الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن المساجدَ في زمن السلف لم تكن في الأسواق
(1)
، ولم تكن صلواتهم فيها إلا منفردين.
وحاصل كلامه: إن الصلاة منفردًا - ولا تكون إلا في بيته، أو في سوقه - تَنْحَطُّ بكذا مرتبة من صلاة الجماعة، وإن شِئْتَ قلتَ: إن الصلاةَ في البيت مَفْضُولةٌ من الصلاة في المسجد، فإِنهما عبارتان عن معنى واحدٍ على الفرض المذكور. بقي تجميع فائت الجماعة في بيته، فهو بمعزلٍ عن النظر، لأنه من العوارض، لا أن الجماعات مشروعةٌ في البيوت لتبني عليها الأحكام.
والمصنِّف رحمه الله تعالى جَزَم بأن هذا الفضل مختصٌّ بالصلاة في الجماعة، كما جَزَمْتُ أن الملائكةَ لا يشهدون إلا في صلاة الجماعة، وفيها يَتَعاقَبُون، فمن صلَّى في بيته لا يَدْخُلُون في صلاته. والسرُّ فيه: أن الصلاة في نظر الشرع هي صلاةُ الجماعة، لأنها الفردُ الأكمل، ولا يكون المراد في المواعيد ومواضع الترغيب إلا هو، أمَّا أنه إذا لم يُصَلِّها بالجماعة، أو فاتته، فكم يُنْتَقَصُ منها؟ وهل يبقى لها وجودٌ أو تَنْعَدِم عن أصلها؟ فكل ذلك من مراحل الفقه
(2)
. ونظيره ما مرَّ مني في بيان مراد قوله: «قبل أن تَغْرُبَ الشمسُ» : أن الغروبَ عند الشرع بالاصفرار، وإن كان الغروب حسًّا بعده، فإِن الشرع لمَّا صرَّح بكراهة الصلاة عند الغروب، إذن كيف يَعْتَبرُه في سياق التعليم؟ نعم إذا كان السياقُ سياقَ الذم أمكن أن يُرادَ به الاصفرار، كما في الحديث:«تلك صلاة المنافق»
…
الخ.
ولو علمتَ هذا الصنيع، علمتَ أن القرآنَ أيضًا مشى عليه، فلم يُرْخِ العِنَان لعاصٍ قطعًا، ولا تجدُ لهم فيه غير التشديد، نعم، إذا كان السياقُ سياقَ المغفرة، يُفْهَمُ منه أن لهم أيضًا تفصِّيًا.
31 - باب فَضْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِى جَمَاعَةٍ
648 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمِيعِ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِى صَلَاةِ الْفَجْرِ» . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]. أطرافه 176، 445، 477، 647، 659، 2119، 3229، 4717 - تحفة 13147، 15156
(1)
قلتُ: وعليه قوله صلى الله عليه وسلم عند الترمذي، وغيره:"خيرُ البقاع عند الله المساجدُ، وشرُّها الأسواقُ" -بالمعنى- فإِنه جَعَلَ المسجدَ في طرفٍ، والسوقَ في طرفٍ آخر.
(2)
يقول العبدُ الضعيفُ: وقرَّر نحوه في حديث: "لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب"، فالصلاة عند انتفاء واجب منها منتفيةٌ في نظر الشارع، والمُعتبرةُ عنده: ما كانت باستجماع الشرائط والأركان والواجبات، بل المستحبات أيضًا، حتى أنه لا صلاة عنده بدون الخشوع أيضًا، ومن ههنا اختلفت أنظار الفقهاء: أنها تنتفي بانتفاء الفاتحة رأسًا حتى لا يبقى لها وجودٌ، أو تصيرُ خِدَاجًا على حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وهذا ممَّا لا يمكن فصله.
649 -
قَالَ شُعَيْبٌ وَحَدَّثَنِى نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ تَفْضُلُهَا بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً. طرفه 645 - تحفة 7678
650 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِى قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمًا قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ دَخَلَ عَلَىَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهْوَ مُغْضَبٌ فَقُلْتُ مَا أَغْضَبَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا إِلَاّ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا. تحفة 10982
650 -
(دَخَلَ عليَّ أبو الدَّرْدَاء) كان عمر رضي الله عنه بَعَثَ الصحابةَ رضي الله عنهم إلى النواحي، ونَصَبَهم على مناصب خاصة فبعث أبا الدَّرْدَاء نحو الشام للتعليم، ونَصَبَ ابن مسعود رضي الله عنه على تولية بيت المال، وعَمَّارًا رضي الله عنه لإِمامة الصلاة، وسعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه للإِمارة على الكوفة. وكان عمر رضي الله عنه جَعَل الكوفة والبَصْرَة معسكرًا. (جهاؤني). وفي «فتح القدير»: أن قريته قَرْقِيسَة نَزَل فيها ست مئة من الصحابة رضي الله عنهم.
وبالجملة كان الصحابةُ قد تفرَّقوا في النواحي والبلاد لإشاعة الدين، وتبليغ كلمة الإِسلام، ونشر الأحكام، فلو كان المالكية يَفْتَخِرُون بأن إمامهم من أهل المدينة معدن العلم، فلا نُنْكِرُ فضلهم في ذلك، غير أن أكثرَ الصحابة رضي الله عنهم كانوا نحو العراق، وهناك دُوِّن النَّحْوُ.
قيل إن بَدْءَه كان من عليّ رضي الله عنه، فإِنه سَمِعَ مرةً رجلا يقرأ:{أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] بكسر رسوله، مع أنه مرفوعٌ، فتفكَّر في أنه كيف يُخَلِّص الأمةَ عن هذه المهالك، فإِن فيها العرب والعجم، فأَمَرَ أبا الأسود الدُّؤَلي أن يَجْعَلَ قانونًا يحفظها عن الخطأ في الكلام، وأَصَّلَ له أصولا، فقال: كلُّ فاعِلٍ مرفوعٌ، وكلُّ مفعولٍ منصوبٌ وكلُّ مضاف إليه مجرورٌ، ثم قال: انْحُ نحوه، فَشَرَعَ فيى تدوينه، وبَدَأَ من أفعال التعجُّب، فصوَّبه عليُّ رضي الله عنه، ثم جمع الحروف المشبَّهة بالفعل، غير أنه ترك:«لكن» ، فأمره عليّ رضي الله عنه أن يزيدها عليها. وبالجملة إن كان لهم فَضْلٌ لكون إمامهم من مدينة الرسول، فلنا أيضًا فَضْلٌ، فإن إمامنا من البلدة التي نزل فيها جنودٌ مُجَنَّدَةٌ من الصحابة رضي الله عنهم، حتى دار بها علمهم وسار، فاعلمه. والله تعالى أعلم بالصواب.
651 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِى الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ مَمْشًى، وَالَّذِى يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِى يُصَلِّى ثُمَّ يَنَامُ» . تحفة 9063
651 -
(أَبْعَدُهم فَأَبْعَدُهم مَمْشى)، وليس هذا أجرًا لنفس الجماعة، بل هو من المكملات. ولا مُعْتَبر عندي بصِغَر الخُطَأْ وكِبَرِ كما نُقِلَ عن بعض السلف، لأن المراد عندي بُعْدُ المسافة وقُرْبُها، فإن كانت خطواتُه صغيرةً كان ثوابها أيضًا مثلها، فلا فرقَ بين صِغَرها وكِبَرها.
«والمَمْشَى» مصدر ميمي، والحقُّ عندي أنه حاصلٌ بالمصدر، وليس عند النحاة، وإنما عندهم: المصدر، واسم المصدر. قلتُ: وما يسمُّونه اسم المصدر هو الحاصلُ بالمصدر عندي، كالرؤيا في قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى} [الإسراء: 60]
…
الخ ولذا لم يَقُل: رؤيته، لأنه مصدرٌ، والمراد ههنا: هو الحاصل به. ومن ههنا ظَهَر أن المراد من الرؤيا هنا ليس رؤيا المنام، بل رؤيا عين. وترجمته بالهندية. (دكهاوا).
قوله: (والذي يَنْتَظِرُ الصلاةَ حتى يُصَلِّيَهَا مع الإِمام، أعظمُ أجرًا من الذي يُصَلِّي ثم يَنَام): يحتمل أن يكونَ المرادُ من الأول: من صلَّى مع الجماعة، ثم لم يَزَل جالسًا في انتظار صلاةٍ أخرى حتى صلاها مع الإمام. ومن الثاني: من صلَّى مع الجماعة ثم نام، ولم يُحْرِز فضيلةَ الانتظار للصلاة الأخرى. ويحتمل أن يكون المرادُ من الثاني: من صَلَّى مُنْفَرِدًا ثم نام، ولم يرغب في الجماعة. فالمقابلةُ على الأول: بين المصلِّيين بالجماعة إذا انتظر أحدُهما لصلاة أخرى، ولم ينتظر الآخر وعلى الثاني: بين المصلِّي بالجماعة والمصلِّي في بيته منفردًا، وعليه حَمَلَ الحافظ رحمه الله تعالى، واستفاد منه سُنية الجماعة، فإِن الشرعَ قابل بين المصلِّي بالجماعة، والتارك لها بعذر النوم. وما يُبَاح تركُه بأعذار يسيرةٍ، لا يكون شأنه شأن الواجب. فَإِذا عَلِمْنا أن الجماعةَ يجوز تركها بعذر النوم وإن كان مَفْضُولا عَلِمْنَا أنها سنةٌ وليست بواجبةٍ.
أقول: ينبغي أن لا يُحْتَجَّ بمثل هذه الأمور على المسائل الفقهية، فإن الحديث لم يُسَقْ لبيان سنية الجماعة ووجوبها، وإنما سِيقَ لفضل الجماعة، وإنما قَابَل بصلاة الفذِّ ليُظْهِرَ فضل الجماعة، فهو لِتَعْقِلَ صورة الحساب فقط، كما في حديث الزكاة:«في كل أربعين درهمًا درهمٌ» ، لا يريد به بيان النصاب ليجب درهمٌ في أربعين درهمٍ، إنما يُريد به الحساب، فالخمسةُ في المائتين كالدرهم في الأربعين. وهكذا في قوله:«صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفذِّ» بكذا مرتبة؛ إنما سِيق لبيان الحساب، لا لصحة صلاة الفذِّ بمعنى عدم نقصان فيها.
ثم ذِكْرُ النوم ههنا أيضًا ضمني، والمراد به: عدم الانتظار، سواء نام أو اشتغل بأمرٍ آخر، لأنه إذا لم يُصَلِّها مع الجماعة، فصلاته مَفْضُولةٌ مطلقًا سواء نام أو لم يَنَمْ، وقد سَبَقَ نَقلا من إمام الحرمين على طريق الضابطة الكليَّة أن أخذَ المسائل لا ينبغي مما يَرِدُ في سياق التشبيه، فقد تُشَبَّهُ أمورٌ مرغوبةٌ بأمورٍ مكروهةٍ، كتشبيه صوت الوحي بصَلْصَلة الجرس، واستقرار الدين في المدينة برجوع الحية إلى حُحْرِها، وغير ذلك وإنما يكفي لصدقه صورة ما، فعلى هذا لو دَخَل رجلٌ في المسجد ولم يعلم متى يجيء الإمامُ، جاز له في بعض الأحوال أن يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا ثم ينام؛ فالجواز في بعض الصور يكفي لصِدْق هذا الحسابِ ولا يُوجبُ أن تكونَ الصلاةُ منفردًا.
ثم النومُ جائزٌ على الإطلاق، وللحنفي أن يقول: إن الرجلَ إذا كان مُنْكَسِرًا فاتِرًا، فله أن يُصَلِّيَ وينام عندنا أيضًا، فإن ضَعْفَه وانكساره له عذرٌ، ومن الأعذار في كُتُبنا ما هو أهون منه. ففي الفِقْه أن من يَزْدَحِمُ عليه الفتاوى، وهو مشتغلٌ في مراجعة الكُتُب، جَازَ له ترك الجماعة. وفيه: أن حنفيًا لو ناظر شافعيًا في رمضان، ورأى أن الصومَ يُضْعِفُه جَازَ له الإفطار.