الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجعلت تنفض رأسها، وزادت اضطرابها وشماسها، وطلبت المسير، وكادت تطير، فأعادوا عليها أحمالها، وزادوا أثقالها، فصارت تلك البليها تعدو ولا يقدر عليها
فصل
وكان في عسكره من الترك عبدة الأصنام، وعباد النار من المجوس الأعجام، وكهنة وسحرة، وظلمة وكفرة، فالمشركون يحملون أصنامهم، والكهان يسجعون كلامهم، ويأكلون الميتة والدم المسفوح، ولا يفرقون بين مخنوق ومذبوح، وناس حزاءون، وزواجر خراضون، ينظرون في ألواح الضان، ويحكمون بما يرون فيها على أحوال كل مكان، وما حدث في كل بقعة، من الأقاليم السبعة، من الأمان والخوف، والعدل والحيف، والرخص والغلاء، والسقم والشفاء، وسائر ما يكون، فلا يكادون يخطئون ولهم أيام وشهور وأعوام، كل عام منسوب إلى حيوان، يحسبون ما مضى من السنين، فلا يتأتى فيها زيادة ولا نقصان وفي الخطا لهم خط يسمى دلبرجين، رأيت حروفه أحداً وأربعين، وسبب زيادته أنهم يعدون التفاخيم والأمالات حروفاً، وكذلك البين بينات، فتتولد الزوائد، وكل حرف زائد،
وأما الجغتاي فلهم قلم يسمى أويغور، وهو بالقلم المغولي مشهور، وعدته أربعة عشر حرفاً وهذه مقطعاته وسبب نقصانه وانحصاره في هذا العدد، أن حروف الحلق يكتبونها على هيئة واحدة، وكذلك تلفظهم بها، ومثل هذه الحروف المتقاربة في المخرج مثل الباء والفاء، ومثل الزاي والسين والصاد، ومثل التاء والدال والطاء، وبهذا الخط يكتبون تواقيعهم ومراسيمهم، ومناشيرهم ومكاتيبهم، ودفاترهم ومخاتيمهم، وتواريخهم وأشعارهم، وقصصهم وأخبارهم، وسجلاتهم وأسفارهم، وجميع ما يتعلق بالأمور الديوانية، والتوراة الجنكيزخانية، والماهر في هذا الخط لا يبور بينهم، لأنه مفتاح الرزق عندهم
فصل
وكما كان فيهم من جبل على الفظاظة، والقسوة والغلاظة، ومن هو قليل الرحمة بل وعديم الإسلام، كفرة فجرة أوغاد أنذال طغام أغتام، قد اتخذوه من دون الله هادياً ونصيرا، واستكبروا به في أنفسهم وعتوا عتواًكبيراً، استجرهم كفرهم وحبهم إياه، إلى أنه لو ادعى النبوة أو الإلهية لصدقوه في دعواه، كل منهم يتقرب إلى الله تعالى
ببره، ينذر له إذا وقع في شدة ويفي بنذره، واستمر على اعتقاده الباطل وكفره، مدة حياته وبعد موته، ينقل النذور ويقرب القربان إلى قبره، وكان قد ترقى معه في المصاحبة، حتى وصل إلى مقام المراقبة
قيل إنه كان في سفر، فرأى واحداً من العسكر، كأن الكرى عطف رقبته، أو السرى أمال شقته، أو على حال لا يتوجه عليه فيها لوم ولا عتب، فضلاً عن أن يترتب عليه ضرب أو سب، فقال تيمور ترى ما ثم أحد قاطع، يقطع رأس هذا الفاعل الصانع؟ ولم يزد على هذا الكلام، فسمعه واحد من أولئك الكفرة اللئام، اسمه دولت تيمور، وهو أمير كبير مشهور، قد ألبسه الله ثوب النقمة، ولم يشمه شيئاً من روائح الرحمة، ففي الحال سل رأسه من بين كتفيه، وحمله إلى تيمور ووضعه بين يديه، فقال تيمور ويلك، ما هذا الأمر الأفظع؟ فقال هذا الرأس الذي أشرت أن يقطع، فأعجبته هذه العبارة، وابتهج بأن أمره يمتثل بأدنى إشارة كان فيهم الظرفاء والأدباء، والأذكياء والشعراء، ومنهم في الفضل أعلام وعلماء، وفيهم المحقق، والباحث في العلوم والمدقق، ومن شارك في كل العلوم وبحث فيها بحثاً شافياً
من طريقي المنطوق والمفهوم، ويقرر مذهب الصوفية وإحياء العلوم ومع هذا فبعضهم يمضي على مقتضى ما علمه، وكان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، وبعضهم كان مع رقة الحاشية، واللطافة الفاشية، والعلم الوافي، والظرف الشافي، والجمال الفائق، والكمال الشائق، والكلام الرائق، قلبه أقسى من الحجر، وفعله أنكى من ضرب الصارم " الذكر "، يقولون من قول خير البرية، ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وإذا وقع مسلم في مخالبهم، أو ابتلى غريب بتعذيبهم، صنف ذلك العالم المحقق، والحبر المدقق، في استخراج المال " منه " أنواع العذاب، وأصناف العقاب، واستحضر في فنون تعذيبه كتباً ومسائل، وسرد في علوم تثريبه خطباً ورسائل، فيصير ذلك المسكين يتكوى، ويستغيث ويتلوى، ويستجير بالله وآياته، ويستشفع بكل ما في أرضه وسمواته، من ملك ونبي، وصديق وولي، وذلك المليح يضحك ويتظارف، ويتمايل ويتلاطف، وينشد لطائف الأشعار، ويتمثل بطرائف النوادر والأخبار، وربما تحرق وبكى، وتأوه لما يفعل بذلك
من التعذيب وانتكى، وصار كبعض قضاة الإسلام، المستولي على مال الأيتام، يخطب ويبكي، وفعله في قلوب المسلمين ينكي ولما كانوا في دمشق دخلوا على بيت واحد من الأعيان بزقاق العجم، وإذا هو مملوء من النفائس والخيرات والنعم
قصر عليه تحية وسلام
…
خلعت عليه جمالها الأيام
فقبضوا على صاحب ذلك المنزل وربطوه، وبأنواع العذاب والعقاب عذبوه، ثم أحكموا رجليه شداً وعلقوه، واستخرجوا النفائس، واستجلبوا من حسانها العرائس، وأحضروا لذيذات المطاعم والمشارب، وقضوا من التفكه والتنعم ما لهم من مآرب، وجعلوا يأكلون ويشربون، ويلهون ويطربون، وإذا تحرك في واحد منهم الخبث أو ثمل وأخذه في سكره العبث، عمد إلى ذلك المسكين، وهو في شدة النكاد، فسقاه الماء والملح، وسففه الكلس والرماد، وكان فيهم عالم متقشف، عن تناول المسكرات متعفف،
كما قيل
عجبت من شيخي ومن زهده
…
وذكره النار وأهوالها
يكره أن يشرب من فضة
…
ويسرق الفضة إن نالها
فكانوا إذا أرادوا القدح المزعفر، أحضروا له السكر المكرر، ووضعوه له في صيني الخوافق، وصبوا عليه الماء الرائق، فيسكرون هم بالأقداح القوادح، ويسكر ذلك الفاسق المحروم من الروائح، ثم يتوجه إلى صاحب المنزل، ويضحك عليه وهو في أشد ما يكون من العذاب ويسخر منه ويهزل، ثم يتمايل على صوت المثاني والمثالث، ويتناول من تلك المآكل والمشارب، ويقول بشر مال البخيل بحادث أو وارث وكان في عسكره كثير من النساء يلجن معامع الهيجاء، ووقائع البأساء، ويقابلن الرجال، ويقاتلن أشد القتال، ويصنعن أبلغ ما يصنع الفحول من الرجال في النزال، من طعن بالرمح وضرب بالسيف ورشق بالنبال، وإذا كانت إحداهن حاملاً وأخذها وهم سائرون الطلق، تنحت عن الطريق واعتزلت الخلق، ونزلت عن دابتها ووضعت حملها، ولفته وركبت دابتها وأخذته ولحقت أهلها وكان في عسكره ناس ولدوا في السفر، وبلغوا وتزوجوا وجاءهم الأولاد ولم يسكنوا
الحضر
وكان في عسكره ناس صلحاء عباد، ورعون زهاد، أجواد أمجاد، لهم في الخيرات أوراد، وفي وردها إصدار وإيراد، دأبهم خلاص مأسور، أو جبر مكسور، أو إطفاء حريق، أو إنقاذ غريق، أو اصطناع معروف، أو إغاثة ملهوف مهما أمكنهم، ووصلت إليه يدهم، إما بقوة وأيد، وإما بنوع خديعة وكيد، وإما باستيهاب واستشفاع أو تعويض وابتداع، وكانوا سائرين معه بالاضطرار، أو دائرين معه لهذه المعاني بالاختيار حكى لي مولانا جمال الدين أحمد الخوارزمي أحد القراء المشهورين المجودين، وكان إمام محمد سلطان في حياته، وإمام مدرسته بعد وفاته، ثم خطيب بروسا وبها أدركته المنية، سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة، رحمه الله تعالى قال كنت في سمرقند في مدرسة محمد سلطان، أعلم مماليكه وأولاد الأمراء القرآن، فأرسل إليه جده الظلوم، وهو متوجه إلى بلاد الروم، أن يتوجه إليه، ويفد هو والأمير سيف الدين عليه، فامتثل ما به أمر، وأخذ في إعداد أهبة السفر، وقال لي هيئ مرافقك، واقطع علائقك، وخذ أهبة سفرك، واعمل
مصلحة رهطك ونفرك، ووافقنا في المرافقة، فإن من حسن المرافقة الموافقة، فاستعفيته من الذهاب، وفتحت له في سد خوخة السفر كل باب، وقلت له يا مولاي أنا رجل من أهل القرآن والفاقة، ما لي بفتح باب السفر من طاقة، لأني ضعيف البنيان، رخو الأركان لا جلد لي على الحركة، وإن كان في صحبة مولانا الأمير كل خير وبركة، خصوصاً على هذا السفر البعيد الشقة الكثير المشقة، ومع كوني ليس لي على ذلك من طاقة، لا جمل لي في مناخ السفر ولا ناقة وأما أنتم فالسفر عليكم حتم لازم، وحق ملازم، لا يسعكم فيه التخلف، ولا يفسح لكم فيه المطل والتسوف، فلم يعفني، وتعلل لي بعلل عللني فيها ولم يشفني، فلم أر بداً من الاستعداد، وتحصيل الرفيق والزاد ثم سرنا حتى وافينا جده، وقد ركب في الجادة جده، وجده، ورأينا من تلك العساكر، بحاراً لا أول لها ولا آخر، إن انفرط أحد من سلك جماعته، أو ضل معتزلاً عن سنن سنته، لا يصل إليهم بالسرج والشمع، " ولا " يهتدي إلى سنة جماعته إلا إن كان يوم الجمع فبينا أنا معهم أسير، وقد وهن مني العظم الكسير،
وأثر في التعب، وأخذ مني النصب والوصب، ومللت السرى، وعدمت الكرى، نفضت يدي من الرفيق، وأخذت على فجوة من الطريق، فلما خلوت، هينمت بالقرآن العظيم وتلوت، ثم استهواني الذوق والشوق، فحلقت بمراشيق حلقي إلى فوق، وكان صوته أطيب من رقيق المقطوع على رخيم الموصول، وألذ من جمع شمول، على كأس شمول، بنسيم الشمال معلول، وبرضاب الحبيب مشمول قال وإذا برجلين ضعيفين، كالعود البالي نحيفين، أشعثين أصفرين، ذوي طمرين أغبرين، بصرا بي عن جنب، وعلقا بي علوق الوتد بالطنب، فجعلا يراقبان أحوالي، ويستمعان أقوالي، فلما زممت زمزمتي، وكففت هينمتي، وكتمت في خزانة صدري جواهر كلماتي، وختمت بطابع دعائي زواهر آياتي، بكيا لمناجاتي وأمنا على دعواتي، ثم أقبلا نحوي وسلما، واهتزا لما سمعاه من تلاوتي وترنما، وقالا أحيا الله قلبك كما أحييت قلوبنا ومحوت بما سطرت في ألواح صدورنا، بحسن تلاوتك ذنوبنا ثم إنهما آنساني بالخطاب، وجارياني بالسؤال والجواب، وإذا هما من صميم الجغتاي، وخالص عسكر تيمور، ومن ضئضئ التتار وسنخ الفتن
والشرور، ثم سألاني عن نجاري ووجاري، وعن رفيقي في هذا السفر وجاري، فأخبرتهما عن مولدي ومحتدي، ومسقط رأسي من بلدي، وأني من أهل القرآن، وأني مع محمد سلطان فقالا لي يا سيدنا الشيخ إنما جئنا إليك لتحسن إلينا، وإنا سائلوك عن شيء فلا تجد فيه علينا، فقلت " قولا " وطولا، فلن تجداني ملولا، فقالا يا مولانا هذا شيء يعنينا، وإن كان قد عنانا، وكل من اشتغل بما لا يعنيه، فقد ترك ما يعنيه، ووقع فيما يعنيه، ومن لم يعرف الخير من الشر وقع فيه فبالله يا سيدنا قل من أين تأكل؟ فقلت على خوان محمد سلطان، فقالا مأكول هذا العسكر حلال، أم حرام ووبال؟ فقلت الغالب عليه الحرام، بل كله والله مظالم وآثام، لأنه من الثارات والنهب، والغارات والغصب، والاختلاسات والسلب فقالا والله يا إمام، لقد أسأنا الأدب إذ واجهناك بهذا الكلام، ولكن أنتم أهل العلم، شيمتكم العفو عن الجاني والحلم وأنتم أولى بجبر الكسير وفك الأسير،
وتيسير العسير، فقابل منا هذا الفحص بالصفح ولا تعامل هذا الإلحاف باللفح
فقلت سلا ولا تسلسلا، فقالا نسألك بالله الذي اصطفاك لخزن كلامه، الذي تعبد به عباده وبين لهم فيه معالم حلاله وحرامه، لا تؤاخذنا بما تهجمنا عليك به، فإن الشيخ المرشد كالوالد الشفوق لا يؤاخذ ولده بقلة أدبه، فقلت كلا سلا ما شئتما، وسلسلا مهما أردتما فقالا يا سيدنا أما كان لك مندوحة عن مرافقة هؤلاء اللئام، والتعفف بالحلال استغناء عن الحرام؟ فقلت إني دخلت فيهم وأنا مضطر، وخرجت معهم أنا كاره مجبر، وأكرهني محمد سلطان، وحاياني بما حباني من إحسان، فصحبتهم وعين ذاتي من كحل الراحة مرها، وحملتني فرسي في سفري كرها ووضعتني كرها، فقالا أرأيتك لو امتنعت عن الخروج أكانوا يريقون دمك ويأسرون أولادك ويسبون حرمك؟ فقلت لا والله، وحاشا لله، فقالا أكانوا يحبسونك، ويضربونك وفي مقام المصادرة يجلسونك؟ فقلت أنا أمنع جنابا، من أن يسوموني خسفاً وعذابا، لأني حافظ القرآن، والقرآن حافظي من هذا الخسران، قالا فغاية فعلهم
معك، إذا رأوا تعززك وتمنعك، أنهم كانوا يشتمونك، ويعمدون إلى معلومك فيقطعونك، ويسخطون عليك، ويمنعون برهم الواصل إليك، فقلت ولا كانوا أيضاَ يفعلون كذا، وتعززي وتمنعي ما يحط من مكانتي عندهم إلى هذا الأذى، ولكنهم حايوني فاستحيت، وخادعوني فانخدعت وليتني أبيت فقالا لا يصلح هذا لك عذراً وحجة، ولا يسلك بك إلى صحة الاعتذار بين يدي الله تعالى سوى المحجة، فهلا جلست في مكانك واشتغلت بتلاوة قرآنك، ومطالعة علمك ومباحثة إخوانك، وفرغت بدنك عن الكلال، وملأت بطنك من الحلال، واحتميت في حمى دينك عن هؤلاء اللئام، واسترحت من الاضطرار إلى تناول الحرام، مع أنا سمعنا من أمثالكم، ما قد ضرب في أمثالكم " أهل القرآن وقاصته، أهل الله وخاصته " وأنهم عتقاؤه بين خلقه، وببركاتهم أدر سحاب رزقه وإن السلاطين ملوك الناس أجمعين، وإنكم أنتم ملوك الملوك والسلاطين وإذا أعتقكم الله أعفاكم الناس، وصرتم لإنسان العالم بمنزلة القلب والكبد والرأس، ولم يبق لأحد عليكم سلطة، ثم ألقيتم أنتم أنفسكم
بأيديكم إلى هذه الورطة، وتهافتم على التهالك تهافت الفراش على النار، وتشبثتم مع كونكم قادرين على الخلاص بأذيال القسر والاضطرار، فكيف يصح هذا الاعتذار؟ وأنى ينجيكم هذا العذر من عذاب الملك الجبار؟ وهل صرتم إلا كما قيل
معاشر القراء يا ملح البلد
…
ما يصلح الملح إذا الملح فسد
فقلت أما إذا حررتما القضية، فكلنا في هذه المصيبة سوية
" بي مثل ما بك يا حمامة فاندبي "
وقيل
بي مثل ما بك يا حمام البان
…
أنا بالقدود وأنت بالأغصان
فبكيا وانتحبا، وتأوها والتهبا، وتنفسا الصعدا، وقالا أين ما بين قصتنا وقصتك في المدى؟ فورب الخافقين، إن بين القصتين لبعد المشرقين، ولكن ما للمقال مجال، وما كل ما يعلم يقال، وأين السر من الإعلان؟ وإن الحيطان لها آذان فقلت هذا أيضاً ليس بحجة، فلا تعدلا عن سواء المحجة فقالا نحن المضطرون
جبراً، المأخوذون قهراً وقسراً، وإنا مكتوبون في الديوان، مضافون إلى واحد من أعيان الأعوان، إذا ورد علينا مرسوم بالبروز، في يوم عيد مثلاً أو نوروز، ويكون الخروج وقت الظهر، وتأخر منا واحد إلى وقت العصر، لم يكن له جزاء فيما ارتكبه، إلا الصلب أو ضرب الرقبة، فضلاً عن ضرب وشتم وشناعة، أو زفع عدل أو تقديم شفاعة، وأين أنت عن قعود ما أو تخلف، أو استتار بذيل توار أو توقف؟ فنحن مدى الدهر لمثل هذا مستوفزون، وعن مثل ما جرى على أضرابنا من هذا البلاء متحرزون، مصيخون أبداً لما أشار وما أمر، عاملون بمقتضى " رحم الله من رأى العبرة في غيره فاعتبر "" و " يا ليتنا أمكننا التحويل عن مملكته، والرحيل عن إقليم ولايته وسلطنته، وكيف لنا بذلك وهي مسقط رأسنا ومحل أناسنا، ومحط إيناسنا، وإيلاف رحلتنا، ومزدرعات معيشتنا، ومدرج آبائنا، ومخرج أبنائنا، ومقام قبائلنا وعشائرنا، ومثابة قاطننا وغابرنا، ولو غاب من هوام قبائلنا جدجد فضلاً عن بلبل أو هدهد، لجحف الباقين سيل الظلم والحيف، ولتحكم في رقاب سائرنا صائل الموت بالسيف
وأما إذا برزنا، وعزمنا
على المسير معه وتجهزنا، فنسأل كم سنة يغيب، وأي جهة يريد ذلك المريد المريب، فنأخذ أهبتنا لذلك المقدار، وكل منا ابن عم للآخر وجار، وله جرابه فيه سويقه، ومعه كلفة نفسه وفرسه وعليقه، يصوم مدى الدهر ويفطر على ما يسد الرمق، ويلبس ما يستر العورة من رث الثياب والخلق، كل ذلك من زرع أيدينا وكدنا، وما بذلنا فيه من عرق جبيننا، والحلال غاية جهدنا، لا نتعرض لمال أحد ولا لعرضه، ولا نقف في طريق إبرامه ولا نقضه، ولا لأحد عندنا نشب، ولا بيننا وبين أحد علاقة ولا سبب، ولكن يا مولانا البلاء الطام، والمصاب العام ثم رقصا رءوسهما يميناً وشمالاً، وارتعدت فرائصهما هيبة وجلالاً، وابيضت شفاههما، واسودت جباههما، وأخذا في البكاء والعويل، وانتحبا الانتحاب العريض الطويل، فوالله لقد ذابت نفسي لديهما، واستصغرت كبار المشايخ بالنسبة إليهما، وتفكرت فيما هما فيه من شدة الأمر، وعلمت أنهما القابضان بكفيهما على الجمر، ثم تأوهت آهاً بعد آه، وقلت بالله يا إخوتاه، وما هذا البلاء الطام والمصاب العام الذي
ذكرتماه؟ قالا خيولنا ومواشينا، وحوامل مهادنا وغواشينا، نرفق بها في التحميل، وما نركبها إلا وقت الإعياء في الرحيل، وأمر قضيمها قصم ظهرنا، وأعجز أمرنا، واضطررنا إلى الخض في دماء المسلمين وأموالهم، وألجأنا إلى رعي زرعهم وتحمل وبالهم وما ندري كيف المخلص، وأنى ننجو من ذلك المقنص؟ فبالله يا سيدنا الشيخ هل تجد لنا في هذا الأمر الغالي رخصة؟ أو هل من قطرة برود تطفئ هذه الحرارة وتسكن شرق هذه الغصة؟ فقلت لا والله إلا عناية الله، وأيم الله لقد أشبعتماني شراً، وجرعتماني صبراً ومقراً، وأسقيتماني نكداً وضرا، وكان هموم ما بي، من نصبي وعذابي، تكفيني، إلى يوم تكفيني، فقد زدتماني بلاء على بلائي، وعناء على عنائي، فبالله من أنتما، وما أسماؤكما، وفي أي قطر أرضكما وسماؤكما، ومع من أنتما؟ فحييتما ما حييتما، فخبراني ولا تحيراني، لأجيء كل وقت إليكما، وأفوز بالسلام عليكما فقالا يا مولانا، الحمد لله الذي برؤيتك حبانا، إن معرفتنا لا تجديك شيئاً ولا تبرك، وعدم المعرفة بنا لا يؤذيك ولا يضرك، والغالب على ظننا يا مولانا، أنك بعد اليوم
لن ترانا، وإن قدر اجتماع فنحن نسعى على رؤوسنا إليك، وخليفتنا الله والسلام عليك ثم ودعاني وما وقفا، وأودعاني أليم الفراق وانصرفا وهذا من البحر قطرة، ومن الطود ذرة، ونسأل الله تعالى أن يصون عن الزلل أقوالنا، وعن الخطل والخلل أفعالنا وأحوالنا بمنه ويمنه آخره، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل