الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
9 - كتاب مواقيت الصلاة
واعلم أَنَّ حديث إمَامة جبريل عليه السلام أساس الأحاديث في بابِ الأَوقاتِ وإن لم يخرجه الشيخان، لكن في حديثِ البابِ إيماء إليه فَحَصلت له نوعُ رِفعة، فلنشرح أَوَّلا ألفاظَه ثُمَّ لنعرِّج على مباحثِه.
1 - باب مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَفَضْلِهَا
وَقَوْلِهِ {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ.
521 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا وَهْوَ بِالْعِرَاقِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىُّ فَقَالَ مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ «بِهَذَا أُمِرْتُ» . فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ أَوَإِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ أَقَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقْتَ الصَّلَاةِ. قَالَ عُرْوَةُ كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِى مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ. طرفاه 3221، 4007 - تحفة 9977 - 139/ 1
521 -
قوله: (أَخَّرَ الصَّلاةَ يومًا) وعند البخاري في بدءِ الخلق: «أخر العصر شيئًا» وعند أبي داود «كان قاعدًا على المنبر» . فقوله: «يومًا دَلَّ على أنَّه لم يَكُن إذ ذاك أمير المؤمنين.
قوله: (أنَّ جبريل نَزَل) وفي رواية للشافعي رحمه الله تعالى أَنَّه أَمَّهُ عند المقام تلقاء الباب، وهذا يَرد على مَنْ قال إن قِبلتَه صلى الله عليه وسلم في مكة كانت بيت المقدس، وإنَّما أَبْهم الأمر لأنَّه كان يُصلي مستقبلا بهما وذاك لأنَّه لا يُمكنه استقبالَ بيت المقدس فيما قلنا. وفي «سيرة محمد بن اسحق» أَنَّه نَزَلَ عند زوال الشمس ولذا سُميت بالأولى فتصدى الناس إلى بيان النكتة في نزوله في الظهر دون الفجر، فقيل: إنه كان نائمًا صبيحة الإِسراء فلم يحب جبرئيل عليه السلام إيقاظَه، وهو غلط ومنشأه الخلط بين السفرين في الليلتين ليلة التَعْرِيس وليلة الإِسراء،
وإنَّما نام النَّبي صلى الله عليه وسلم في الأول دون الثاني، فما كان وقع في ليلة التعريس نقلوه في ليلة الإِسراء بمجرد اشتراك كونهما في الليل، ولا حاجة إلى بيان النُّكتة على ما حققتُ سابقًا من ادعاء فرضية الصلاتين قبل الإِسراء أيضًا، واتفق الكُل على أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يُصليهما قبل الإِسراء، وإنَّما تكلموا في صفتِهما هل كانت فريضةً أو تطوعًا.
فذهب جماعة إلى فرضيتهما وهو الذي أختارُه، والأصلُ أَنَّهما صلاتان كانتا على بني إسرائيل كما هو عند النَّسائي فبقيتا على أُمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم وصلاهما النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه حتى صارت خمسًا، وقد ذَكَرهما القرآن في غير واحدة مِنَ الآيات
(1)
، وقد تُذْكَر معهما صلاة الليل أيضًا، وهي أيضًا من الابتداء ولم تنسخ بتمامها أصلا، وإنَّما غيَّر في صفتها وبقيت منها الوتر كما سيجيء تقريره، وحَمْلُها على الصلوات الخمس غير مرضي عندي، والوجه فيها: أَنَّ تلك الآيات كانت فيما لم تَكُن فريضة إلا هاتان ولا أجد فَرْقًا في صفة أدائهما قبل الإِسراء وبعده، فقد رُوِيَ في الصحيحين: أنَّه صلى بأصْحابه الفجر بالنَّخْلَة حين ذَهَبَ عامدًا إلى عُكاظ واستمع له الجِنّ، وفيه أنَّه جَهَرَ بالقراءةِ فثبتت الجماعةُ والجهرُ أيضًا، وهذه شاكلتها بعد الإِسراء أيضًا، فما الدليل على أنها كانت نافلةً؟ ومِنْ هذا التحقيق خرج غير واحدة مِنَ الآيات من التأويل وهي التي ذُكِرت فيها الصَّلاتان فقط كقوله تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)} [ق: 39] فلا حاجة إلى إدخالِ الصَّلاةِ الخمس فيها.
وما وقع عند الدَّارقطني أنَّه نزل في الصبح فهو أيضًا وَهْمٌ عندي، والتبسَ عليه تَعْليم النَّبي صلى الله عليه وسلم أعرابيًا في المدينة بتعليم جبريل إيَّاه في مكة، وكانت أَوَّل صلاة صلَّى به صلى الله عليه وسلم هي الفجر، قال ابن كثير: صلاتُه صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس ذاهبًا كانت تحية المسجد، وآيبًا كانت الفجر.
قوله: (صَلَّى فَصَلَّى) وفي غير صحيح البخاري أَنَّ جبريل عليه السلام صَلَّى به مرتين، وما في هذه الرواية يدل على إمامته يومًا فقط، فإِما أَن يُقال إنَّ الرَّاوي اقتصرَ في تلك الرِّوايات، أَوْ يُقال إنَّ الفِعلَ مُطْلَق يَصدُق على مرة كما يصدُق على ألف مرة، فيُقال ضرب لمن ضرب مرة ولمن ضرب مرارًا كذا قاله سيبويه كما في «الجامع الكبير» للشيخ بَلْبَان الفارسي، ولذا قالوا: إنَّ التثنية والجمع من خواص الاسم، وهو في الفعل لحال فاعله، وحينئذ تَنْدَرِج صلاة يوميه في فِعْلٍ واحدٍ، والرواية المُفَصَّلة عند أبي داود وفيها ذكر اليومين وصلاته فيهما مُفَصَّلة، وفي آخرِها «ثم لم يُسْفِر بعد» وتكلَّم المُحدَّثون في الجملة الأخيرَة وإن ثبَتَت فالأمر أيضًا سهل.
ثمَّ قيل: إنَّ الفاء في قوله: «فصلَّى» لبيان صلاتِه في عمره، يعني أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى فيم بعد كما كان جبريل عليه السلام علمه، وقيل: بل هي لبيان التعقيب بين أجزاء الصَّلاةِ بحسب الإِمامة والاقتداء. وقد مَرَّ مني أنَّ الفاء قد تَدْخُل الأمرين المتَعاقِبين ذاتًا وإن كانا متقارنين
(1)
وقال رحمه الله: تبلغ الآيات التي ورد فيها ذكر هاتين الصلاتين صراحة أو إشارة إلى ثلاثين آية. المصحح البنوري.
زمانًا، فلا يخالف مسألةَ الحنفية في مقارَنَة الأَفْعَال بين الإِمام والمقتدي، وليس في أحدٍ من طُرُقِه تفصيل الأوقات إلا في رواية عند أبي داود، وعلله المحدِّثون أيضًا، نعم في حديثِ إِمَامةِ جبريل عليه السلام الذي شير إليه في هذا الحديث تفصيل ذلك، وفي مراسيل أبي داود عن الزُّهري والحسن أنَّه صلَّى أربعًا.
قلت: والمرسَلان معلولان لِمَا في البخاري أنَّ الصَّلاة قَبْلَ الهجرةِ كانت مَثْنَى مَثْنَى، وإنَّما قاسها الرَّاوي على الحالةِ الرَّاهِنة فذَكَرها أربعًا.
قوله: (اعلَمْ ما تُحَدِّثُ به) يعني أَنَّك لستَ بصحابي فأْتِ بسنَدِهِ ولا تَرْوِ مرسلا هكذا قالوا: والوجه عندي أَنَّ الاستبعاد على تعليمه فعلا، مع أنَّ التعليم القولي أيضًا كان كافيًا له، ولذا قال: أو إِنَّ جبريل هو أقامَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني حتى تَعَلَّمَ الصَّلاةَ مِنْ فِعلهِ، فأجابه عروة: إني لا أَرْوِيه إلا بالإِسناد فَخُذْه مني فَذَكَره كما في الكتاب
(1)
.
522 -
قَالَ عُرْوَةُ وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِى عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّى الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ فِى حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ. أطرافه 544، 545، 546، 3103 - تحفة 16596
522 -
(والشمسُ في حُجْرتِها) دلَّ على تَعْجيلِ العصر، وأجاب عنه الطَّحاوي أَنَّ الجُدر كانت قصيرة فلم تكُن الشمس تخرج منها إلا قُبيل الغروب، وكان الطَّحاوي قاله في العصر، فنقله بعضهم في التغليس، وفَهِم أنَّ الطَّحاوي جعلَه وجهًا للتغليس.
وحاصله: أَنَّ الصحابةَ إنَّما ذكروا التَّغْلِيس لِقَصر جُدْرَان مسجدِه فلم يكُنِ الضوء يَدْخله إلا بعد الإِسفار الشديد، ثم اعتُرِض عليه أنَّه تحميق لهم والعياذ بالله، وهذا كما ترى بناء الفاسد على الفاسد.
ثم إنَّ الخلافَ في تأخيرِ العصر في الاستحبابِ دونَ الجواز فَيُسْتَحب تَأْخِيرُها عندنا قَبْل ضَعْفِ الشمس وهو المُرادُ من الإِحمرار والإِصفرار، والتمكُّن مِنَ النَّظرِ إلى قُرص الشمس وانكسارِ الشعاع، فإِنَّ هذه أمور لا تَحْصُل إلا عند ضَعْفِها، فإِذا ضعفت اصفرت، ويُتمكَّن النَّظر إليها. وفي «تحفة المحتاج» للشافعية رحمهم الله، أَنْ يُصلِّي العصر حين يَبْقى ربع النَّهَار أو
(1)
ولعل الظَّاهِر ما قاله القرطبي كما في العيني: أَنَّ وَجهَ الإِنكار أَنَّه لم يَكُن عندَه خبر من إِمَامةِ جبريل عليه السلام، والدليل عليه ما أخرَج الحافظُ رحمه الله في "الفتح" عن "مصنَّف عبد الرزاق" زيادة قال: فلم يَزلْ عُمر يعلم الصَّلاة بعلامة حتى فارق الدنيا. وعن أبي الشَّيْخ ما زَال عمرُ بن عبد العزيز يَتَعلم مواقيت الصَّلاة حتى مات. فَدَلَّ على أنَّه لم يَكُن قَبْل ذلك عندَهُ عِلمٌ مِنْ الأوقاتِ كما هي حتى عَلِمها من حديث إمامة جبريل عليه السلام.
قلت: ما قاله القرطبي هو عين ما اختاره إمام العصر، فإنَّه استبعدَ الأمرَ واستعظمه لأجل أَنَّه لم يكُن عندَه خبر إمَامَة جبريل وما نقلَهُ الحافظُ يدلُّ على أنَّه لم يكُنْ عندَهُ على المواقيتِ فضلًا عن إمَامةِ جبريل وظاهرُ هذا مستَبعدٌ عن مِثل عمر بن عبد العزيز بل عِلْمُ المواقيت فرضٌ على كل مؤمنٍ فضلًا عن صحابي، ثم عن مثله، بل هذه الأوقات قبل الإِسلام كانت معروفة فيهم كما سيأتي، فيتأول فيما أخْرَجَه الحافظُ عن عبد الرزاقِ وعن أبي الشَّيْخ ولا بُدَّ، فليتنبه المصحح.
خمسه. وصرَّح الشامي منَّا في «شرح قِصة الدَّجال» والتقدير في يومِهِ الطويلِ للصلوات: أنَّه يُصليها إذا بقي خمس النَّهار أو سدسه. فلم يَبْق بين الإِمامين فَرْق كثير، ولكنَّ المشغوفون بالخلافِ يتعسر عليهم التقريب، فيجعلون الخلافَ على طرفي نَقيض فإِذا نُقَّحَ وحقَّق هان، لأنَّه لم يَبْقَ إلا بسدس النَّهار فتشكر. وعند أبي داود في باب الجمعة مرفوعًا: أنَّه قال يومُ الجمعةِ ثنتا عَشْرَةَ، يريد ساعة لا يُوجد مُسْلِمٌ يسأل الله شيئًا إلا أتاه الله عز وجل، فالتمسوها آخِرَ ساعةٍ بعد العصر.
وهذا الحديث وإِنْ لم يُسق لهذه المسألة عبارة لكنَّه دلَّ على أَنَّ التَّأْخِير مُسَلَّمٌ في ذهن المُتَكَلِّم حتى ينبع مِنْ أَطْرافِ كلامِه، ويُعلم منه كأنه مفروغ عنه عنده فكأنَّه أَدَّاهُ كالعلم الحُضوري لا يغيب عنه، كذلك التأخير بالعصرِ ههنا فإِنَّه مُتكلم في باب آخر، والتأخيرُ لا يَزال يَخْرج من عَرْضِ كلامِه كالعِلم الحضوري لا يذهل عنه، وعند الترمذي عن أم سَلَمة كان رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ تعجيلا للظُّهر منكم، وأنتم أَشدُّ تعجيلا للعصر منه، وبوَّب عليه الترمذي بتأخيرِ العَصْرِ واستدل الإِمام محمد بما أخرجَهُ هو، وأخرجه الشيخان: إنَّما أجلكم فيما خلا مِنَ الأُمم كما بين صلاةِ العصر إلى مَغْرِبِ الشمس، وفي الحديث «أنا والسَّاعة كهاتين» .
فدلَّ على أنَّ وَقْتَ أَمَّتِه أَقل قليل، فلا يكونُ مِنْ صلاةِ العَصرِ إلى الغُروبِ إلا وقتًا قليلا، وهو محمول على المبالغةِ، وإلا فهو دالٌّ على أزيد من التأخير الذي أَرَدْنَاهُ وسيأتي الكلام فيه.
الفائدة الأولى: في ذِكْرِ الآيات التي فيها الإِيماء إلى الصَّلواتِ الخمس. واعْلَم أَنَّ المفسرينَ تعرضوا إلى عد الآيات التي فيها إيماء إلى الصَّلواتِ الخمس، وهي عندي عدة آيات على ملاحظ مختلفة، واعتبارات شتى، فمنها قوله تعالى:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} [الروم: 17 - 18] ومنها قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ} [هود: 114] ومنها قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] ومنها قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)} [ق: 39 - 40].
فَذَكَر الصَّلوات الخمس في الآية الأولى في أربعة ألفاظ، فبدأ أَوَّلا بِذِكْرِ طرفي النَّهار وهو الصَّباح والمَساء، فدخلت صلاة الفجر في قوله {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ، والمَغْرِب والعشاء في قوله {حين تمسون} لأنَّ المساء صالحٌ للعشائين، أمَّا صلاة العصر والظهر فَذَكَرهما في قوله:{وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} وذكرها في الآية الثانية في لفظين فقط أي طرفي النَّهار والزلف، وطرفا النَّهار هما نصفاه، فالصبحُ في نصف، والظهر والعصر في نصف آخر، أمَّا العشاءان فأدرجهما في الزُّلَف، وتمسك منها الحافظ مُغْلَطاي على وجوب الوتر، بأنَّ الزُّلَف صيغة جَمْع، وأقله الثلاث، فلا بد أَنْ تكونَ هناك صلاة ثالثة وهي الوتر، وقال الحافظُ رحمه الله إِنَّه تشديد من مُغْلَطاي وليس في الآيةِ ما يدلُّ عليه، ولم يِقْدِر على جوابه.
قلت: الْحافظُ وإنْ عَجَزَ عن الجوابِ لكِنْ أقول أنا: لا دليلَ في الآيةِ المذكورةِ على وجوب الوتر، أَمَّا جمعية الزُّلَف فهي باعتبارِ وقوع العشاء في هذه الحصة تارة، وتارةً في
الحصةِ الأُخْرَى، فكانت باعتبار حِصَص الليل وساعاتِه من حيث تعجيلِ العشاء وتأخيره، فأخذها باعْتِبار أنواعِ الصَّلوات.
أما الآية الثالثة: فهي على شَكِلَةِ حديث جبريل عليه السلام وبدأ فيها مِنَ الظُّهْرِ، ولف الأربع في قوله:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ} وفَصَل منها الفجر وعدَّها مستقلة، وذلك لأنَّ أَوْقَات الأربع كانت مُسَلْسَلة مِنَ الدُّلُوك إلى الغرب بخلاف الفجر، لأنَّها في طَرَف، وبينهما وبين الظُّهْرِ وقتٌ مُهْمَلٌ جَعَلَهُ الله لِمَنْ فاتَتْهُ وظيفتهُ مِنَ الليلِ أن يؤديها فيه، فتحسب له كأنَّما قَرَأَها من الليل، وهو تأويلُ قوله تعالى:{وجعلنا الليل والنَّهار خِلْفَة لمن أرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أو أراد شكورًا} [الفرقان: 62] والخلافة حيث يخلف ما في النَّهار عمَّا في الليل، وتَعرَّض في الآية الرَّابعةِ عن وَقْتِ الصبحِ والعصر أيضًا، بكون إحداهما قَبْلَ طُلُوعِ الشمس، وأُخْرى قَبْلَ غُرُوبِها تنبيهًا على وقتَيْهِمَا. وَذَكَرَ المَغْرِب والعِشَاء في قوله:{ءانَآء الَّيْلِ} على شاكلة {وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ} . بقيت الظُّهر فَجَعَلَها في أطرافِ النَّهار، والجمعية ههنا كجمعية الآناء والزلف هناك، باعتبارِ وقوعِ الظُّهْرِ تارةً في أوَّل وقتها، وأُخْرَى في غيره، فهي أيضًا باعتبارِ السَّاعات.
والحاصل: أنَّه حيث ثَنَّى الطَّرَف أَرَادَ به جَانِبيّ النَّهار وحيث ذَكَرَهُ بصيغةِ الجمع قَصَرَهُ على ساعاتِ الوقتِ، باعتبارِ وقوعِ الصَّلاةِ في أَجْزَائِها، لأنَّه لا يكونُ لشيء واحدٍ إلا طَرَفان، فلا تستقيمُ الجمعية إلا بأَخْذِها في الوقت. ولَعَلك عَلِمْتَ أَنَّ مِصْدَاق تلك الآياتِ واحدٌ، وإِنَّما تَفَنَّنَ فيها في العبارات لمعانٍ وَملاحِظ، عليك أَنْ تتأملَ فيها حتى تَذُوقَ حلاوتَها
(1)
.
(1)
قلتُ: وحاصلُ هذه الآيات، أَنَّه يجبُ على ابنِ آدم أَنْ يَعْمُرَ أوقاتَه بالتسبيح، والصلاة، وإِنْ كانت السماواتُ والأرضُ مملوءة بحمدِه، وكذلك يُسبِّحُ له من السماواتِ والأرضِ كيف لا، وهو خَليفَة الله في خَلِيقَتِه، فيجبُ عليه أَنْ يسبِّحهُ مساءً وصباحًا، وحين زوالِ الشمس وقَبْل الغروب، وهذه هي أُمهاتُ الأوقات، باعتبارِ تحولات الشمس، فَوَضع فيها التسبيحَ لربه الأكبر، ليَعْلَم أَنَّ مَنْ كان محطًا للتحولاتِ، مبتلى بأنواع التغيرات، مسخرًا بالأفول أثر الطلوع، والسجود عقيب الركوع، والاصفرار بعد اللموع، كيف يَصْلُح أَنْ يكون ربًا للهلوع المنوع، فليقل كما قال الله:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] وإليه أشار في قوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} . فذكر دلوكها كأنّ أوقات الصّلاة منقسمة عليها، وهو كما في الكتب السالفة والدارمي من أوصاف هذه الأمة "يراقبون الشمس".
وإنَّما عَبَّر الصبح عن القرآن لبيان خصيصتِه فيه، وهو أَنْ الملائكةَ تشهدُها فيقتدون وَيستَمِعون، ولا يَقرَؤون، ولا يُنازعون، ولمَّا كان منَّا الإِسماع ومنهم الاستماع سُنَّ فيه طول القراءة، فإنَّهم ضيوفنا، نزلوا لاستماع القرآن العربي المبين، فليكرم الرجل ضَيْفَه ولا ينبغي إرجاعهم عِطَاشًا، ثم إذا أَمَر أنْ تُقَام الصَّلاة في طَرَفي النَّهار ناسبَ ذِكر الليل بما فيه، ولمَّا دَخَلَ الفَجْرُ في أحد طَرَفي النَّهار لم يَبقَ مِنَ الليل إلا الزُّلَف، وإنَّما عبَّرها بالزُّلَف دون الأَطرَاف لما فيها مِنْ معنى القُربة، ولو قال طَرَفي الليل لانقسم على النصفين، فإِنْ كان باعتبارِ العِشاءِ وصلاةِ الليل فليس بصحيح لصحةِ العشاء بعد النِّصف أيضًا على اختِلافِ الأَقْوال فيه، وإِنْ كان باعتبار العِشاء لكان دليلًا على جوازِها قُبيل الصُّبْحِ بدونِ كَرَاهةٍ. =
الفائدة الثانية: واعلم أنَّ القرآن لم يَتَعرض إلى تعيين أوقات الصَّلوات غير الفجر والعصر، فحدَّد أواخِرَهما بطُلوعِ الشمس وغروبِها، وأَمَّا سائر أوقاتها فَتَرَكها
(1)
على أسامِيها، كما ذَكَرَها الثَّعَالبي في «فقه اللغة» وراجع لها «شرح لأميةِ العجم» مِنْ قوله:
والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فإِنَّها كلَّها أسامي عُرْفية لا يُمكِن ضَبطها وتحديدها وإِنْ نُصَّ كالضحى، فإِنَّه اسم لجُزْءٍ مِنَ النَّهارِ يعلمه أَهل العُرْف بدون تَفَكُر، أمَّا لو شئتَ أَنْ تُحَدِّدَه تحديدًا لا وَكَس فيه ولا شطط، فلستُ أَرَاكَ تَقْدِر عليه، وعليه جاء القرآن فقال:{حِينَ تُمْسُونَ} فَذَكَر المساء والصباح، والظهيرة والعَشي، وهذه كلُّها أسامي لجُزْء جُزء مِنَ النَّهار، وإنَّما حَدَّدَ الفجر والعصر، لأنَّه، أمكن تحديدُها بالحس. ولذا انْعَقَد عليه الإِجماع، فلا يُعْلَم في آخرِ وقتِ الفجر والعصر خلاف يعتد به، إلا أَنَ الإِصْطَخري من الشافعية، وحسن بن زياد مِنَ الحنفية ذهبا إلى خُروجِ وقت الفجر بعد الإِسفار، لأن جبريل عليه السلام صلَّاها في اليوم الثاني حين أَسْفَرَ. وقال: الوقت ما بين هذين. وهو غريبٌ جدًا.
ولعلَّ مرادهما كراهة تَحرِّيها في ذلك الوقت، وليس مَذْهبًا لأحد أصلا، وإنَّما هو مِنْ ثَمَراتِ المبالغات، والشعف بالخلاف، كما قال بعض من الشافعية: إن الوتر بالثلاث باطل. وكذلك لم يَرِد في الأحاديث غير التقريب، ومَنْ حَمَلَها على غاية التَّحْدِيد، فقد تَكَلَّف بما لا يَقْدِر عليه هو، فإِذا لم تَقْدِر أنتَ على تَحْدِيدِ تلك الأوقات غير التقريب، فكيفَ ساغَ لك أَنْ تَحْمِل كلمات الرواة على أَنَّهم أرادوا به حق التعيين، أَلا تَرَى أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يَأْمُر الرَّجُلَ حين جاء يسأله عن أَوْقَاتِها إلا بِأَنْ يُصَلِّي مَعَهُ يومين ويُشَاهِدَ أوقات الصَّلوات بعينِه ولم يَكتَفِ
= ولهذا المعنى رَدَّدَ في المُزَمِّل فقال: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 2 - 4] أعني أنَّه إذا أَرَادَ القِسْمَة بين العِشاءِ وصلاةِ الليل لم يَجِدْ مِنَ الترديدِ بُدًّا، ولو قال أَطرَاف الليل لمَا كان أَرْجح من الزلُف على أَنَّه خَلَا عن معنى القُربة. ثُمَّ في ذِكْر الأطرَاف إِشارة إلى أنَّه طَلَبَ منه العبادة في حافتي النَّهار وترك حافة لحوائجه. {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل: 7] أمَّا الليل فالمقْصود إحياؤُه مهما أَمْكَن كما كان السابقون يفعلون {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} [الذاريات: 17] وإنَّما ذَكَرَ الزُّلَف منه تخفيفًا على حَدِّ الأَطرَاف في النَّهار فأَبْقَى النَّهار لحوائجه، ومن الليل لاستراحته، لأن الإنسان خلق ضعيفًا.
ولهذا المعنى لمَّا ذَكَر أَنَاء الليل أَدْخَل عليه "مِنْ" التبعيضية ليُعْلِم أَنَّ اللهَ يُرِيد بكم اليسر، ولا يُريد بكم العسر، وإنَّما لم يَقُل مِنْ أَطْرَاف النَّهار، لأَنَّ الطَّرَف مِنْ لفظه يدل على التبعيض، فإِنَّ طَرَف اسم لجُزْءٍ مِنَ الشيء إِمَّا في الأَوَّل أَوْ في الآخر، ولذا قال:{وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} ولم يقل مِنْ آناءِ الليل وأطرَاف النَّهار. فهذه نِكَات وَرَشَحَات سَنَحَتْ لي وقت التحرير بدون كثير تفكر، فَذَكرْتُها على قَدْرِ عِلْمي {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] والقرآن مما لا تَنْقَضي عجائِبُه.
(1)
فعند الطَّحاوي: عن عبدِ الله بنِ محمد بن عَقِيل قال: سمعتُ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ يقول: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يؤَخِّر الفجر "كاسمها". وعنده عن أبي قِلَابة أَنَّه قال: إِنَّما سُميَتْ العصر لتعصر وإنَّما كانت العرب تسمي العِشاء العَتْمَة، لأَنَّها كانت ساعة يعتمون فيها الإبل على أَنَّ قوله تعالى:{حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17]{وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] يَدلُّ على أَنَّه إحالة على ما هو المَعْرُوف عِنْدَهم مِنَ الأوْقَاتِ.
بالتعلِيم القولي، وذلك لأنَّ تحدَيدِها لا يمكن بمجَرَّدِ القولِ، ولعلَّ جبريل عليه السلام أيضًا، نَزَلَ لهذا السو فصلَّى به، وعَلَّمَهُ أوقاتها عَمَلا، ولذا تَرَى الرُّواةَ يُحَدِّدُونَ الأوقات، تارةً بِذِكْرِ المَسَافَةِ وأُخْرَى بذِكْرِ ظِلالِ الأشياء، ثُمَّ قد يُبالِغُون فيه حَسَب داعية هناك، وقد يَذْكُرونها برؤية مواقع نَبْلِهم، وفي العصر أنَّ الشَّمْسَ كانت حية، فهل ترى تلك التعبيرات كلها تَنْزِل على التقريب الذي أَرَدْنَاه أو على التحديد الذي راموه.
ثُمَّ أي تحديدٍ في قوله: وكان ظِلُّ الرَّجُل كطوله مَا لم تَحْضُر العصر، فأراد مِنْ أَوَّلِ كلامِهِ التحديد شيئًا ثُمَّ لم يَقْدِر فَعَدَل عنه إلى التقريب، فقال: ما لم تَحْضُر العصر.
ولو أنَّ النَّاس فَهِمُوا هذه الدقيقة، لَمَا ضَرَبوا بَعْضَ الأحاديث على البعض، ولعَلِمُوا أَنَّ الدِّينَ أَبْقَى لهم فُسْحَة مِنْ عندِه وأَرَادَ أَنْ يُبْقي النَّاسَ في يُسر وكم مِنْ أشياء أَهمَلَها الشارع لذلك، ولا تسألوا عن أشياء إن تُبْد لكم تَسُؤْكُم.
الفائدة الثالثة: واعلم أنَّه انعقَدَ الإِجماعُ على أَوَّل وَقْتِ الفجر وآخرها، وكذا في أَوَّلِ وقت الظُّهر، واختلفوا في آخرها، وتَعَدَّدَت فيهِ الرِّوايات عن الإِمام، ومِنْ ههنا اختلف في أَوَّل وقت العصر، واتفقوا في آخرِها، ولهذا اتفقوا في أوَّلِ وقت المَغْرِبِ، وإِنَّما لم يَخْتَلِفوا في الفَجْرِ في أَوَّلِها وآخِرها، لكونِه مُتَعينًا في الحسِّ بانْبِلاجِ الفَجرِ، وطُلوعِ الشَّمْسِ، وكَذا أَوَّل وَقْتِ الظُّهر، لأنَّه مِنْ حين الزَّوال وهو أيضًا مشاهد، وفي آخر وَقْتِ العَصْرِ وأَول المَغْرِب، لأنَّه أيضًا يَنْتَهي بأمرٍ مُشَاهَد.
واخْتَلفوا في آخِر المَغْرِب، وَأَوَّل العِشاء وآخرها شيئًا، ومُعْظَم اختلافِهم في آخرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وأَوَّل العصر وليس في سائرها إِلا نذر مِنَ الخِلاف. فقال مالك رحمه الله تعالى: بالاشتراك قَدْرَ أربع رَكَعَاتٍ بين آخر الظُّهْر وأَوَّل العصر، فَوَقْتُ العَصْرِ يَدْخُل عنْدَهُ بمصيرِ ظلِّ الشيء مثله، ولا يَخْرج وَقْتُ الظُّهر إلا بَعْدَ قَدْرِ أَرْبَع رَكَعَاتٍ، فقدر أَرْبَع ركعات مْشْتَرك يَصْلُح للظهر والعصر عنده، وإليه ذَهَب جماعةٌ وبعضٌ مِنَ الشافعية، إلا أنَّهم اختاروا أَدْنَى فاصلة بينهما بدونِ قولٍ بالاشتراك كأَنَّه وقتٌ مُهْمَلٌ عندَهُم
(1)
.
ثُمَّ أكثر الشافعية رحمهم الله تعالى والجمهور إلى أَنَّه يَخْرُجُ وَقْتُ الظُّهْرِ بمصيرِ ظلِّ كل شيءٍ مثلَه ويَدْخل وَقْتُ العَصْر.
وأمَّا الإِمام الهُمام فظاهرُ الرواية عنه في المَشْهُور أَنَّ وَقْتَ الظُّهر لا يخرج إلى أَنْ يَصِيرَ الظلُّ مثلَيه ثُمَّ يَدْخُل وقت العصر وليت شِعْري مِنْ أَيْنَ جعلُوها ظاهر الرواية مَعَ أَنَّ آخِرَ وقْتِها لم يُذْكَر في «الجامع الصغير والكبير» ولا في «الزيادات» ولا في «المبسوط» ، وصَرَّح السَّرْخَسي:
(1)
قلتُ: وكَتَبَ مولَانا عبد الحي رحمه الله تعالى في "حاشية الموطأ" نقلًا عن "الاستذْكَار" أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الفَجْرِ عِنْدَ مالك رحمه الله تعالى وأصحابه إذا كان ظِلُّ كل شيء مثله بعد القدر الذي زالت عليه الشمس وهو أَوَّل وقت العَصْر بلا فَصْل ثم ذَكَر عن الشافعي رحمه الله تعالى الفاصلة بينهما مع أَنَّ المَشْهُور عن مالك رحمه الله تعالى خلافه فكأَنَّه أَخَذ رواية أخرى عنه فليحرره.
أَنَّ محمدًا لم يَتَعَرض إلى آخر وَقْتِ الظهر، وهو ظاهر «موطأه» حيث قال: وأمَّا أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإِنَّه قال: لا يَدْخُل وقتُ العَصْرِ حتى يَصِيرَ الظِّلُّ مثليه، ولم يَذْكُر آخر وقتِ الظهر عنه. وفي «البدائع» أنَّ آخر وقْتِهِ لم يُذْكَر في ظاهر الرواية. وكذا ليس ذكرهِ في «السِّيَرَ الكبير» ولم أرَ «السِّيَرَ الصغير» فإِذا خَلَتْ هذه الكُتب الستة عن ذِكْر آخر الوقت عُلِمَ أَنَّه لم يجىء في ظاهرِ الرِّواية، ولعلَّهُم أَرَادوا منه معناه اللُّغوي أي الرِّواية الظاهرة المشهورة على الألسنة دون التي في مُصْطَلَحِهم، والرِّواية الثانية عنه كَمَذْهَبِ الجمهور، وَنَقَلَ السيد أحمد الدَّحْلاني الشافعي رحمه الله تعالى رجوعَ الإِمامِ إلى هذه الرِّواية عن خِزَانة المفتين، والفَتَاوَى الظهرية وهما من المُعْتَبَرات،، وأما خِزَانة الرِّوايات فغير معْتَبَرة عندي، وفي عامةِ كُتُبِنَا أنَّها عن حسن بنِ زياد عن أبي حنيفةَ وجعلها في «المَبْسُوط» السَرْخسي عن محمد وبها أَفْتَى صاحب «الدُّر المختار» ، ورَدَّ عليه ابنُ عابدين بأنَّها خِلافُ ظاهرِ الرِّواية فلا يُفْتَى بها، والأَرْجَح عندي ما اخْتَارَهُ صاحبُ «الدُّر المختار» ، والثالثة: أَنَّ وقَتَ الظُّهْرِ إلى المثل ولا يَدْخُل وقْتُ العَصْرِ إلا بعد المِثل الثالث، والمِثل الثاني مهملٌ، وهي رواية أسد بن عمرو عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى. والرابعة: كما في «عمدة القاري» وصححها الكَرْخِي أنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ إلى أقل مِنْ قامتين ولا يَدْخُل وقْتُ العَصْرِ حتى يَصِير قامتين.
وبه قال مالك رحمه الله تعالى: إلا أنَّه حَدَّدَ الوقتَ المُهْمَل بِقَدْرِ أَرْبَع رَكَعات، وَجَعَلَهُ
(1)
مشتركًا، ثُمَّ جاء المالكية فافْتَرَقُوا في تفصيلِهِ على فِرقتين: فقيل: إن القَدْرَ المُسْتَثْنَى في آخر المِثل، وقيل: بل مِنَ ابتداء المِثْل الثاني.
فإِذا حَقَّقْتَ الرِّوايات، فاعلم أَنَّ النَّاسَ جَعَلُوها روايات شتى، وهي تَنْحَط على مَحطَ واحدٍ، ومرجع الكُل عندي، أَنَّ المِثْل الأَوَّل وقتٌ مُخْتَصَرٌ بالظُّهْرِ، والمِثل الثالث بالعصر، والثاني يَصْلُح لهما، والمطلوبُ هو الفاصلةُ بينهما في العمل، فإِنْ عَجَّل الظُّهر فَصَلاها بعد الزَّوَال يُعَجِّل العصرَ ويصلِّيها على المِثل، وإِنْ أَخَّرَ الظُّهْرَ فصلاها على المِثل يُصلي العصر أيضًا مؤخِّرًا إبقاءً للفاصِلَة بينهما، فلا يُؤَخِّر الظهر مع تَعْجِيلِ العصر، لأنَّه رُبما يُوجِب الجَمْع مَعَ أَنَّ المطلوبَ هو الفاصلة، نعم تلك الفَاصِلة قد تَرْتَفِع لأَجْلِ السَّفر والمرض، فللمُسَافر أَنْ يَجْمَع بين الظُّهر والعصر في المثل الثاني.
وكَذَلِكَ جَازَ للمستحاضَة أَنْ تَغْتَسِل ثُمَّ تَجْمَعَ بينهما في غُسلٍ واحد، ومِنْ ههنا اندفعت الشُّبْهة
(2)
العظيمة، أَنَّ خُروجَ الوقتِ أو دُخولَه
(1)
قلت: وقد ذكره العيني في باب صلاة العصر في حديث محمد بن مقاتل عن سيَّار بن سَلَامة.
(2)
قال الطحاوي في مشكِله: وجهُ الجَمْعِ عندنا -والله تعالى أعلم- على الرُّخْصةِ لها منه في الجمع بين الصلاتين لما ذكر في بدء الحديث أنه لا يأتي عليها وقتُ صلاة إلا احْتَمَلَ أنْ يكونَ فيه حائضًا لا صلاةَ عليها فيه، أوْ طاهرًا من حيضٍ واجبًا عليها الغُسل، أو مستحاضَة واجبًا عليها الوضوء، فكان الذي عليها في ذلك أَنْ تَغْتَسِل لها على عِلْم منها، بأَنَّها طاهرة طُهْرًا يجزيها معه تلك الصَّلاة، فلمَّا عَجَزت عن ذلك وضعفت عنه جَعَلَ لها أَنْ تَجْمَعَ بين الظُّهْر والعصر بغسل واحد، وبين المغرب والعشاء بغُسلٍ واحد، بتأخير الأُولى منهما إلى وَقْتِ الأخيرة منهما، وتُصلِّي الأخيرة منهما في وقتها، وتغتسل للصبح غسلًا، فتصلِّيها وهي طاهرة بذلك =
لمَّا كان ناقضًا لطهارة المعذور عندنا كيف أمر المستحاضة أَنْ تَجْمَع بين الصَّلاتين في غُسل واحد، لأنَّه يُوجب عندنا أَنْ تكونَ صلاتُها الثَّانية في حالة الحَدَث.
والحل عندي: أَنَّه أَمَرها بالجمع في الوقت الصَّالح لهما، ومسألة النقض بالخُروج أَوْ الدُّخول فيما خرج الوقت المختص، أو دَخَل الوقت المختص، أمَّا الوقت الصالح لهما فلا كَلامَ فيه وما أَخْرَجَه أبو داود في باب الاستحاضة. والوضوء فيما بين ذلك، حمله بعض الأَعلامِ على ذلك وفَهموا أنَّ المرادَ به الوضوء فيما بين الصَّلاتين لانتقاضِ طهارتها بعد الصَّلاة الأُولى، وهو عندي للحَوائجِ الأُخر، يعني أَنَّه علَّمَها الغُسل لصَلاتِها، فإِنِ احتاجَت إلى غيرها لحمل المصحف، فإِنَّها تَكْتَفي بالوضوء فهذا الوضوء لحاجاتٍ تعتري لها فيما بين ذلك إذا انْتَقَضَتْ طهارتها، وكان تعليمه أيضًا مهمًا وهذا الذي وَعَدْنَاك في باب الاستحاضة في أَمْرِ طهارتِها، فإِنْ سَمَحَت به قريحتُك فهذا سبيلُ الجواب، وإلا كَفَاك رواية أبي داود على الشرح المشهور، ولا رَيْبَ أَنَّ اللفظَ يحتمله أيضًا.
أمَّا ما قلت إنَّ الرِّوايات كلها تشير إلى معنى واحد وكلها شطر للمراد فبأن الرواية الأولى تدل على أَنَّ المِثْل الثاني للظهر، وَدَلَّتِ الثانية على أَنَّه وقت للعصر أيضًا فلزم القول
(1)
بالاشتراك. وعُلِمَ أَنَّ المِثل الثاني صالح لهما، ولمَّا لم تَقَع العصر في المِثل الأَوَّل والظُّهر في المِثْل الثالث قَطْ لَزِمَ أَنَّ المِثل الأَوَّل وقتٌ مختصٌّ بالظُّهْرِ والثالث بالعصر بحيث لا تَصْلح إحداهما في وَقْتِ الأُخْرى، وأمَّا الرواية الثالثة مِنْ أَنَّ المِثل الثاني وَقْتٌ مُهْمَلٌ فلم تجيء لبيانِ
= الغُسل، وهذا أحسن ما تَقْدِر عليه تلكَ المرأة في صلاتها. فإِنْ قال قائل فلم أمرت أَن تصَلِّي الصَّلاتين في وقت الأخيرة منهما، ولم تُؤمَر أَنْ تُصَلِّي في وقت الأُولى منهما. قيل له: لمعنيين أَمَّا أَحدُهما فلأَنَّها لو صَلَّتْهما في وقت الأُولَى منهما لكانت قد صَلَّت الأخيرة منهما قَبل دخولِ وقتها، والآخر أَنَّها إِذا دَخَل عليها وقتُ الأخيرة منها وَجَبَ عليها الغُسل، فتكون به طاهرة إلى آخرِ ذلك الوَقت، وتكون إذا صَلَّت فيه الصَّلاتين جميعًا صلَّتْها وهي طاهرة. انتهى باختصار.
قلت: قد تَكَلم الطَّحاوي على أحاديث المُسْتَحاضَة في "معاني الآثار" مَبسوطًا جدًا ما بَسَطَ مثلَه إلا في باب الوتر وبعض أبواب أُخر، لكِنْ لِدِقَّتِهِ وغموضِهِ لم أفهمه.
وهذا الكلام وإِنْ كان مختَصرًا لكن ظاهرُه على ما أَفْهَم أَنَّه حَمَلَهُ على جَمعِ التأخيرِ وقتًا، فلينظر الحنفية مسائلهم أنهم هل يلتزمون ذلك. ثُمَّ العجب أَنَّ الطَّحاوي لم يَتَكَلَّم فيه كأَنَّه رأى منه، بل ظاهره أَنَّه مِن جانبِ المذهب، وإلا لناسَب له أَنْ يُنبِّه عليه كما يَفْعَل في "معاني الآثار". وكذلك لا أَفْهَم ماذا أَرَاد من ثاني الوَجْهَين في دفع الإِيرادِ، وإنَّما نَقَلْتُ كلامَهُ لأنَّه حامل لواءِ مذهب الحنفية، فلينظر فيه العلماء على قَدْرِ عِلْمِهِم فَرُبَّ مبلغ أوعى من سامع والله تعالى أَعْلَمُ بالصَّواب.
(1)
قلت: وما يَدلُّك على ثُبوتِ الاشتراكِ عند البعض ما حكاه العيني في باب صلاة العصر ناقلًا عن "مغني ابن قدامة" عن رَبيعةَ أَنَّ وقْتَ الظُّهْر والعصر إذا زَالت الشمس وعن عَطَاء وطاوس إذا صار ظلُّ كلّ شيءٍ مثلهُ دَخَلَ وقت الظُّهْرِ، وما بعدَهُ وقتٌ لهما على سبيلِ الاشتراكِ حتى تَغْرب الشَّمْس -القول لعلَّه العصر- وقال ابن رَاهويه، والمُزْني، وأبو ثَور، والطبراني: إذا صار ظِلُّ كلّ شيءٍ مثلهُ دَخَلَ وقت العصر، وَيبْقَى وقْتُ الظُّهْر قَدْرَ ما يصلى أربع ركَعات ثُمَّ يَتَمَحض الوقت للعصر، وبه قال مالك. انتهى.
مسألةِ الوقت بل لبيَانِ ما ينبغي في العمل، وهو الفاصلة بينهما، فينبغي ألا يصلِّيها جميعًا بل يَجْعل بينهما فاصلة، فإِن صَلَّى الظُّهْرَ في المِثل، عليه أَنْ يُصلِّي العصر في المثل الثالث، ويُهْمِل المِثل الثاني في البين؛ ومعنى الإِهمال إهماله عملا، وإِنْ كان في الحقيقة أَقرب إلى الظُّهْرِ لكنَّه إِنْ أَدْخَل فيه العصر تارةً يكون متحملا أيضًا.
وأما الرَّابعة فلبيانِ أنَّ تلك الفاصلة غير متَعيّنة، فيجوز أَنْ تكون بقَدْرِ المِثل الثاني، أو بما دونه كما أشير إليه بالرابعة، ولا استغراب
(1)
في القولِ بالاشتراك، فإِنَّه ذهب إليه جماعةٌ من السَّلف كما في الطَّحاوي وهو مَذْهَبُ مالك رحمه الله تعالى ورواية عن الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى، وهو الذي تُشْعِر به مسائلهم فإِنَّهم قالوا: مَنْ طَهُرَت في آخر العصر يلزمها قضار الظُّهر أيضًا، وكذا مَنْ طَهُرَت في آخر العشاء تَقْضِي المَغْرِب أيضًا، ولولا الاشتراك لَما قالوا بقَضَاءِ الظُّهْر والمغرب بطهارتها في العصر والعشاء.
ونقل الحافظُ في «الفتح» عن ابنِ عباس وعبدِ الرحمن رضي الله عنهم مثلَه، فظهرَ الاشتراك شيئًا في سائر المذاهب. لا يقال: إنه يؤول إلى مذهب الشافعية رحمهم الله تعالى في
(1)
وهذا الجواب مما لم تَزَل نفسي تَضْطرِب فيه حتى أني راجعت فيه شيخي مِرَارًا، ولكن لم يَتَحَصَّل لي منه من يُسَكِّن به جأشي وأين كان مثلي يدرك مدارك الشيخ رحمه الله تعالى وكان له جد على هذا الجواب وكان يقول: إنَّ الحافظَ العيني رحمه الله تعالى أَيضًا ذَكَرَ بعضَهُ فلمَّا رَتبْتُ هذه الأوراق أَوْغَلْتُ في طلبهِ حتى وجدته. قال العلَّامة العيني رحمه الله تعالى في باب تأخير الظُّهْر إلى العصر، في ذيلِ الجواب عن أحاديث الجمعِ بين الصَّلاتين.
قلت: الجواب عن الأول: أَنَّ الشفق نوعان أحمر وأبيض، كما اختلف العلماء مِنَ الصَّحابة وغيرهم فيه. ويُحْتَمل أَنَّه جَمَعَ بينَهما بعد غياب الأَحْمَرِ فيكون المغرب في وقْتِها على قولِ مَن يقول: الشَّفق هو الأبيض، وكذلك العشاء يكون في وقتها على قول مَنْ يقول: الشفق هو الأحمر، ويُطْلق عليه أَنَّه جَمَعَ بينهما بعد غيِاب الشفق، والحال أَنَّه صلَّى كلَّ واحدة منهما في وقْتِها على خلافِ القولين في تفسير الشَّفق وهذا مما فَتَح لي مِنَ الفيض الإِلهي، وفيه إبطال لقول مَنِ ادَّعى بطلانَ تأويلِ الحنفية في الحديثِ المذكور.
والجوابِ عنِ الثالث: أَنَّ أَوَّل وَقْتِ العصرِ مختلفٌ فيه كما عُرف، وهو إما بصيرورةِ ظِلِّ كل شيءٍ مثله أو مثلَيهِ، فيحتمل أَنَّه أخَّر الظُّهْرَ إلى أَنْ صار ظلُّ كلِّ شيءٍ مثله ثُمَّ صلَّاها وصلَّى عَقيبها العصر، فيكون قَدْ صلَّى الظُّهر في وقْتِها على قول مَن يرى أَنَّ آخر وقت الظُّهْر بصيرورة ظلِّ كلِّ شيءٍ مثْلَيه، ويكون قَدْ صلَّى العصر في وقْتِها على قَولِ مَن يَرَى أَنَّ أَوَّل وقْتِها بِصيرورة ظلِّ كل شيءٍ مثلَيه -لعله مثله- ويَصْدُق على مَنْ فعل هذا أَنَّه جَمَعَ بينهما في أول وقتِ العصر، والحال أَنَّه قد صلَّى كل واحدة منهما في وقْتِها على اختلافِ القولين في أَوَّل وقتِ العصر، ومثل هذا لو فعل المقيم يجوز، فضلًا عن المسافر الذي يحتاج إلى التَّخْفِيف.
قلتُ: وهذا كما تَرَى قريبٌ مما ذَكَره الشيخ رحمه الله تعالى غير أَن الجمع في المِثل الثاني عند الشيخ رحمه الله تعالى على المَذْهَب فإِنَّ المِثل الثاني عندَه صالحٌ لهما، وحينئذٍ لا يحتاج إلى تجشم أخذ وقت الظهر على رواية ووقت العصر على رواية أُخرى والجمع المذكور عند الحافظ العيني رحمه الله تعالى باعتبارِ الجَمْعِ بين الروايتين في الظهر والعصر، وليست تلك عند الشيخ رحمه الله تعالى روايات، بل عبارة عن معنى واحد ذكرت منه حصة حصة، وهذا بناء على ما عَلِمْت عن أصله، أَنَّ الجمعَ بين أحاديث النَّبي صلى الله عليه وسلم كان جائزًا فذاك بالأَوْلَى.
الجَمْع بين الصَّلاتين، فإِنَّه وقتيٌّ عندهم، كذلكَ يكونُ الجمعُ عند الحنفية أيضًا وقتيًا على هذا التقدير.
قلتُ: كلا، فإِنَّ الجمعَ الوقتي عندهم: هو تقديم إِحدَى الوقتيتين في الوقت المخْتَص للأخرى، أو تأخيرُها إلى الوقتِ المُخْتَص بتلك؛ والحنفيةُ لا يقولون به، فلا يجوزُ العصر عندَهم في المثل الأَوَّل لا في السَّفرِ ولا في المطرِ، ولا يجوز الظُّهْرُ في المثل الثالث كذلك، فتفَارَقا.
فإِنْ قلت: يُخَالف الاشتراكُ قولَه تعالى: {كتابًا موقوتًا} [النساء: 103] قلتُ: وماذا فهِمْتَ مراده، وهل فيه توقيت بحسب ظنِّك، أو كما وقَّتَه النَّبي صلى الله عليه وسلم؟ فإِنْ كانت «موقوتًا» بمعنى أنَّه وقَّت لها سبحانه وقتًا وبينه رسولُه، فليراجع له إلى ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم فإِنْ كان بالاشتراك فهو موقوتٌ بالاشتراك، وإن كان بالافتراق فكذلك.
أمَّا مثل قوله صلى الله عليه وسلم «وقت الظهر ما لم تحضر العصر» فهو أيضًا لا ينفي ما قلنا؛ فإِنَّ المراد به وقت الظهر المجموع، يعني مع الوقت المُخْتَص وغيره، ومن العصر وقته المُخْتَص، ثُمَّ إذا ظَهر اختلافٌ بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتحقق عندَك خِلافٌ بين الأئمةِ، فإِيّاك وأَنْ تَظُنَّ في هذه المواضع أَنَّ القرآن أَو الأحاديث في يد أحد الطرفين، فإِنَّ القرآن إذا لم يَحْتَمله والأحاديث خالَفته، كيف يَسُوغ لمِثل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومِنَ الأئمةِ مثل مالك رحمه الله تعالى أَنْ يقولَ بما ليس له أَثرٌ في الدِّين بل نصٌّ بخلافِه، فلو كان معنى الموقوت ما كنتَ تَظنُّه لَمَا ذهبَ إليه مالك رحمه الله تعالى وجماعةٌ مِنَ السَّلَف، فخفض عليك شأنَك، ولا تُسْرِع في ردِّ ما لم تَسمعهُ أُذُنَاك؛ فإِنَّه ليس من العِلم وإنَّ مِنَ العِلم لجهلًا.
تنبيه: واعلم أَنَّ السَّرَخْسي نبَّه على أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ ليس إلى المِثل فقط عند صاحبيه، بل يَبْقَى بعدَه شيئًا أيضًا فكان وَقْتُ الظُّهرِ عندهما مِثلا وشيئًا، لا كما هو المشهور عنهما، أَنَّه إذا صار المِثل فقد دَخَل وقتُ العصرِ وخرجَ وقتُ الظهر
(1)
. إذا أتقنت هذا، فاعلم أنَّ حديث جبريل لا يَصدُق إِذَن إلا على مذهب الحنفية، لأَنَّه ليس فيه إلا تَعْجِيل الصَّلوات كلِّها في اليوم الأول، وتأخير كلها في اليوم الآخر مع إبقاءِ الفَاصلة بينهما، فإِذا صَلَّى الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس صلَّى العصر على المِثل وعَجَّلَ فيها أيضًا، ثُمَّ إذا أَخَّرَ الظُّهْرَ في اليوم الثاني وصلاها في المِثل الثاني أَخَّر العصرَ أيضًا وصلاها بعد المثلين وهذا عينُ مذهبِ الحنفية على ما حققت.
وحديث جبريل صريحٌ في الاشتراك حيث صلَّى العصرَ في اليوم الأَوَّلِ حين صار ظلُّ كلِّ
(1)
قلتُ وراجعت "المبسوط" فلم أجد فيه ما ذَكَرَهُ الشيخ فقلتُ له: إني ما وجدتُ فيه ما ذَكَرتَ، فقال لي: فيه ذلك فراجع، فما رجعت إليه بعد ولا وجدت فرصة، نعم ظاهر "الموطأ" أيضًا يُشير إليه، قال محمد: فإِنَّا نقول: إذا زَادَ الظِّلُّ على المِثل فصار مثل الشيءِ وزيادة من حين زالت الشمس، فقد دَخَلَ وقتُ العصرِ. وهذا قريبٌ مِنَ الصَّريح فيما أَظُنّ.
شيءٍ مثلَه؛ وصلَّى الظُّهْرَ في اليوم الثاني في عين ذلك الوقت. وعند الترمذي تصريح أنَّه صلَّى الظُّهْرَ في اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس، فلا مَناص عن القولِ بالاشتراك، ولذا قال به مالك رحمه الله تعالى، ثُمَّ إنَّه يُخالف الشافعي رحمه الله تعالى وغيرَه في أَنَّ وقتَ الظُّهرِ يَخْرجُ بالمِثل، لأنَّه صلاها اليوم الثاني بعد المِثل، فليس فيه ما رامُوه مِنْ كَوْنِ وقتِ الظُّهْرِ إلى المِثل ولذا أَوَّلَ فيه النَّووي بما أَوَّل فراجعه.
وفي الروايات: أَنَّه نَزَل في اليوم الثاني بعد المِثل فعند النَّسائي: «ثُمَّ أتاهُ اليوم الثاني حين كان ظلُّ الرَّجُل مِثل شخصه، فصنع مِثلَ ما صَنع بالأمسِ صلَّى الظُّهْرَ اليوم
…
» الخ. وهذا صريحٌ في أَنَّه صلاها في اليومِ الثاني بعد المِثل، وهو وقتُ العصرِ عند الشافعيةِ رحمهم الله تعالى، ولا يَمْشِي فيه تأويل النَّووي.
«
…
وصلَّى العصر في اليومِ الثاني حين كان ظِلُّه مثلَيه
…
وهذا يَصْدُق لو كان صلاها قَبْلَ خَتم المِثل الثالث أيضًا، ولا بُدَّ من حَمْلهِ عليه كما سيجيء، وعادتُهم قد جرت بحذفِ الكسور. فتحصَّل أنَّه صلَّى الظُّهر تارةً في المِثْل وهو وَقْتُها المُخْتَص وتارةً في المِثْل الثاني وهو الوقْتُ الصَّالح لها، وكذلك صلَّى العصرَ تارةً بعد المِثل الأوَّل، وهو وقتٌ صالحٌ لها أيضًا، وصلاها تارةً بعد المِثل الثاني قبل نهايةِ المِثل الثالث، وهو الوقتُ المُخْتَص بها مع إبقاء الفَاصِلة بين الصَّلاتين في اليومين، وهذا عينُ مذهبنَا ولله الحمد أَوَّلا وآخرًا.
ثم اعلم أَنَّ وقتَ العصرِ عند الشوافِعَ رحمهم الله تعالى على خمسة أنحاء. قال النووي: قال أصحابنا: للعصر خمسة أوقات: وقتُ فضيلة، ووقتُ اختيار، وجوازٍ بلا كراهة، وجوازٍ مع كراهة، ووقتُ عذر. أمَّا وقت الفضيلة: فأَوَّل وقتِها، ووقتُ الاختيار يمتد إلى أَنْ يَصيرَ ظلُّ كلِّ شيءٍ مثلَيه، ووقت الجواز إلى الاصفرار، ووقت الجواز مع الكراهة: حالة الاصفرار إلى الغُروب، ووقت العُذر: هو وقت الظُّهْرِ في حق من يَجْمع بين الظُّهْرِ والعصر لسفرٍ أو مطرٍ، ويكونُ العصر في هذه الأوقاتِ الخمسة أداء، فإِذا فاتَتْ كلها بغروبِ الشمس صارت قضاءٍ. انتهى.
وقسمه الحنفيةُ إلى قسمين: وقتِ الاستحباب، ووقتِ الكراهة، وأرادوا من الاستحباب ما لا يكونُ مكروهًا، ومعلوم أَنَّ جبريل عليه السلام لم يَنْزِل لتَعْلِيم الوقت المكروه، فلم يستوعب في اليومين إلا الوقت المستَحب، فلو قلنا: إنَّه صلَّى العصرِ في اليومِ الثاني في المِثلين، يَلْزَم أَنْ تَبْقَى مِنَ الوقت المستحب أيضًا حِصةٌ ما، ولذا قلت: إنَّه صلاها فيه قُبَيل المِثل الثالث، ليُحاط الوقتُ المستَحب في يومَيه، فإِنَّ المِثْلَ إذا لم يتم جاز أَنْ يُقال إِنَّه صلاها على المِثلين، وهذا واسع في اللُّغة بلا نكير.
والحاصل: أَنَّ جبريل عليه السلام إنَّما نَزَل لبيان الأوقاتِ التي ينبغي أَنْ يُصلَّى فيها تقريبًا، ولم يَرِد التحديد أصلا، وإنَّما هو من باب التَّفَقُّه فمنهم مَنْ جَعَلَ وقتَ الظُّهْر إلى المِثل نظرًا إلى أحاديث التعجيل، ومنهم مَنْ جَعَلَه إلى المِثل وزيادة تارة وأُخْرَى إلى المِثلين نظَرًا إلى