منازلهم وأمصارهم، ويصورون سهولهم وأوعارهم، ويخطون بيوتهم وديارهم، وبينون مدى ذلك بعدا وقربا، وما في ذلك ضيقاً ورحبا، وجهات وأقطاراً شرقاً وغرباً، وأسامي الأمصار والقرى، وألقاب المنازل والذرا، وأهل كل مكان ورؤساءه، وأمراءه وكبراءه، وفضلاءه وشرفاءه، وأغنياءه وفقراءه، واسم كل ولقبه، وشهرته ونسبه، وحرفته وسببه، فكان يطالع بفكره ذلك، ويتصرف بتفكيره في سائر الممالك وكان إذا حل ببلد، واجتمع به من أعيانها أحد، شرع يسأله عن فلان، وفلان، وما جرى لفلان في الوقت الفلاني مما زانه من أمر وشأن، وإلام آلت تلك الواقعة، وكيف فعل فلان وفلان فيما كان بينهما من المنازعة، فيبهت ذلك الرجل ناظراً، ويظن أن تيمور كان في تلك
الحالة حاضراَ وكان كثيراً ما يطرح عليهم أغاليط المسائل، ويحكي صور مباحثات جرت لهم ورسائل، فيتصورون أن له في ذلك العم قدمه، أو كان منه للعلماء خدمة، ولذلك تصور بعض الناس، أن ذلك الوسواس الخناس، كان مقيماً بالسلاوية، وبعض بالغ حتى قال إنه رآه في فقراء السميساطية " فصل " ومما يحكى عن فراسته، أنه لما نزل على سيواس، وقد حصنها منه أولوا النجدة والباس، قال لعسكره اعملوا الحيلة، إنا فاتحوا هذه في ثماني عشرة ليلة، فكان كذلك فلا شك أن ذلك الأعرج، كان ملهماً أو مستدرج، وكان ذا مغالطات، وحركات لها مغاورات، إذا دهمه أمر يتعاطى دفعه وهو مظهر أنه راغب فيه، وربما يظهر الرغبة عن شيء وهو مريد حصوله ومشتهيه، وقد مر نظائر هذا كله فمن مغالطاته أنه إذا كان له في مكان روم، أو أراد أن ينزل بساحة قوم، قصد الإخفاء والتعمية، وطلب الإيهام والتورية، وبحر عسكره لا يخلو من تمساح متجسس، أو سرطان متحسس، ولو لم يكن
لأحد في عسكره عين، فإن بزوغ العين، لا يخفى على ذي عين، فإنه يجمع أركان دولته، وأعيان مملكته، وذوي آرائه ومشورته، بحيث أنه لا يتخلف منهم أحد، ولا يجزي مولود عن والد ولا والد عن ولد، ثم يظهر لهم خفية أموره، ويطلب منهم المشورة في جهة مسيره، ويطلق لهم عنان الكلام، ويقول لا تثريب على من خاض في ذلك خاص الأنام، ناظر في أعقاب الأمور ما بين يوم وعام، فليتكلم كل ولا حرج، فسواء هوى إلى حضيض الخطأ أو إلى أوج الصواب عرج فإن أخطأ فلا نقصان، وإن أصاب فله أجران فيبذل كل جهده ويعاني في ذلك وكده وكده، ويبدي في ذلك ما أدى إليه اجتهاده، ويتصور أن ذلك يوافقه مراده، فتتفق الآراء، على ناحية من الأنحاء، ثم يفض ذلك المجلس، ويجتمع بأخصائه ويجلس، كسليمان شاه وقماري وسيف الدين، وألله داد وشاه ملك وشيخ نور الدين، ويمخضون القضية مخضاً غير ذلك، ويبحثون فيها بحثاً دقيق المسالك، فيقع آخر الأمر الاتفاق، على التوجه إلى بعض الآفاق ثم يدعو رائدهم، وسائقهم في ذلك وقائدهم،
ويأمرهم بالتوجه إليه، فيتصدعون على ما عول في ذلك عليه، وحين يقوض الظلام خيامه، وينشر رائد الصبح أعلامه، ويضرب الكوس للرحيل، ويأخذ الناس في التحميل، ويتوجه الناس إلى الجهة التي أمرهم بالمسير إليها، ووقع الاتفاق عليها دعا حاشيته بعد ما حملوا وأخذوا في المسرى، وأمرهم أن يمتازوا ويرحلوا إلى جهة أخرى، ولم يكن أبداها لأحد من الجماعة، إلا في تلك الساعة، ولولا الضرورة لما أفشاها، ولا أعاد سريرتها لأحد ولا أبداها، فيضرب الناس ضرباً ويضرب ضربا، ويأخذ العساكر شرقاً ويأخذ غربا، فتضطرب تلك الأطواد وتختبط، وتنفرط عقود نظامهم فلا تكاد تنضبط، وتنحل قوائم مواشيها عن المسير وترتبط، ويموج بعض الناس في بعض، وينعكسون سماء في أرض وطولاً في عرض، ويتوله كل أحد ويتدله، ولا يدري إلى أين يتوجه، فإن كان في عسكره ربيئة، أو من يراقب ذهابه ومجيئه فبمجرد ما رأى تحميلهم، وشاهد تحويلهم ورحيلهم، طار إلى مخدومه، وأظهر له ما في معلومه، من توجه العساكر إلى الجهة التي اتفقوا عليها، وأنه شاهدهم بعينه وقد توجهوا إليها،
فيأخذ حذره أهل ذلك الجانب، وتطمئن سائر الجوانب من النوائب، فلم يشعر إلا وقد دمر على الجانب الذي قصده وحطمه، ونبذه من نار العذاب الموقدة في السعير والحطمة
وكما كان له من دهاء، وفكر خفي وذكاء، ومن جملة ذلك أنه لما كان بالشام، وقد قابلته العساكر الإسلام، أشاع أن سوار أساورته تخلخل، وتأخر قليلاً إلى وراء وتحلحل، وأذاع أنه أعوز خيله ورجله الزاد، وأنه صائب صوب بغداد، ثم أسفرت القضية، عن أن انهزمت العساكر المصرية، وكان قصده بذلك تثبيت جأشهم، واستقرار رؤسائهم وأوباشهم، وأن يكز كل منهم على أزم، فيربض في مكانه ولا ينهزم، فيحيط بالكل كيده، ويصير المجموع صيده ومما يحكى من شدة عزمه، وثباته على ما يقصده وحزمه، وحلول نقمته ممن يعارضه، ويعاكسه فيما يرسم ويناقضه، أنه لما توجه بالجنود، إلى بلاد الهنود، بلغ إلى قلعة شاهقة، أقراط الدراري بآذان مراميها عالقة، ورجوم النجوم الخارقة، تتعلم الإصابة من رشاقة سهامها الراشقة، كأن بهرام في مهواه أحد سواطيرها، وكيوان في مسراه خادم نواطيرها،
والشمس في استوائها غرة جبينها، وقطرات السحاب في الانسكاب تترشح من قعر معينها، وشقة الشفق الحمراء، على آذان مراميها، وأنوف أبدانها سرادق، وكريات نجوم القبة الخضراء لعيون مكاحلها وأفواه مدافعها طابات وبنادق فيها من الهنود طائفة، ثابتة الجنان غير خائفة، جهزت أهلها وما تخاف عليه إلى الأماكن المعجزة، وثبتت هي في تلك القلعة حافظة لها متحرزة، مع أنها شرذمة قليلة، وطائفة ذليلة، لا خير عندهم ولا مير، ولا فائدة سوى الضرر والضير، ولا للقتال عليها سبيل، ولا حواليها لأحد مبيت ولا مقيل، بل هي مطلة على المقاتلة مستمكنة من المقاتلة، فأبى أن يجاوزها، دون أن يناحرها بالحصار ويناجزها " واللبيب العاقل، ما يترك لخصمه وراءه معاقل " فجعلت المقاتلة تناوشها من بعيد، ويصب كل من أهلها عليهم من أسباب المنايا ما يريد كما يريد فكان كل يوم يقتل من عسكره مالا يحصى والقلعة تزداد بذلك إباء واستعصا، وهو يأبى الرحيل عنها، إلا أن يصل إلى غرضه منها ففي بعض أيام المحاصرة مطروا، وبواسطة المطر انحصروا، وصار يحثهم على القتال،
وركب لينظر ماذا يصنعون في تلك الحال، فلم يرتض أفعالهم لما عكست أوحالهم أحوالهم فدعا منهم رءوس الأمراء، وزعماء العسكر والكبراء، وأخذ يمزق أديم عصمتم بشفار شتمه، ويشقق ستر حرمتهم بمخاليب لعنه وذمه، ونفخ الشيطان في خيشومه، فألهب فيهم نيران غضبه وشومه، وقال يا لئام، وأكلة الحرام، تنقلبون في نعمائي، وتتوانون عن أعدائي، جعل الله نعمتي عليكم وبالاً، وألبسكم بكفرانها خيبة ونكالاً يا فاجري الذمم، وكافري النعم، وساقطي الهمم، ومستوجبي النقم، ألم تطئوا أعناق الملوك بأقدام إقدامي، وتطيروا إلى آفاق الدنيا بأجنحة إحساني وإكرامي، وتفتحوا مغلقات الفتوح بحسام صولتي، وتسرحوا في منتزهات الأقاليم سوائم تحكمكم بترعية دولتي؟ بي ملكتم مشارق الأرض ومغاربها، وأذبتم جامدها وأجمدتم ذائبها
ألم أك ناراً يصطليها عدوكم
…
وحرزاً لما ألجأتم من ورائيا
وباسط خير فيكم بيمينه
…
وقابض شر عنكم بشماليا
ولا زال يهمهم ويغمغم، ويهذرم ويبرطم، وهم مطرقون ولا يحيرون جواباً ولا يملكون منه خطابا، ثم ازداد حنقاً، وكاد أن يموت خنقاً، فاخترط السيف بيده اليسرى، وهمز به على قمم أولئك الأسرى، وهم أن يجعل رقابهم قرابة، ويسقي من دمائهم فرنده وذبابه، وهم على تلك الحال في الخزي والإذلال، باذلوا نفوسهم، ناكسوا رؤوسهم ثم تراجع وتماسك، وملك نفسه قليلاً أو تمالك، فأغمد على تشريقهم حسامه، ولم يلق لأمره قبلة ولا دبرة فغلف غربه وشامه، ثم نزل عن مركبه واستدعى الشطرنج الكبير ليلعب به، وكان عنده شخص يدعى محمد قاوجين، هو لديه ذو مكان مكين، ومقام أمين، مقدم على الوزراء، ومبجل دون سائر الأمراء، مسموع القول، مقبول الرأي، ميمون النقيبة، محبوب الشكل، فتشفعوا إليه، وعولوا في حل هذا الإشكال عليه، وقالوا ساعدنا ولو بلفظة وراقبنا ولو بلحظة، واعمل معنا، بهذا المعنى قلت
ساعد بجاهك من يغشاك مفتقراً
…
فالجود بالجاه فوق الجود بالمال
وبما قيل
وأهون ما يعطي الصديق صديقه
…
من الهين الميسور أن يتكلما
وبما قيل
وإن امرءاً قد ضن عني بمنطق
…
يسد به من خلتي لضنين
فأجابهم والتزم، أن يرده عما تازم به وأزم، وراقب مجال المقال، وراعى فرص المجال، وأخذت أفكار تيمور، تفور في أمور القلعة وتغور، وجعل يستوضي أضواءهم، ويستوري آراءهم، ولا يسع كلاً منهم إلا القبول لما يستصوبه رأيه ويقول ففي بعض الأحايين، اتفق أن قال محمد قاوجين، وقد زل به القضاء، وأحاطت به نوازل البلاء أطال الله بقاء مولانا الأمير، وفتح بمفاتيح آرائه وراياته حصن كل أمر عسير هب أن فتحنا هذه القلعة، بعد أن أصيب منا جانب من أهل النجدة والمنعة، هل يفي هذا بذا، أو يوازن هذا النفع بهذا الأذى، فما احتفل بخطابه، ولا اشتغل بجوابه، بل استدعى شخصاً من المرقدارية فظاً قبيح المنظر ذا حالة زرية، يدعى هراملك، ذا عرق سهك، ووجه بالسواد سدك، أوسخ من في المطبخ،
وأسنخ من في المسلخ، لعاب الكلب طهور عند عرقه، وعصارة القير حليب بالنسبة إلى مرقه فعندما حضر لديه، ووقع نظره عليه، أمر بثياب محمد قاوجين فنزعت وبخلقان هراملك فخلعت، ثم ألبس كلاً ثياب صاحبه، وشد وسطه بحياصته، ودعا دواوين محمد ومباشريه، وضابطي ناطقه وصامته وكاتبيه، ثم نظر ما له من ناطق وصامت، وذائب وجامد، وملك وعقار، وأهل وديار، وحشم وخدم، من عرب وعجم، وأوقاف وإقطاع، وبساتين وضياع، ومماليك وأتباع، وخيل وجمال، وأحمال وأثقال، حتى زوجاته وسراريه، وعبيده وجواريه، فأنعم بذلك على ذلك الوسخ، وأمسى نهار وجود محمد قاوحين وهو من ليل تلك النعمة منسلخ ثم قال تيمور أقسم بالله وآياته، وكلماته وصفاته، وأرضه وسمواته، وكل نبي ومعجزاته، وولي وكراماته، وبرأس نفسه وذاته، لئن آكل محمداً قاوجين أحد أو شاربه، أو ماشاه " أو صاحبه " أو صادقه أو صافاه، أو آوى إليه أو آواه، أو راجعني في أمره، أو شفع عندي فيه أو اشتغل بعذره، لأجعلنه مثله، ولأصيرنه مثله، ثم طرده وأخرجه،
وقد سلبه نعمته وأحرجه فصار مسلوب النعم، قد حلت به نوائب النقم، وسحبوه بالولق، ورأى نعمته على أقل الخلق، واتصل غيره بالحلق وقطع منه الحلق، ففلقت حبة قلبه أي فلق، واستمر على ذلك في عيش مر وعمر حالك، وحاش أن تشبه قصته قضيه كعب بن مالك فكان يستحلي مرارة الموت، ويستبطئ إشارة الفوت، وكل لحظة من هذا الحيف، أشد عليه من ألف ضربة بالسيف، فلما مات تيمور أحياه، ورد عليه خليل سلطان ما سلبه جده إياه " فصل " وكان من أبهته وعظمته، وشدة شكيمته، وعتوه وحرمته، أن ملوك الأطراف، وسلاطين الأكناف، مع استقلالهم بالخطبة، واستبدادهم بالسكة وانفرادهم بالزعامة والرياسة، وقيامهم بأمور الإيالة والسياسة كالشيخ إبراهيم ملك ممالك شروان، وخواجه علي بن المؤيد الطوسي سلطان ولايات خراسان، واسفنديار الرومي وابن قرمان " ويعقوب بن علي شاه حاكم كرمان وحاكم منتشا وطهرتن أمير أرزنجان "
وسلاطين فارس وأذربيجان، وملوك الدشت والخطا وتركستان، ومرازبة بلخشان ومراجيح مازندران وعلى الجملة فالمطيع من الملوك إيران وتوران كانوا إذا قدموا عليه، وتقدموا بالهدايا والتقادم إليه، يجلسون على أعتاب العبودية والخدمة، نحواً من مد البصر من سرادقاته قائمين بشرائط الأدب والحرمة، فإذا أراد منهم واحداً، أرسل إليه من الفراشين أو نحوهم قاصداً، فيهيب ذلك القاصد وهو يعدو كالبريد، وينادي ذلك الواحد باسمه يا فلان من مكان بعيد، فينهض في الحال من مجثاه، مجيباً بلبيك لبيك دعواه، ويعدوا نحوه متعثراً في أذياله، متلقياً ما برزت به مراسيمه بقبوله وإقباله، مطرقاً رأس التذلل والخضوع، مصغياً بآذان الخنوع والخشوع مفتخراً على أضرابه، لكونه أهله ودعاه واعتنى به وقيل كان أناس من جماعته يلعبون بالنرد فافترقوا فرقتين، واختلفوا في نقش الكعبتين، فقال أحد اللاعبين ورأس الأمير تيمور كذا وكذا كان نقش الكعبتين، فرفع يده خصمه ولطمه، وسبه ولعنه وشتمه، كأنه ذبح يحيى أو زكريا نشر، أو كفر بمحمد
أو قدم موسى على أبي البشر، وقال يا ابن الفاعلة، والغاسل ابن الغاسلة، بلغ من انتهاكك الحرم، أن تذكر الأمير تيمور بشفة وفم، وأنى لك أن تجعل خدك مواطئ مداسه؟ فضلاً على أن تحلف برأسه، إنه لأجل من أن يتفوه مثلي ومثلك باسمه، أو يتلفظ بشيء من حدوده ورسمه، وإنه لأعظم من كيخسرو وكيكاوس وكيقباد، الذين ملكوا المشارق والمغارب وأفخم من بختنصر وشداد
وقيل إنه قصد في بعض الأوقات الاصطياد، وأرسل يمنة ويسرة على العادة طوائف الجيش والأجناد، ورسم أن يخرج مشاة تلك الرقاع، ورجالة هاتيك القرى والبقاع، فيمتدوا في الوهد واليفاع، وحين تلتئم على الوحوش حلقة الكيد، ويصح أن يتنازع فعلا رمى وأصمى كلا من عمرو وزيد، لا يشير أحد بضربة ولا طعنة ولا رمية إلى صيد، بيد أنهم يردون أوابد بتلك البيداء إلى بهرة ذلك البيد، فامتثل كل ما به أمر، وحين صار كالبنيان المرصوص وصف تلك الأحزاب والزمر، وأحاطت صافات تلك الكواسر بالوحوش إحاطة النجوم بالقمر، ماجت بحار الوحوش في ذلك البر، ولم تجد لها من دردور تلك السيول الهامرة
من مخرج ولا معبر، فدارت ومارت، وحارت وخارت، وثارت وبارت، واستجارت بعدما جأرت، واستكانت بعدما زأرت، وانطوت أرضها التي طالما عليها انتشرت، وطرزت خلع أعلامها بأعلام " وإذا الوحوش حشرت " فينما هي على تلك الحال، في أشد ما يكون من الأهوال، أمر بأن تضرب الطبول من كل الجهات، وينفخ في صور المزامير والبوقات، فدق الكوس وزعق النفير، وامتلأت الدنيا من الشهيق والزفير، ورجت الأرض رجا، ومارت الأقطار هرجاً ومرجاً، وحين سمعت السباع صوت الطبول، ورأت الوحوش هذا الأمر المهول، سقطت قواها، وتقطعت كلاها، وجثت وما انبعثت، ثم تقاربت وتلامت، وتقارنت وتضامت، وتصورت أن القيامة قد قامت، فأخذ بعضها بعنق بعض ونامت، فعانق الثور منها اللبوة، وضاجع الأسد فيها الظبية، واختفى سرحان، بين الغزلان، واستجار الثعلب، ببنات الأرنب، ولاذ بالأروى النعام والأرنب بالعقاب، وعاذ الضب بالنون واليربوع بالغراب فعند ذلك أمر الأطفال من أولاده، وأولاد الأمراء وأحفاده،