الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مفهوم المراحل في علم نفس النمو:
تبقى أخيرًا مسألة المراحل في علم نفس النمو، وهل صحيح أن نمو الطفل يمر بمراحل زمنية معينة كما يشير إلى ذلك بعض علماء سيكولوجية النمو؟
إن الجواب عن هذا السؤال ليس بالأمر اليسير باعتبار أن مفهوم المراحل ما يزال غامضًا في علم النفس، وإن الاختلاف في الآراء والنظريات قائم حتى الآن بين علماء النفس، ومؤتمر علم النفس الذي عقد في جنيف لعام 1955، يشير بوضوح إلى هذا التناقض والغموض، "إن علم النفس التكويني هو بالفعل كما يقول بياجيه في وضع متناقض فيما يتعلق بتحديد المراحل"، وجميع العلماء الذين يدرسون نمو الطفل يجدون أنفسهم مجبرين على اتباع المراحل الطبيعية أو المتفق عليها من خلال التطورات الحاصلة في نمو الطفل، والسؤال المطروح الآن، كيف يحدث النمو؟
هناك نظريات مختلفة في هذا الموضوع سنكتفي بأهمها ونعني بذلك نظرية "بياجيه" ونظرية "فالون" وما يهمنا في هذا الموضوع ليس النمو الجسمي أو البيولوجي عند الطفل بل النمو العقلي ونمو الشخصية.. وإذا كان النمو البيولوجي يتم بصورة متدرجة ومستمرة ولكن بدرجات مختلفة، فإن النمو السيكولوجي قد يكون مشابهًا أو موازيًا للنمو البيولوجي الذي يبدأ منذ تكوين الجنين ويستمر حتى الثامنة عشرة.
إن "فالون" Wallon ينظر إلى النمو على كونه مجموعة من المراحل تحدث فيها فترات من الراحة تعقبها قفزات في النمو، وهذه القفزات يطلق عليها "فالون" اسم "أزمات النمو"، والنمو المقصود هنا ليس زيادة سنتيمترات في الوزن والحجم والقامة، أي إن النمو ليس زيادة في الكمية بل في الكيفية وفي حدوث وظائف جديدة عند الطفل، والنمو وحدة دينماميكية تتم عبر مراحل متعددة ينتقل فيها الطفل من حالات الضعف والتفكك إلى مرحلة الرجولة، ويعتقد "فالون" أن الانتقال من مرحلة نمو سابقة إلى مرحلة جديدة لا يتم دون حدوث تحولات مفاجئة، وهذا لا يعني انتفاء المرحلة السابقة، وإن النمو يتم بصورة أفقية أو على
شكل خط مستقيم، ويمكن للقارئ لزيادة المعلومات أن يطالع كتاب "فالون" عن "التطور السيكولوجي عند الطفل"، وكما توجد هناك فترات من النوم وفترات من اليقظة أو النشاط في حياة الكائن البشري، فإن النمو عند "فالون" يشبه إلى حد بعيد هذا التعاقب بين الهدوء والنوم من جهة وبين النشاط والتأزم من جهة، وهذا التعاقب القائم على التحولات الوظيفية يتم خلال مراحل متعددة: "مرحلة الجنين، مرحلة الولادة، المرحلة الانفعالية أو التعبيرية قبل بداية اللغة، المرحلة الانعاكسية المتجه نحو الأشياء، ومرحلة التأزم الشخصي في الثالثة
…
إلخ".
أما النمو عند "بياجيه" فهو سلسلة متصلة الحلقات بحيث تعتبر كل مرحلة امتدادًا للمرحلة السابقة وتمهيدًا للمرحلة التالية، وهذا يعني أن النمو متدرج ومستمر ولا يقوم على مبدأ التعارض أو التناقض والتأزم كما هو الحال مثلا عند "فالون". وفيما يتعلب بالتطور العقلي. هناك إنباء في كل مرحلة، وهذا الإنباء يتطور في المراحل التالية وينتقل من حالة الغموض والتوازن الضعيف أو المختل إلى حالة الوضوح والتوازن المتكامل، فهناك الذكاء الحسي الحركي، وهناك الذكاء الحدسي والذكاء المحسوس أو العملي وأخيرًا الذكاء المجرد، وإذا قسم "بياجيه" النمو إلى مراحل وحاول أن يحصرها في حدود زمنية، فهذا لا يعني أن تلك الحدود واحدة وشاملة ومشتركة عند جميع الأطفال في المجتمعات المختلفة. إن العمليات العقلية المتبادلة والتي تبدأ مثلا في السابعة عند الطفل السويسري قد تتغير عند الطفل المصري أو الأفريقي باعتبار أن ظروف الحضارة والمجتمع بما في ذلك الأسس السيكولوجية مختلفة تمامًا، يضاف إلى ذلك أن العينات التي درسها بياجيه لم تكن ممثلة وكبيرة وشاملة، إذا اكتفى بدراسة بعض الأطفال في مدينة جنيف، وكان العدد قليلا بحيث لم يتجاوز العشرين أو المائة في دراسة كل مرحلة، ثم لم تتناول دراسات بياجيه الأطفال في مختلف مناطق سويسرا، وهذا يعني أن العينة لم تكن ممثلة ولا تسمح باستخلاص النتائج والتعميمات، وإذا ألقينا نظرة على الدراسات الأنثربولوجية والسوسيولوجية، فإننا نرى بأن مراحل النمو تختلف من مجتمع إلى آخر ولا يمكن بالتالي حصرها في سنة معينة. فالمراهقة التي تبدأ بصورة عامة في حدود 12-14 في المجتمعات الأوربية نرها تبدأ في حدود العاشرة مثلا في البلدان الأفريقية، وأزمة المراهقة التي تكلم عنها علماء النفس الغربيون قد لا نجدها في بعض المجتمعات كما هي الحال مثلا في جزر الساموا بحيث لا توجد روادع جنسية وأخلاقية.
وكذلك عقدة أوديب قد لا نجدها في بعض المجتمعات، وهذا يتوقف على طبيعة العلاقة الاجتماعية بين الطفل والأهل، ففي جزر تروبرياند تنصب عقدة أوديب على الخال وليس على الأب باعتبار أن الخال هو الأب الروحي والمسئول عن تربية الأطفال، ولا يمكن تحديد دور الأب نظرًا لتعدد علاقة الأم بالجنس الآخر، وإذا كان علماء النفس في أوربا ومنهم "بياجيه" قد عمدوا إلى تقسيم النمو إلى مراحل، فإن هذا الحماس لم يكن واردًا وبنفس الدرجة عند علماء النفس في أمريكا.
إن جيزل Gessell الذي يعتبر من أئمة علماء النفس التكويني لم يحدد بوضوح مراحل النمو المختلفة عند الطفل، بل يكتفي بدراسة النمو وعلاقة الطفل مع الآخرين منذ الولادة وحتى العاشرة، ومن العاشرة وحتى السادسة عشرة، وهو يتكلم عن الخصائص المميزة لكل سن، ويعتقد بوجود أزمة في النمو تبدأ في السادسة تقريبًا بحيث ينتقل الطفل من البيت إلى عالم المدرسة.
وإذا كان "فالون" يعتبر مثلا أن سن الثالثة هي مرحلة تأزم في شخصية الطفل تعرف بأزمة المعارضة، فإن علماء النفس يختلفون في تظرياتهم وتفسيراتهم، فمنهم من ينظر إلى النمو من وجهة التحليل النفسي كما فعل فرويد وأتباعه، ومنهم من ينظر إليه من ناحية التداخل الاجتماعي والانفعالي، ومنهم من ينظر إلى الموضوع من زاوية التطور العقلي والعمليات العقلية، ولا يمكننا الآن الدخول في التفاصيل.
ولكن كيف يحاول "بياجيه" الخروج من المأزق؟ وهل تقسيماته للنمو العقلي لا يمكن الاعتماد عليها لأنها ليست شاملة؟
إن المحور الأساسي عند "بياجيه" ليس الحدود أو التقسيمات الزمنية التي تتبدل وتتغير بالنسبة للأطفال والمجتمعات، ولكن تفكير "بياجيه" يرتبط بنظام التدرج أي تدرج العمليات العقلية ومرورها بمراحل تطور ثابتة، فهناك في المرحلة الأولى الذكاء الحسي الحركي، يليه الذكاء الحدسي فالذكاء المحسوس، وأخيرًا الذكاء المجرد، وإن معظم اختبارات "بياجيه" التي سيرد ذكرها فيما بعد تشير بوضوح إلى هذا التدرج الثابت في تطور العمليات العقلية، والبناء العام هو حصيلة البناءات العديدة المتدرجة والتي تصل أخيرًا بالطفل إلى درجة التوازن
والتفكير المنطقي، وينظر "بياجيه" إلى المراحل على كونها وسيلة أو أداة ضرورية لدراسة وتحليل العمليات العقلية، لذا لا تشكل المراحل هدفًا بحد ذاتها بل هي وسيلة لتسهيل الدراسة، ولكن هذا الرأي ليس مشتركًا بين علماء النفس الذين ينظرون إلى الموضوع من وجهات نظر مختلفة كما ذكرنا، لهذه الأسباب وغيرها لا يمكننا في الوقت الحاضر أن نتحدث عن وجود مراحل عامة ثابتة وبصورة مطلقة، والأبحاث المقبلة قد نجد جوابًا لهذه المسألة المعلقة.
فإن قسمت حياة الإنسان إلى مراحل فهذا فقط من أجل الدراسة، فنمو الكائن الإنساني سلسلة متصلة من الحلقات تتأثر بما قبلها وتؤثر فيما بعدها، وعلى ذلك فنظرتنا نظرة متكاملة كلية وليست نظرة جزئية لمراحل النمو الإنساني.