الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاشتغال بتعليق البلاد بالزروع، بحيث أن فقهاء الدرس والدياس، من أهل القرى والأمصار، والمشتغلين بفقه المزارعة والمساقاة من فلاحي الأنجاد والأغوار، وأهل الرزداقات والأكارة، من حدود سمرقند إلى أشبارة، يتركون مسائل المعاملة والمبايعة، ويكررون البحث قولاً وعملاً في درس المساقاة والمزارعة ويؤذنون في جماعتهم أن يقيم كل منهم في الزرع صلاحه، وإن اضطر أحدهم أن يترك صلاته فالحذر الحذر أن يترك فلاحه، ورام بذلك أن يكون لهم في سفرهم عتادا، وإن نقص لهم في الدرب قضيم وخضيم زادا، فتركوا العمارة، وقصد كل من الأمراء دياره، واشتغلوا باستخراج البقر والبذار، واجتهدوا في إحياء جميع الموات كما رسم وأشار، فما فرغوا من ذلك إلا وقد طوى المصيف بساطه، ونشر رائد الخريف على العالم أعلامه وأنماطه
ذكر عزمه كما كان على الخطا
ومجيئه سكرة الموت بالحق وكشفه عنه الغطا، ثم انتقاله من سفره إلى سقره
فلما أفاق، أخذ فيما كان عليه من التوجه إلى الآفاق، وقصد
الحواشي والأطراف، واستخلاص الممالك والأكناف، وصرف عنان الذهاب، نحو الخطا على عادته وكان ذلك عين الصواب
فأرسل إلى أمم عساكره أن يستوفزوا، ويأخذوا أهبة أربع سنين أو أكثر ويتجهزوا، فلبت كل أمة دعوة رسولها، وشنفت بأقراط مراسيمه أذان قبولها، وحمل كل أسد جوزاء عتاده، وامتطى جدى بغيه، وأعد كل ثور سنبلة زاده ودلو سقيه، ودب كل عقرب منهم دبيب السرطان، وانسابوا انسياب الحوت في بحار العدوان، مجازفين مظالم العباد بلا كيل ولا ميزان فأبرد هلال القوس سهم برده بمرسومه إلى كل صماخ، يخبر أن جند الشتاء على عالم الكون والفساد أناخ، فليستعد له الكفاة، وليحذره العراة والحفاة، ولا يكتفوا في كفه بكافاته فما كل كاف له كفوا، لأنه في هذه المرة آية من آيات الله فلا تتخذوا آيات الله هزوا وأن قصده بقدومه تبريد الأنفاس، وتشويط الأنوف والآذان وإسقاط الأكارع وقلع الرأس، وأن فصل الخريف رائد جنوده، وقائد بنوده، ونموذج طلعته، ومري عين غلته وعنوان مكاتبته
ومقدمة كتيبته ثم زمجر بعواصف رياحه الباردة، وخيم على العالم بخيام غيومه الصادرة والواردة، فارتعدت الفرائص من زئيره، ولاذ كل من الحشرات بقعر جهنمه خوفاً من زمهريره، وخمدت النيران وجمدت الغدران، وارتجفت الأوراق ساقطة من الأغصان، وخرت على وجهها الأنهار، جارية من الأنجاد إلى الأغوار، وتخيست الأسود في أخياسها، وتكنست الظباء في كناسها، وتعوذ الكون من آفته، واصفر وجه المكان من مخافته، واغبرت خدود الرياض، وذبلت قدود الغياض، وراح ما كان بها من النضرة والارتياح، وأصبح نبات الأرض هشيماً تذروه الرياح فاستسمج تيمور لقطات هذه النسمات، واستبرد نفثات هذه النفحات، وأمر بإعداد لبوس القباب، واستعداد بركستوانات الجباب، واتخذ لصفاح الجمد وسهام البرد، من المبطنات الدرق ومن الفراء الزرد، ثم ضاعف لملاقاة الشتاء مضاعفات اللباس وأفرغها على قامة عزمه الثاقب وأمدها من كافات كفايته بأتراس، ولم يلتفت إلى كلام وملام، واستكفى من الشتاء بما لبسه وأعده من كل كاف ولام، وقال لعسكره لا تكترثوا
بشأن الشتاء فإنما هو برد وسلام وحين اجتمعت عساكره، والتأمت أموره وأوامره، أمر أن يصنع له خمسمائة عجلة، وتضبب بالحديد ليحمل عليها ثقله، فبادر الشتاء خروجه بالدخول، وأورد بانقطاع جراية عمره من ديوان الفناء الوصول، فبرز في شهر رجب، وقد أصبح البرد عجباً وأي عجب، وسار لا يرق لمرق، ولا يرثي لجسد من البرد محترق، فوصل في سياحته إلى سيحون وقد تجمد، وبنى عليه رائق النسيم الصرح الممرد قلت قديما
على البحر قد عاينت جسر ممدداً
…
بناه إله العرش صرحاً ممردا
بكيت فخلت الدمع في جنباته
…
رقيق رحيق في زجاج تجمدا
فعبره ومر ومضى على ذلك واستمر، وتمادى على لجاجه وأصر فدمر الشتاء عليه بالدمار، وانحط عليه من الجوانب بكل إعصار فيه نار، وحطم جيشه بكل نكباء صرصر، وضرب نبات عسكره بصرة صر طول فيها وما قصر، وهو بذلك الجمع الكثير يسير، لا يحن لأسير ولا يجبر وهن كسير، يسابق البرد ببرده، ويجاري أجرده بجرده ومرده، فجال فيهم
الشتاء بحراجف عواصفه، وبث فيهم حواصب قواصفه، وأقام عليهم نائحات صراصره، وحكم فيهم زعازع صنابره، وحل بناديه، وطفق يناديه مهلاً يا مشوم، ورويداً أيها الظلوم الغشوم فإلى متى تحرق القلوب بنارك، وتلهب الأكباد بأوامك وأوارك، فإن كنت أحد نفسي جهنم فإني ثاني النفسين، ونحن شيخان اقترنا في استئصال البلاد والعباد فأنحس بقران النحسين، وإن كنت بردت النفوس وبردت الأنفاس فنفحات زمهريري منك أبرد، أو كان في جرائدك من جرد المسلمين بالعذاب فأصماهم وأصمهم، ففي أيامي بعون الله ما هو أصم وأجرد، فوالله لا حابيتك، فخذ ما آتيتك، ووالله لا يحميك يا شيخ من برد ريب المنون، لواعج جمر مجمرة ولا واهج لهيب في كانون
ثم كال عليه من حواصل الثلوج ما يقطع الحديد ويفك الزرد، وأنزل عليه وعلى عساكره من سماء الزمهرير من جبال فيها من برد، وأرسل عقيبها زوابع سوافيه فحشتها في آذانهم ومآقيهم، ودستها في خياشيمهم فاستقبلت بها نزع أرواحهم إلى تراقيهم، وجعلت تلك الريح العقيم " ما تذر من شيء، أتت عليه إلا جعلته
كالرميم " وأصبحت مشارق الأرض ومغاربها من الثلوج المنقضة، كأنها بر عرصات القيامة أو بحر صاغه الله من الفضة، فكانت إذا بزغت الصقعاء ولمع الصقيع تراءى شيء عجب، سماء من فيروزج وأرض من بلور ما بينها شذور الذهب، فإن هبت فيما بين ذلك والعياذ بالله نسمة ريح، على نسمة ذي روح، أخمدت نفسه، وجمدته وفرسه، وكذلك الجمل والجمال، حتى أتت على مرق وانتهى الشأن إلى أن طابت النار وردا، وصارت لواردها سلاماً وبردا، وأما الشمس فإنها ارتجفت، وجمدت عينها من البرد ونشفت، وصارت كما قيل
يوم تود الشمس من برده
…
لو جرت النار إلى قرصها
فكان الرجل إذا تنفس جمدت أنفاسه على سباله ولحيته، فيصير كأنه فرعون وقد رصع لحيته بحليته، وإن لفظ من فيه لفظة نخامة عاقدة، لا تصل إلى الأرض مع ما فيها من الحرارة إلا وهي بندقة جامدة، فانكشف ستر الحياة عنهم، وأنشد لسان حال كل منهم