الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي الحديث أَنَّ الأولين قصروا في صلاة العصر، وعن عليّ رضي الله عنه أَنَّ المرادَ منه سليمان عليه الصلاة والسلام.
قلتُ: وإذا ثَبَتَ عند مُسْلِم: «أَنَّها صلاةٌ كانت عُرضت على بني إسرائيل، فقصَّروا فيها، فإِن أتممتم فلكُم الأجرُ مرتين» - بالمعنى - فأيُّ حاجة إلى حَمْلِه على نبي من الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام فالأَوْلَى أَنْ يراد به مطلق الأمم، وقد فاتت عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا في غزوة الخندق. وحمله الحنفية على عذر المسايفة. الشافعية رحمهم الله على عَدَمِ نزولِ صلاة الخوف. والمالكية على عدم الوضوء. والله تعالى أعلم.
17 - باب فَضْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ
554 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ قَالَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً - يَعْنِى الْبَدْرَ - فَقَالَ «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُّونَ فِى رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» . ثُمَّ قَرَأَ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ). قَالَ إِسْمَاعِيلُ افْعَلُوا لَا تَفُوتَنَّكُمْ. أطرافه 573، 4851، 7434، 7435، 7436 - تحفة 3223
554 -
قوله: (لا تضامُّون) وهو من الضم بمعنى لا تَزْدَحِمون. وفي رواية: من الضَيْم بمعنى الظُّلم أي لا يَحْرُم عن رؤيته أحدٌ أحدًا. وتلك الرؤية إنَّما تكون رؤيته للتجليات عندي دون رؤية عن الذات، كما اختاره الشيخ الأكبر رحمه الله، وقَسَّمَها إلى رؤية شمسية ورؤية قمرية، ثُمَّ لم يفسرها
(1)
. ثُمَّ إنَّ رواية التجلي هي التي تسمى برؤية الذات؛ ألا تَرَى أَنَّكَ إذا رأيتَ اللَّهَ - جلَّ سبحانه - في منامك تقول: إنك رأيت ذاته مع أنَّك ما رأيت ذاته المباركة، بل نظرت إلى نحو تجلي فقط؟. ولا تنسب إليَّ ما لم أقله. فإِنِّي لا أُنْكِرُ الرؤية، ولكن أريدُ البحث في أَنَّ حقيقةَ الرؤيةِ هي رؤية الذات أَوْ ماذا؟ فالله سبحانه وتعالى يَتَجَلَّى لعباده يومَ الحشر على نحو ما تجلَّى لموسى عليه الصلاة والسلام فقال:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا} [الأعراف: 143] مع أنَّه كان سَأَلَهُ عن رؤية ذاتِه تعالى فتجلَّى له، وذلك لأنَّ رؤية ذاته تعالى لا تكون إلا بالتجلِّي، وفي ضمنِه تنكشف الذات أيضًا على ما تليق بشأنها، وتلك التَّجلِّياتِ لا نهاية لمراتبها، فالله سبحانه وتعالى يَعْلَم أنَّه كيف يَتَجَلَّى، ولكن تجلِّيه هو عبارةٌ عن رؤيتِه، وقد مرَّ تقريره في أوائلِ الكتاب شيئًا في شرحِ الحديث الثاني، وهذا على مختارِ الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى. وراجع «الفتاوى للشاه عبد العزيز» رحمه الله تعالى؛ فإِنَّه تكلَّم جيدًا في هذا الموضوع.
(1)
وسيجيء عن بعض المحققين في ذيل شرح التجلي، أَنَّها إيماء إلى لفظِ الحديث، ففي لفظ:"فترونَهُ كما تَرَوْنَ هذا القمر لا تضامُّون في رؤيتِه" وفي أُخْرى "الشمس" بدل القمر فسمَّاهما رؤية شمسية وقمرية، ثُمَّ اللهُ تعالى أعلم ما الفَرْقُ عنده بينهما؟.
ثم إنَّه فَرْقٌ بين التجلِّياتِ ونحو الوجه واليد والعين، لأنَّ التَّجلِّيات صُوَرٌ مخلوقة - أُقيمت بين العَبْدِ وربهِ، لتعريفه إياه - وآثارٌ لأفعاله، بخلافِ الوجهِ وغيرِه، فإِنَّها من مبادىء الصفاتِ، وليست منفصلة عنه انفصال التجليات. وإنَّما عبَّر عن تلك المبادىء عن ألفاظٍ مختلفة، لاختلاف أفعالها فيما بعد، فَوَضَعَ لها أَلفاظًا كذلك تنبيهًا على هذا المعنى، وهي في الحقيقة من متعلَّقات الذات لا مغايرة عنها. وسمَّاها البخاري شؤونًا والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
ومن ههنا تبين أَنَّ الاهتمام بها إِنَّما هو لكونِها دخيلا في رؤيتِه تعالى، وعند الدارقطني وقوَّاه أَنَّ النساء تحصل لهن الرؤية في العيدين، ولذا أُمِرْن أن يَحْضُرْنَ العيدين، وهو معنى قولها:«أليست تَشْهَدُ عرفة» تعني به أَنَّ المقصودَ بحضورهنَّ المُصلِّى هو الشهودُ فقط كما في عرفة، وفي
(1)
الأحاديث أَنَّ بعضهم يَرَى ربه في هذين الوقتين كل يوم
(2)
.
555 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِى الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِى فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» . أطرافه 3223، 7429، 7486 - تحفة 13809 - 146/ 1
555 -
قوله: (يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل)
…
الخ. وهو على حد قولهم: أكلوني البراغيث. فالواو علامة للجمع، وليست ضميرًا، والعُقْبَة، أي النَّوبة.
واختلف في أَنَّهم الحفظة أو السَّياحون، والطوافون في الأرض، والذين يَطْلُبون مجلس الذكر. فإِنْ قلتَ: وليس فيه ذِكْرُ الطائفة الأخرى، الذين جاءوا في العصر.
قلتُ: وهو موجودٌ مفصلا عند النَّسائي، واختصره الراوي ههنا، وراجع رواية الصحيح لابنِ خزيمةَ، ففيه ذِكْرُ السؤالِ مِنَ الطائفة الأخرى أيضًا، فلا يُقال: إنَّه لِمَ اقتصر فيه على سؤالِ الذين باتوا دون الذين ظلُّوا. وسياقه على ما أخرجه الحافظُ رحمه الله تعالى في «الفتح» :
(1)
وفي الجامع الصغير: أنَّ الله تعالى يَتَجَلَّى لعبادِهِ المقرَّبين كلَّ يومِ مرتين، وفيه أنَّه يتلو عليهم القُرآن. -بالمعنى- وصححه السيوطي على الهامش، ودَلَّت القرائنُ أَنَّ هذا الحُكم من جانبه، وإذا لم يَبْلُغُ إلينا فيه كلام ممنْ هو أَقْدَم منه، نعتمد بتصحيحه، فإنَّه عالمٌ جليلُ القَدْرِ، وإنْ لم يكُن كالحافِظِ ابنِ حجر رحمه الله تعالى. وعند الترمذي في بابِ سوق أهل الجنة:"إنَّ أَهلَ الجنة يُؤْذَنُ لهمِ بالزيارة في مِقْدَار يوم الجمعة مِنْ أيام الدنيا" الحديث. وأخذتُ منه أَنَّه لذا فُرِضَتِ الجمعة في الدنيا، كأنَّه تذكار لما يجتمعون في الآخرة. وفي "عقيدة السَّفارِيني" عن الدَّارَقُطْني: أنَّ الرؤية للنساء تكون في العيدين، إلا أني لم أجده في الدَّارَقُطْني في نسخة بأيدينا، وله نسختان فلعله يكونُ في الأخرى. وهكذا يكونُ في النقول عن النَّسائي، فإنَّ الحديث قد يكونُ في الكبرى، والنَّاسُ يطلبونَهُ في الصغرى، فإذا لم يجدوه تَحَيَّرُوا. كذا في تقرير الفاضل عبد العزيز عن الشيخ.
(2)
وعند الترمذي في باب رؤية الرَّبِّ تبارك وتعالى في حديث ثُوَيْر: "وأكرمهم على اللهِ من يَنْظُر إلى وجهه غدوةً وعشيًا". وفي رواية جرير: "فإِنِ استطعتُم أَلَّا تغلبوا على صلاةٍ قَبْل طُلوعِ الشمسِ وصلاة قبل غروبها فافعلوا".
تجتمع ملائكةُ الليل وملائكة النَّهارِ في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعَدُ ملائكةُ الليل، وتثبتُ ملائكة النَّهار، ويجتمعونَ في صلاةِ العصر، فتصعَدُ ملائكةُ النَّهارِ، وتثبتُ ملائكةُ الليل، فيسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ فهذه الرِّواية تَنْفي كثيرًا من الاحتمالاتِ، فهي معتمدةٌ، ويحمل ما نَقَصَ منها على تَقصيرِ بعض الرواة. انتهى مع تغيير.
فإنْ قلتَ: إنَّه ينبغي التعاقب في المغرب مكان العصر، فإِنَّ الطَّرَف الآخر من النَّهارِ، وهو المغرب. قلتُ: وهذه اعتباراتٌ، فعدُّ المغرب ههنا من الليل، والعصر من الطرف الآخر، باعتبارِ أَنَّ النَّهار الشرعي يبتدأُ من طلوع الفجرِ، لا من طلوع الشمس، وينتهي بالعصر لا بالغروبِ، على خلافِ النَّهارِ العُرفي، والصَّلاةُ بعدها مكروهةٌ، فينسد الدفتر فينبغي أَنْ تعتبَر العصرُ آخرًا بهذا الاعتبار أيضًا.
قوله: (تركناهم وهم يصلون
(1)
) وهل الملائكة يقتدون في الفجر أو لا؟ فلي فيه تردد ففي «الموطأ» لمالك رحمه الله تعالى عن سعيد بن المسيب أنَّه كان يقول: «مَنْ صلَّى بأرضٍ فَلاةٍ صلَّى عن يمينِه مَلَكٌ وعن شمالهِ ملكٌ، فإِنْ أَذَّنَ وأَقَامَ الصَّلاة صلَّى وراءه مِنَ الملائكةِ أمثال الجبال انتهى. فيمكنُ أَنْ يُقال إِنَّ اقتداءهم إذا ثَبَتَ في صلاةٍ ثَبَتَ في جميع الصَّلوات إِلا أَنَّ قولَه تعالى: {إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] ليس بصريح في الاقتداء، لأن الشهودَ يمكن أَنْ يكون كما مَرَّ في قولها: «أليست تشهد عرفة» وقوله: «يشهدن دعوة المسلمين» . ولذا بَحَثْتُ هناك أَنَّ الشهود يُطْلَق على غير الاقتداء أيضًا، وكذا قوله في الجمعة:«إذا قَعَدَ الإِمامُ على المنبر طووا الصحف وجلسوا يستمعون الذكر» . لأنَّه ليس فيه ذِكْر اقتدائهم، فإِنْ كان إطلاقُ الشهودِ على مطلق الحضُور فقولهم: تركناهم وهم يصلون، ظاهر. وإِنْ كان على الاقتداء فلا يَصْدق قولهم إلا باعتبارِ الجنس يعني تركنَاهُم أي الذين ما كنَّا مقتدين بهم دون الذين اقتدينا بهم أو يُحْمَل على المَسْبُوقِ وغيرهم.
قلتُ: ولي ههنا إشكالٌ آخر في عبارة البخاري وهو أَنَّه لِمَ خَصَّصَ الحديث المذكور بترجمةِ فَضْل العصر مَعَ اشتمالِهِ على فَضْل الفجر أيضًا، ثُمَّ إذا بَوَّبَ على فَضْل الفجر لَمْ يُخْرجه هناك، وتلا قوله تعالى:{إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} فلعلَّه حَمَلَهُ على فَضْل العصر فقط، لأَنَّ حُضُورَهم في الفجر يُمْكِنُ أَنْ يكون مَحْمُولا على كونِها طرفًا من النَّهار بخلاف العصرِ، فإِنَّ الحضور فيها لِفَضْلِها في نَفْسِها لا لكونها طرفًا من النَّهار، فإِنَّ طرفه في الحس هو المغرب، فلو حضروا من أجل كونِها طرفًا لحضروا في المغرب دون العصر
(2)
.
(1)
قُلتُ: وفي المقام أَبحاثٌ شريفة، ولطائف غريبة، ذكرها العيني فمن شاء فليرجع إليه.
(2)
ولا يَرِدُ عليه أنه قرر العصر فيما مر طرفًا، لأنهما نظران ومن ليس له نظر ليس عنده خبر ثم آخر ما سمعته في جوابه عنه أَنَّه بَوَّبَ عليه بفَضْلِ العصر دفعًا لما عَرَا لبعض العلماء مِنْ أَنَّ التعاقبَ لعلَّهُ يَخْتَص بالفجر، كما قال تعالى:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} فأشارَ الإِمام إلى دَفْعِ هذا التوهم، وبَوَّبَ عليه بفَضْل العصر، فالتعاقُب في الفجر ثابتٌ بالنَّص، وفي العصر بالحديث، ولذا لم يخرجه في باب الفجر، لأنَّ فضلها والتعاقب فيها كان ثابتًا بالنَّص، فاكتفى بقوله تعالى:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} .