الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعليها ظالمين، وفيها ماردين، فقصدها بتلك العفاريت المصاليت، وواصل السير إليها فوصلها في خمسة أيام من تكريت، ومسافة ما بينهما للمجد، اثنا عشر يوماً إن لم تزد، وكان سلطانها الملك الظاهر تحقق أنه لا يضر من التجأ إليه، وقدم في ثوب الطاعة عليه، فما وسعه إلا التشبث بذيل ذممه، والانتظام في سلك خدمه
ذكر ما جرى لسلطان ماردين عيسى
الملك الظاهر من المحنة والبلاء مع ذلك الغادر الماكر
لكنه خاف غائلته، فجمع حاشيته وصاغيته، وقال إني ذاهب إلى هذا الرجل، ومظهر له الانقياد، فإن ردني حسبما أريد فهو المراد وإن طالبني بالقلعة، فكونوا أنتم على التأبي والمنعة، وإياكم أن تسلموها إليه، أو تعتمدوا في الكلام عليه، وإن دار الأمر بين تسليم القلعة وبين إتلافي، فاحتفظوا بالقلعة واجعلوا التلافي في تلافي، فإنكم إن تسلموها إليه، خرجتم من باطنكم وظاهركم، وأتى بالهلاك على أولكم وآخركم، وخسرتم شعاركم ودثاركم، وغبنتم أنفسكم ودياركم، وإذا كان كذلك فأنا أجعل نفسي فداكم، وأكفيكم بروحي
ما داهاكم، وبعض الشر أهون من بعض، وها أنا أجس لكم النبض ثم قصد ذلك الكالح والمفسد الطالح، بعدما استخلف ابن أخيه الملك الصالح شهاب الدين أحمد بن الملك السعيد اسكندر بن الملك الصالح الشهيد، ونزل يوم الأربعاء خامس عشري شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وسبعمائة، واجتمع به في سلخه بمكان يسمى الهلالية، فقابله بشنعة، وقبض عليه بسرعة، وطلب منه تسليم القلعة فقال القلعة عند أربابها وبيد أصحابها وأنا لا أملك إلا نفسي فقدمتها إليك، وقدمت بها عليك، فلا تحملني فوق طاقتي، ولا تكلفني غير استطاعتي فأتى به إلى القلعة وطلبها منهم فأبوا، فقدمه إليهم ليضرب عنقه أو يسلموه فنبوا، فطلب منه في مقابلة الأمان من الدراهم الفضية مائة تومان وكل تومان ستون ألفاً، خارجاً عما يتقرب به إليه زلفى، ثم إنه شد وثاقه، وسد عليه ليذهب عنه ما به من قوة كل باب وطاقه، وشمر للفساد ذيله، وجعل يريح رجله ويسمن خيله، ويتفوق كاسات فساده، ويعربد على عباد الله وبلاده، واستمر على ذلك لا يعي ولا يفيق، ويتردد ما بين الفردوس
إلى رسمل ونصيبين والموصل العتيق ثم أمر عساكره في جمادى الآخرة أن يمروا قاصدين، ويقصدوا ماردين، فسابقوا الطير ولاحقوا السير، وجازوا بالنهار الأنهار وبالليل السيل، فقطعوا فقار القفار، قطع الهندي وعملوا في تلك الجبال والقلال بما قاله الكندي وهو
سموت إليها بعد ما نام أهلها
…
سمو حباب الماء حالاً على حال
فوصلوا إليها على غفلة، واحتووا عليها من غير مهلة، وذلك يوم الثلاثاء ثاني عشره، وقد سل الصبح حسام فجره، وطار غراب الدجى عن وكره، فصاروا سوار معصم تلك الأسوار، وأحلوا الدمار هاتيك الديار، فعموها رجفاً، وساموها خسفاً، وهدوها زحفاً، ودكوها وجفاً، وتعلقوا بأهداب أرجائها وتسلقوا بالسلالم من أرضها إلى سمائها، وكان متسلقهم على الأسوار، من القبلة رابية اليهود، ومن الغرب التلول، ومن الشرق المنشار، فأخذوا المدينة عنوة وقسراً، وملؤها فسقاً وكفرا، وترفع أهل المدينة إلى القلعة، ولم يكره أحد سواهم علو المنزلة والرفعة، واكوهدوا ملتجئين إلى قوادمها وخوافيها، وذب عنهم من القلعة بالسهام والمكاحل من كان فيها،
فقتلوا من ظفروا به ذكراً أو أنثى صغيراً أو كبيراً، ولم يرتضوا بما فيها نهباً وبمن فيها أسيرا، فجالد بعض الناس وأظهر لهم بعض جلادة وأراد بتثبته لهم أن يضم الجهاد إلى الشهادة، ولا زالت آيات القتال عليهم تتلى، حتى امتلأت المدينة من الجرحى والقتلى، واستمر ذلك من قبل طلوع الشمس، إلى أن صار اليوم الأمس وحين التقى على وجنتي الكون عارضا الليل، واستوفى أولئك المطففون من ظلمهم وتعديهم الميزان والكيل، وبادر نون الظلام يؤنس الشمس بالالتقام، طرأ على تلك الحركات السكون فتراجعوا ونزل العسكر مقابل عربون، وقد قتل من العسكرين ما سبق العدد، وأكثرهم كان من أهل البلد، فباتوا يعدون السلاح ويثقفونه، وينتظرون الصباح ويستبطئونه، إلى أن شق الليل مكتوم جيبه، وأظهر الظلام مكنون غيبه، وأمر الكون وجه النهار أن يضرب على جنبي الآفاق أطراف شيبه، بكروا بكور الغراب وبدروا إلى الحراب والخراب، وعصروا أهل المدينة وحاصروها أشد حصر، وهدموها وأسوارها من الظهر، فمحوا آثارها بعد العصر، ثم باءوا بالآثام