الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى ظواهر الأحاديث، وكان عثمان رضي الله عنه أَفْقَهَهُمْ، فنظر إلى المصالح، وإنَّما لم يعلنه النبي صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ المباركةِ الطيبة خشيةَ غُلُوِّ العوامِّ فيه فَوْقَ ما أراده الشارع، وفي الروايات أنَّ الصّحابةَ رضي الله عنهم لمَّا اعترضوا عليه قَامَ على المِنْبَر وَحدَّثهم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:«من بنَى لله مسجدًا بنَى الله له بيتًا في الجنة مثله» ، فَحَمَلَ المِثْلِية في الكيفية أيضًا؛ وكَتَبَ السُّيُوطِيّ رحمه الله تعالى في «حاشية أبي داود»: أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه لمَّا وَرَدَ المدينةَ وعَلِمَ القِصَّة روى الحديث مرفوعًا وقال: إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بتجصيص هذا المسجد فَسُرَّ به عثمان رضي الله عنه وأَعْطَاهُ خمس مئة دينارًا، قال الحافظُ رحمه الله تعالى أنَّ نَقْشَ المساجد إذا كان على سبيل التَعْظِيم ولم يُنفق له من بيت المال فهو رُخْصَة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وقال ابن المُنَيَّر: لمَّا شَيَّدَ النَّاسُ بيوتهُم وزخرفها: أَنَّه لا بَأَس بأَنْ يُصْنَع كذلك بالمساجد صونًا لها عن الاستهانة، فالأَصل هو عدم التَجْصِيص، لَكِنِ الآن يُناسب التجصيص لاختلافِ العصر والزَّمَان ولا يُعدُّ ذلك خلافًا للأحاديث، إلا ترى أَنَّه لو لم يَكُنْ السَّلاطين جصصوا المساجد لما وَجَدْتَ اليوم مَسْجِدًا على وجه الأرض، وانْدَرَست رسومُها وعَفَتْ آثارُها، فدعت المصالح إلى تَجْصِيصها ولا سيما في البلاد التي غلبت عليها الكفر.
ثم اعلم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بَنَى المسجدَ مرتين، مرة ستين في ستين، ومرة أخرى بعد خيبر مئة في مئة، ثم زاد فيه عمر رضي الله عنه في زمانِهِ، وزادَ فيه عثمان كَمَّا وكَيفًا، وميَّزَ بعضُ السلاطين تلك الزيادات بأماراتٍ يتمايزُ بها بناؤُه قَبْلَ خيبر وبعدَهُ، وبناء عمر رضي الله عنه من بناء عثمان. وأما زِيادات سائر السلاطين فغيرُ متميِّزَة كذا في كتب السِيَر - وفيها حُجَرُ أمهاتِ النِّساء بُنيت بعد تعمير المسجد النبوي.
63 - باب التَّعَاوُنِ فِى بِنَاءِ الْمَسْجِدِ
قوله: ({ما كان للمشركين .. } الآية) وفي «المَدَارِك» تحت تفسيره أن إِعانة الكافرِ في المسجد لا تجوز، وكذا في «المستصفى» لصاحب «الكنز» في «الفتاوى السعدية» للمفتي سعد الله الرَّامفوري إلا أنْ يَهَبَ ماله مسلمًا ثم يبنيهِ المسلمُ بذلك المال، فهذه حِيلة لصرف أَموال المشركين في المساجد.
447 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ لِى ابْنُ عَبَّاسٍ وَلاِبْنِهِ عَلِىٍّ انْطَلِقَا إِلَى أَبِى سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ. فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِى حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى أَتَى ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم -
فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ» . قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ. طرفه 2812 - تحفة 4248 - 122/ 1
447 -
قوله: (وعمارٌ لبنتين) لَبِنَة عنه ولَبِنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ذَكَرَه السَّمْهُوري.
قوله: (وَيْحَ عمار) قال سيبويه: والفَرْق بين ويل وويح: أَنَّ الأوَّل فيمن يَسْتَحِق الهلاك بخلاف الثاني فهي كلمة رحمة والأُولَى كلمة سَخْط.
قوله: (يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) وفي طريق آخر: «تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة
…
» إلخ.
قال الحافظ رحمه الله تعالى ما حاصله: أنَّ عمارًا قُتِل بصفين، ومَنْ قتلوه مِنْ أصحابِ معاوية رضي الله عنه كانوا من الصحابة رضي الله عنهم، فكيف يَصدُقُ في حقهم أنَّهم دعَوْهُ إلى النَّار وإنْ صَدَق عليهم أنَّهم كانوا الفئة الباغية.
فالجواب: أنَّهم كانوا ظانِّين أنَّهم يَدْعون إلى الجنَّة وإنْ لم يكونوا كذلك بحسب الواقع، لكنَّهم مَعْذُورون للتَّأول الذي ظَهَرَ لهم لكونِهم مُجْتَهِدين لا لَوْمَ عليهم، فدعاؤُهم إلى مخالفة علي رضي الله عنه وإنْ كان سببًا للنارِ، لكنَّه لم يترتب عليه النَّار لِكَوْنِهِمْ مجتهدين، والمُسَبِّب قد يتخلف عن السبب إذا لم تُوْجَد شرائطه، ولا يجبُ تحققه عند وجودِ السبب مطلقًا.
قلتُ: ولا أَرْضَى بهذا الجواب، لأنَّ هذا العنوان مأخوذ من القرآن، وهو هناك في حق الكفار، ولا أحب أنْ يكون العنوان الذي ورد فيهم صادقًا على الصحابة رضي الله عنهم بعينه، فقال تعالى:{مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر: 41] وقال تعالى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221] فالوجه عندي أنَّ الكلامَ في حق الأمير معاوية رضي الله عنه، ثم إلى قوله:«تقتله الفئة الباغية» ، وصرَّح صاحب «الهداية» في كتاب القضاء: أنَّ الأميرَ معاويةَ رضي الله عنه كان بَغَى على عليَ رضي الله عنه. أما قوله: «يدعوهم إلى الجنة» فاستئْنَاف لحالِهِ مَعَ المشرِكين وقريش العرب، وإشارةٌ إلى المصائبِ التي أتت عليه مِنْ جهةِ قريش، وتعذيبهم، وإلجائهم إياه على أَنْ يَكْفُر بربه فأبَى إلا أنْ يَقُول: الله أحد.
وفيه قلت: باده نوشان غمت داود ومعروف وجنيد جان فروشان درت عمار وسلمان وبلال. فهذه حكاية للقِصةِ الماضيةِ ومنقطعة عما قبلها لا إخبار عن حال قائليه
(1)
.
وأَجَابَ عنه الحافظُ رحمه الله تعالى بنحو آخر وقال: إنَّ هذه الزِّيادة لم يَذْكرها الحُمَيْدِي في الجمع، وقال: إنَّ البخاري لم يَذْكُرها أصلا ثم ذَكَر ما ظَهَرَ له في وجه حَذْفِ هذه القِطعة.
قلتُ: فإن لم تَكُنْ تلك الزِّيادة ثابتة في هذا الطريق فإنَّها ثابتةٌ في الخارجِ بِطُرُق قوية،
(1)
قلت: وذكره الحافظ رحمه الله تعالى بعضه احتمالًا ثم نظر فيه أيضًا وهو مندفع عند اللبيب اهـ. منه.
فالنقضُ النقض، والجوابُ الجواب. وإنْ شئت تقرير كلامِهم على النَّحْوِ الذي يقتضي مَرِامِهِم فَقُل: إنَّ الحُكْم قَدْ يَرِد باعتبارِ الجِنْس مع عَدَمِ تحققِهِ في بعض الأنواع، وهذا حيث يَتَأَتَّى التشكيكُ في مراتبِ الشيءِ كَضَرْبِ الدُّفِّ يُسوَّغ فيه التشكيك، ويُمْكِن أَنْ يتنوع إلى مندوب ومكروه ومباح، ولذا أَغْمَضَ عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما كانت الجاريتان تُغَنِّيان عنده وتدفِّفَان، ولم يزل متغش وجهه بثوب حتى قالتا؟ «وفينا نبي يَعْلَمُ ما في غد» فكشف عن وجهه وقال:«قولي بالذي كنت تقولين» ، وإنَّما نهاهنَّ أَنْ يقلن هذا لأنَّهنَّ قُلن قولا باطلا، فلم يَمضْ عنه ساعة، وَمَنَع عنه على فورِهِ بخلاف الدُّف. وهكذا في واقعة أخرى مثلها حتى جاءه عمر رضي الله عنه، وَرَأَيْنَه ألقينَهُ على الأرضِ وقعدن فحينئذٍ قال النَّبي صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان يفر من عمر» .
وأشكل على الناس قوله، فإنَّ التدفف لو كان مِنَ الشيطان كما يدل عليه قوله هذا كيف أغمض عنه، ولو كان مباحًا كما يدل عليه إغماضه كيف جعله مِنْ فعل الشيطان آخرًا.
وحله: أنَّ الشيءَ قد يكون قدْرٌ منه حلالا ويَنْجَرُّ إلى الحرام بالإفراط والتفريط فما كان حَرَامًا باعتبار أغلب الأَحْوَال يَحْكم عليه الشرع بكونه من الشيطان باعتبار الجنس وحالِهِ الأغلب، وإن لم يتحقق بحسب خصوص المقام فالتَّدَفُّفُ وإنْ كان حلالا في بعض الأحوالِ كهذا التدفف الذي ضُرِبَ به بين يَديِ النَّبي صلى الله عليه وسلم لأَجْلِ معنىً صحيح مع فُقْدِان معنىً مُحَرَّم، لكنه لما كان حرامًا في أغلب الأحوال لانعِدَام هذه الاحتفافات نَسَبَهُ إلى الشيطان.
وحاصل صنيعه تقرير الإجازة مع إظهار الكراهة، وهو الذي يناسب منصب النبوة، فإنَّه لو نَهَى عنه مطلقًا لانعدمت الإباحة وصارَ حرامًا ولم تَبْقَ مرتبة منه جائزة ولو لم يُكْرَه ولم يُظْهِرِ الكراهة أيضًا لجاز بدون كراهة أيضًا، فكل ما كانت مباحة في نفسها باعتبار بعض الشرائط ومكروهة باعتبار انجرارِهَا ءى الحرام في الأَغْلَبِ يَرِد فيها النَّهي باعتبار الجِنْسِ مع الإِغْمَاضِ عنها عند خُلُوِّها عن الإفراط والتفريط، وهذا معنى قولهم: إنَّ الشيء قد يكون مُوجِبَا للنار وسببًا له ثُمَّ يَتُخَلَّف عنه مسبِبَهُ، وهذا حيث يكونُ الحُكْمُ باعتبارِ الجنس يكفي لصدق تحققه في فرد ما وإنْ لم يَتَحقَّق في خصوص هذا المورد كما في «مستدرك الحاكم»:«أن رجلا جاءه فسأله مالا فأعطاه حتى فعل ثلاث مِرَار يُعْطِيه كلَّ مَرَّة فلَمَّا ولَّى قال: إنَّ السؤالَ جمرةٌ فمن شاء استقلَّ ومَنْ شاء استَكْثَر قال رجلٌ: يا رسول الله فَلِمَ أعطيتَهُ؟ قال: إنَّ الناس لَيْسئَلِونَنِي وَيَأْبَى الله أَنْ أكونَ بخيلا» أو كما قال.
قلتُ: شرحه عندي أنَّ الشؤالَ شأنُهُ أن جمرة من النَّار سواء ترتب عليه النار أوْ لا، فهذا حكم جنسي يكفي لصدْقِ تحقُقِه في الجنس، وإنْ لم يَتْقق في خصوص هذا السائل مثلا. ومَرَّ التُّوْربِشْتِي الحنفي في «عقائده» على الأحاديث التي يكون فيها الوعيد بالنار على المعصية وَقَرَّرٍ مرادَها بما يَقْرُب من هذا التحقيق.
وحاصله: أنَّ تلك المعاصي أسبابُ النَّارِ ولا يَلْزَم من ارتكابِ الأسبابِ ترتب مسبِبَاتِهَا، فإِنَّ ترتب المسبِبَات يَتَوقَّف على أمورٍ أخرى من ارتفاعِ الموانِع، ووجود الشرائطِ، وربما يكون مَنْوِيًا. ثم إنَّ الشرع قَدْ يَحْكم بالنَّار على أمر حسي فما البُعد فيما حَكَم بها على سببٍ من